قضايا وآراء

أحمد طالب الإبراهيمي.. ضمير الجزائر وصوتها الحر

لم يكن الإبراهيمي معارضاً بالمعنى الحزبي، بل كان ضمير الوطن الناقد، يرفض الاستبداد بقدر ما يرفض التبعية، ويؤمن أن السلطة الحقيقية لا تستمد مشروعيتها إلا من الشعب. وكالة الأنباء الجزائرية..
برحيل الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، تطوي الجزائر صفحة من صفحات جيلها النبيل الذي جمع بين الفكر والسياسة، بين القيم والعمل، بين الصدق والإيمان العميق بالوطن. لقد عاش الإبراهيمي كما أراد، نظيف اليد واللسان، عفّ النفس، صادق الكلمة، ثابت الموقف حتى اللحظة الأخيرة.

ولد أحمد طالب الإبراهيمي سنة 1932 بمدينة سطيف، في بيتٍ من بيوت الريادة الوطنية والفكر الإسلامي، فهو نجل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، أحد مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ورفيق الإمام عبد الحميد بن باديس في مشروع النهضة الثقافية التي سبقت الثورة. كان الشيخ البشير الإبراهيمي علماً من أعلام الإصلاح والبيان، قاوم الاستعمار بالقلم والخطبة، ودعا إلى إحياء اللغة العربية والهوية الإسلامية. في هذا البيت تشكّلت شخصية أحمد طالب الأولى، وتشرّب قيم الاستقامة والحرية والعزة، مؤمناً بأن خدمة الوطن عبادة، وأن الكلمة مسؤولية.

درس الطب في جامعة الجزائر، ثم واصل تعليمه في فرنسا حيث انخرط في صفوف الطلبة الجزائريين المناضلين ضد الاستعمار الفرنسي. اعتُقل سنة 1956 بسبب نشاطه السياسي، لكنه خرج من السجن أكثر ثباتاً وإصراراً على مواصلة النضال من أجل استقلال الجزائر. وبعد التحرير، انخرط في مشروع بناء الدولة الوطنية، فكان من أوائل من حملوا همّ التعليم والثقافة في الجزائر الجديدة.

تولى الإبراهيمي مناصب وزارية عدة: فكان وزيراً للتربية الوطنية، ثم وزيراً للإعلام والثقافة، وأخيراً وزيراً للشؤون الخارجية. في كل موقع، ظل متمسكاً برؤيته القائمة على أن النهضة تبدأ من التعليم، وأن هوية الجزائر لا تُصان إلا بلغتها وثقافتها الأصيلة. كان يقول دائماً: "لا يمكن لشعبٍ أن يكون حراً إن لم يتحرر عقله أولاً"، وهي عبارة تلخّص مساره كله بين الفكر والسياسة.

ورغم المناصب الرفيعة التي تقلّدها، لم يبع الإبراهيمي ضميره يوماً، بل كان من القلائل الذين اختاروا الانسحاب من دوائر السلطة حين شعر أن مسارها انحرف عن مبادئ الثورة. رفض الانخراط في لعبة الولاءات، وابتعد عن المناصب الرسمية منذ التسعينيات، مفضلاً موقع المفكر الحر على موقع المسؤول المقيّد. وفي إحدى رسائله الشهيرة قال: "لقد اخترت أن أعيش على الهامش بشرف، خير لي من أن أكون في المركز بثمنٍ من الكرامة".

خلال "العشرية الدموية" التي عصفت بالجزائر في تسعينيات القرن الماضي، ظل الإبراهيمي صوت الحكمة والعقل، يدعو إلى الحوار والمصالحة ورفض العنف من أي جهة صدر. وفي بيان مشترك سنة 2019 مع شخصيات وطنية، دعا إلى انتقال ديمقراطي سلمي وإلى "استعادة روح نوفمبر"، مؤكداً أن الجزائر بحاجة إلى مشروع جامع "يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار".
خلال "العشرية الدموية" التي عصفت بالجزائر في تسعينيات القرن الماضي، ظل الإبراهيمي صوت الحكمة والعقل، يدعو إلى الحوار والمصالحة ورفض العنف من أي جهة صدر. وفي بيان مشترك سنة 2019 مع شخصيات وطنية، دعا إلى انتقال ديمقراطي سلمي وإلى "استعادة روح نوفمبر"، مؤكداً أن الجزائر بحاجة إلى مشروع جامع "يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار".

لم يكن الإبراهيمي معارضاً بالمعنى الحزبي، بل كان ضمير الوطن الناقد، يرفض الاستبداد بقدر ما يرفض التبعية، ويؤمن أن السلطة الحقيقية لا تستمد مشروعيتها إلا من الشعب. في أحد تصريحاته قال: "الجزائر وُلدت من رحم المقاومة، ولن تموت بالاستبداد. سيظل فيها دائماً من يذكّر بالحرية والعدل، ولو بالكلمة وحدها".

ترك الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وراءه إرثاً غنياً من الكتب والمذكرات، من أبرزها مؤلفه "في قلب المعركة" و"مذكرات جزائرية" التي قدّم فيها شهادات نادرة عن الثورة وبناء الدولة، وتحليلات عميقة للعلاقات العربية والدولية من منظور جزائري مستقل. كان مفكراً يؤمن بأن الثقافة ليست ترفاً بل شرطاً من شروط النهضة، وبأن المثقف لا بد أن يظل على مسافة من السلطة كي يحافظ على صدقه.

رحل أحمد طالب الإبراهيمي في صمت الكبار، تاركاً خلفه سيرة رجلٍ عاش في خدمة وطنه لا في خدمة نفسه، وترك للأجيال نموذجاً نادراً في النزاهة الفكرية والكرامة السياسية. سيبقى في ذاكرة الجزائر رمزاً للوطنية الواعية، والمثقف الذي لم يساوم على حريته، والطبيب الذي ظلّ يداوي جراح وطنه بالكلمة والفكر والأمل.

"قد يغيب الجسد، لكن الأفكار لا تموت، لأن الجزائر أكبر من كل الزائلين".. أحمد طالب الإبراهيمي
رحمه الله وجزاه عن الجزائر خير الجزاء..