كتاب عربي 21

عام أول لأحمد الشرع في سوريا: المنجز والمؤمل

نور الدين العلوي
"يدخل الشرع عامه الثاني بضمانات الفلاح في العام الأول، يدخل ومعه شيء لم تعرفه سوريا منذ زمن طويل، فسحة سياسية يمكن البناء عليها"- سانا
"يدخل الشرع عامه الثاني بضمانات الفلاح في العام الأول، يدخل ومعه شيء لم تعرفه سوريا منذ زمن طويل، فسحة سياسية يمكن البناء عليها"- سانا
شارك الخبر
يُتم أحمد الشرع سنته الأولى في قيادة سوريا بعد أن نجح في قيادة ضربة الإجهاز على نظام بشار الأسد. كانت ضربة موفقة بالمنطق العسكري، فجلبت له زعامة ومهدت لأسلوبه في الإدارة ما بعد الثورية. ونستشعر هذا الأسلوب في الكثير مما تابعنا من تحركات وقرارات، وإن كنا نرى أيضا ولكن من خارج سوريا؛ روح فريق حكومي متجانس.

بعد حول من الانتصار؛ من الممكن استخلاص ملامح مسار سياسي لا يقوم على البطولة الفردية ولا على الشعارات الانفعالية، بل على هندسة بطيئة لموازين القوة في الداخل، وعلى إدارة دقيقة لمسافات الإقليم المتشابكة. الهدف هنا ليس تحويل التجربة إلى نجاة معجزة أو سردية انبعاث، بل الوقوف عند ما تحقق فعليا، وما بقي معلقا، ثم النظر إلى العام الثاني لا كتوقع احتفالي بل كسؤال مفتوح حول قابلية هذا المسار للاستمرار.

السياسات الداخلية.. من إدارة الفراغ إلى توسيع هوامش الفعل
تجربة الحول أوقفت الانهيار وخلقت شبكة مصالح تجعل عودة الحرب أقل احتمالا. وهذه نجاحات أخذت في مواضع أخرى عقودا كاملة، غير أن الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي ما زال هشا ويمكن وصفه الآن بالتوزان القلق،

لم يتحقق الاستقرار في العام الأول، بل تستمر فترة إعادة تركيب هيكل الدولة بعد انهيار طويل. لقد تبين أن تحويل الفراغ السيادي من تهديد إلى إطار تأسيسي كان الملمح الأكثر وضوحا، أي أن السلطة لم تُبنَ على أنقاض النظام السابق عبر الاجتثاث، وإنما عبر إعادة العقلنة التدريجية للمؤسسات. فالجيش، مثلا، لم يُهدم ولم يُعد إنتاجه على الولاء الشخصي، بل جرى توجيهه نحو وظيفة وطنية أكثر منها أيديولوجية. تراجعت نزعة تقديس القيادة لصالح منطق الانضباط والمصلحة الأمنية، وتم التعامل مع ضباط المرحلة السابقة بمنهج التفكيك البطيء وليس القطع الفجائي. وقد حمت هذه سياسة الدولة والمجتمع من الانتقام، ولو أنها لا تضمن على المدى البعيد قطيعة كاملة مع شبكات الماضي. لقد لاحظنا كمون البعثيين بعد حل حزبهم، وهو كمون ذكرنا بكمون منتسبي حزب بن علي في تونس (تفويت المرحلة ومعاودة الظهور بأسماء ديمقراطية).

في الإدارة المدنية برزت اللا مركزية الحذرة بوصفها حجر الأساس في منع انفجار المجتمع السياسي. احتفظت المدن الكبرى بسلطات واسعة في الخدمات والاقتصاد البلدي، وأعيد تفعيل المجالس المحلية دون منحها القدرة على تحدي المركز. إنها لا مركزية تمنح الأطراف مساحة تنفّس، لكنها لا تمنحها القدرة على تقرير المصير. هل هي بذور ديمقراطية مباشرة على طريقة الكانتونات السويسرية تزرع الآن لتكون قاعدة الإدارة المستقبلية؟ هنا ننتظر ونرى.

في المسألة الكردية نال الأكراد ما يمكن تسميته بـ"إدارة الأمر الواقع" ضمن إطار وطني لا يسمح بالانفصال لا سلما ولا حربا، ونرى سلاح قسد يتحول إلى عبء عليها في المدى المنظور.

أما الإسلاميون المعتدلون وخاصة حركة الإخوان المسلمين فقد أُدخلوا في العملية السياسية دون تحويلهم إلى قطب موازٍ أو مستقل. أما النخب الليبرالية فهي تستعيد تدريجيا أدوات الصحافة والتنظيم المدني دون أن تملك (أو تقترح من عندها) إلى الآن الضمانات الكافية لحرية مؤسساتية مستقرة. ومتابعتنا للسوشيال ميديا السورية تكشف مناخ حريات واعد لا يخلو من ضوابط أخلاقية قد يتجاوز بها حالة الانفلات التي عرفتها تونس ومصر.

مثّل الاقتصاد التحدي الأثقل للشرع، فقد اعتمدت الحكومة اقتصاد السوق المراقب، أي السماح بالتداول والاستثمار مقابل سقف رقابي يحول دون عودة الأوليغارشيا القديمة. رجال الأعمال العائدون بتمويل خليجي وتركي مشروط وجدوا في السوق السوري هامش ربح مريح، فيما وضعت الدولة يدها على مفاصل الطاقة والموارد السيادية. هذه المعادلة ليست نهائية، لكنها تمنح الدورة الاقتصادية قدرة أولية على التنفس. يبقى السؤال الأخطر: هل تتحول الفسحة الحالية إلى نموذج تنمية أم تظل مرحلة انتقال هشّ قد ينقلب سريعا تحت أي ضغط سياسي أو أمني؟ مشروع ديمقراطية مباشرة مع اقتصاد موجه أو شبه عمومي؟ كأننا نرى خطين متقاطعين، وسيكون الأمر بين يدي الصنائعي والتاجر السوري لتوضيح المسار مستقبلا.

تجربة الحول أوقفت الانهيار وخلقت شبكة مصالح تجعل عودة الحرب أقل احتمالا. وهذه نجاحات أخذت في مواضع أخرى عقودا كاملة، غير أن الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي ما زال هشا ويمكن وصفه الآن بالتوزان القلق، خصوصا أن عودة اللاجئين لم تكتمل، وأن الطلب على الترميم وإعادة الإسكان ليس أمرا هيّنا.

السياسات الخارجية: التوازن كآلية بقاء لا كخيار تجميلي

في الإقليم، تصرّفت سوريا الجديدة كدولة تعرف أن فائض الشعارات لا يحمي الحدود، وأن الاصطفاف الحاد يُفقر الخيارات بدل أن يوسعها، لذلك جاءت السياسة الخارجية مبنية على توزيع المسافات لا على التحالف الأحادي. وهذه الحركات الأنجع في بناء السياسات الخارجية.

بنى الشرع العلاقة مع تركيا على أساس شراكة مشروطة، لا تبعية. ففي البداية بدا الشرع أقرب إلى أنقرة مما يريده الشارع السوري (والعربي)، لكن العلاقة لم تسر في اتجاه الانحناء. فقد احتاجت دمشق إلى دعم لوجستي وتجاري لإعادة الإعمار، واحتاجت تركيا إلى ضبط الملف الكردي على حدودها. غير أن الشرع لم يمنح تفويضا مطلقا؛ بل سحب تركيا تدريجيا نحو قبول تسوية بطيئة تعترف بالأكراد كمكون سياسي سوري ولكن بلا سلاح عابر للحدود. وهكذا تحوّلت التبعية التكتيكية إلى شراكة مراقبة؛ ضمنت تركيا أمن حدودها الشرقية دون حرب، واحتفظت سوريا بحق صياغة المسألة الكردية وفق رؤيتها الداخلية. (ونرى في حالة التفاوض السوري التركي خلال العام الأول لشرع نموذجا مدرسيا للتفاوض المرير بين المتفقين أو الإخوة، فلا يجور القوي منها على الضعيف ويكسبان).

أما مع بلدان الخليج، فقد غلب الشرع الحياد الفعّال على الانحياز المحوري، لقد نجح في تجنب فخّ المحاور. فلا اندماج كاملا، بل علاقات مفتوحة تتيح الاستثمار دون ارتهان. اكتفى الشرع وحكومته بمنع التحول إلى ساحة تنازع خليجي- خليجي، فربحوا شيئا بالغ الأهمية وهو عدم وجود فيتو ضدهم، وهذا في السياسة العربية مكسب لا يقل وزنا عن الدعم المباشر. الشرع الآن مع كل الخليج وليس مع أحد، ولا أحد في ما نرى يعاديه، ونرى هذا نجاحا ديبلوماسيا غير معتاد عربيا.

أما العلاقة مع العدو فقد أديرت بمنهج مختلف عن كل النظام العربي، فلا هرولة إلى التطبيع ولا شروع في رمي إسرائيل في البحر. من الواضح أن الرجل وفريقه يملكون شرعية حكم غير التطبيع أو الجعجعة، لم يرتبك الشرع أمام المزايدات بالتطبيع والخضوع للإملاءات الأمريكية، فلم يذهب نحو حرب لا طاقة له بها، ولم يقدّم تطبيعا سريعا ينسف شرعيته الأخلاقية والسياسية.

لا تفاوض سياسيا نهائي، وتجميد للملف دون دفنه، أي هدنة غير معلنة تحمّل فيها الاستفزازت وكظم الكثير من حماس أنصاره أيضا؛ هذه ليست سياسة سلام ولا استسلام ولا سلوك مقاومة، بل محاولة لإبقاء الباب مفتوحا دون خسارة الداخل أو الخارج، إنها سياسة بأعصاب هادئة تُرجئ السؤال بدل أن تجيب عنه، لكنها تمنح الدولة وقتا هي بحاجة إليه، والوقت مطلب الشرع ويحتاج منه الكثير في هذه المرحلة.

السياسة الخارجية ليست شبكة أمان نهائية، بل ساحة متحركة يمكن أن تضيق مثلما يمكن أن تتسع. العام الثاني للشرع لن يكون نزهة ديبلوماسية

وجب أن نذكر هنا بأن الحديث عن فلسطين في سوريا يذكّر بخمسين سنة من نظام البعث؛ صوردت فيها حياة السوريين باسم فلسطين، ونظن أنه من الذكاء السياسي أن لا تسبق حاجة فلسطين حاجة سوريا في هذا الظرف، والشرع في ما نرى يوازن بين الأمرين، ليدخل عامه الثاني كمن يسير على زجاج مكسور لكنه يعرف أية وجهة يتجه.

العام الثاني: احتمالات مفتوحة لا وعود محققة

يدخل الشرع عامه الثاني بضمانات الفلاح في العام الأول، يدخل ومعه شيء لم تعرفه سوريا منذ زمن طويل، فسحة سياسية يمكن البناء عليها. يحتاج الداخل السوري إلى إصلاح قضائي أعمق، إلى تحرير أوسع للمجال الإعلامي، وإلى جسر أوضح بين المركز والأطراف. أما الاقتصاد فلا يكفيه التنفس؛ يحتاج إلى رؤية إنتاج، لا إلى إعادة تدوير الاستثمارات في البناء والخدمات فقط.

في الإقليم، يدين الاستقرار الحالي لميزان ليس ثابتا، فالكيان لا يتوقف عن الاستفزاز وقضم الأراضي، والقوى الدولية وإن تظهر المودة لسوريا فهي تتصارع على موقع سوريا الاستراتيجي في المنطقة. إن السياسة الخارجية ليست شبكة أمان نهائية، بل ساحة متحركة يمكن أن تضيق مثلما يمكن أن تتسع. العام الثاني للشرع لن يكون نزهة ديبلوماسية، فكيف تبني شراكات مع الأمريكي والروسي والصيني في وقت واحد؟ قد نتابع في سوريا درسا عبقريا في صناعة التوازنات لا اللعب على التناقضات على طريقة الأسدين.

ومع ذلك، يبقى تقدير اللحظة قائما على أن ما تحقق في العام الأول ليس نصرا سياسيا تاما، لكنه إيقاف للانهيار وبناء قاعدة متماسكة صالحة للوقوف. إذا كان العام الأول عام تثبيت الضرورة، فإن العام الثاني سيكون عام اختبار الإرادة والصبر والذكاء. حتى الآن رأينا علامات على حسن إدارة وضع انتقالي في أكثر البلدان العربية تنوعا إثنيا وعقائديا، وأكثرها خرابا عمرانيا وسياسيا. هل سيكون الشرع زعيم الأمة؟ من خارج سوريا رأيت فريقا سياسيا يعمل متماسكا ويحقق مكاسب لشعبه، وهذه تكفيني لأتابع العام الثاني من العمل.
التعليقات (0)