منذُ اللحظة الأولى لوجود الإنسان في هذا الكون، برزت ثنائية الخير
والشر بوصفها محرّكا مركزيا للتاريخ البشري. ورغم أنه لا يمكن الادّعاء ـ معرفيا
ولا دينيا ـ أنّ الشرّ أقوى من الخير أو أقدر منه على "الإنجاز"، فإنّ
الوقائع التاريخية تكشف أنّ الشرّ كان في كثير من الأحيان أسبق إلى الفعل. وهنا
تطرح الإشكالية الأساسية نفسها: هل تفوّق الشرّ عبر التاريخ لأنّه يملك أدوات
أكثر، أم لأنّ الخير يصرّ على العمل ضمن حدود معيارية قد تقيّده بينما يتحرّر
الشرّ من أي التزام قيمي؟
قبل أن يدوّن ميكيافيلي تأمّلاته المشهورة بقرون، كان سلوك القوى
الطاغية يؤكّد أنّ الوسيلة، في نظرها، خادمة مطلقة للغرض، وأنّ أي التزام أخلاقي
ليس سوى عبء على تحقيق الهيمنة. هذه الملاحظة تفتح سؤالًا آخر: هل يمكن للخير أن
ينتصر دون أن يتخلّى عن قيمه؟ وإن كان متمسّكا بأخلاقه، فكيف يواجه خصما لا يعترف
بأي ضابط؟
هل المقاومة فعل تاريخي ينتهي بتحقّق هدفه، أم أنّها تجسيد دائم لـ"فلسفة الحقّ" و"فلسفة العدل" التي لا تموت؟ وهل الخلود قيمة رمزية تُمنح للمقاوم من خارج ذاته، أم أنها المعنى الذي يصنعه هو حين يرفض الاستسلام مهما اختلّ ميزان القوة؟
أمام جبروت الشرّ وهيمنته، وجد أهل الخير أنفسهم تاريخيا أمام مفترق
طرق؛ فبعضهم انكفأ إلى الذات، مستسلما أو معتزلا، منشغلا بتدبير شؤونه الخاصة
الروحية والمادية. وقد شهد التاريخ الإسلامي نماذج من العلماء والنسّاك الذين
اكتفوا بالحفاظ على جوهر الدين من خلال التربية والتعليم، معتبرين أن مواجهة الظلم
المباشر ليست من وظيفتهم أو أن شروطها لم تنضج بعد. ومع ذلك يبقى السؤال قائما: هل
يُعَدّ هذا الاعتزال خيارا واقعيا أم هروبا "مؤدلجا"؟ وهل يكفي الحفاظ
على جوهر الدين دون خوض غمار الجهاد العملي الذي اختاره الأنبياء طريقا للتغيير؟
على النقيض من هذا الاتجاه الانعزالي، يقف التاريخ شاهدا على نماذج
إنسانية ـ من مختلف الثقافات والأديان ـ رفضت منطق الاستسلام. هؤلاء الرجال، كما
تُجمع الروايات التاريخية، لم يكونوا محكومين بالتوازنات المادية للقوة بقدر ما
كانوا ملتزمين بميزان كرامتهم الإنسانية. وقد بدا خيارهم، في منظور بعض النقّاد،
ضربا من الرومانسية السياسية أو المثالية الأخلاقية، لكنّ هذا الوصف يطرح بدوره
سؤالا مهما: هل المثالية فعل هشّ أم أنها، في لحظات معيّنة، القوة الوحيدة القادرة
على إحياء الضمير الجمعي؟
في هذا السياق، تبرز تجربة "سبارتكوس" مثالًا كلاسيكيا
للتمرّد الأخلاقي ضدّ بنية ظلم جبّارة؛ فقد كان الرجل يدرك أنّ معركته غير
متكافئة، ومع ذلك اختار
المقاومة، وانتصر رمزيا رغم هزيمته العسكرية. وعندما يحتفي
الجميع، والغرب نفسُه، بهذه التجربة ـ أدبا وسينما وبحثا ـ فإننا نواجه سؤالا
جوهريا: ما الذي يمنح لحظة مقاومة فاشلة عسكريا قدرة على التحول إلى رمز أخلاقي
خالد؟
إنّ منطق المُقاومِ، ليس هو منطق السياسي، ولا المفكّر؛ السياسي يوازن، والمفكّر يحلّل، أما المقاوم فيعيش فعل المقاومة بوصفه هوية لا وظيفة. ولذلك فإنّ فكرة الاستسلام ليست واردة ضمن "منظومته المعرفية"، ليس لأنها غير عقلانية، بل لأنها تتعارض مع معنى وجوده نفسِه؛
لم تتوقف الإنسانية أبدا على تخليد أسماء قادة رفضوا الاستسلام: عبد
القادر الجزائري، عمر المختار، محمد عبد الكريم الخطابي، أحمد ياسين، سيمون
بوليفار، تشي غيفارا… وغيرهم ممّن تحوّلوا إلى رموز يتردّد ذكرها كلما احتاج
الإنسان إلى استعادة معنى الكرامة. والمفارقة أنّ معظم هؤلاء خسروا المعارك
المادية، لكنهم ربحوا "معركة الرموز" و"معركة الأخلاق". وهذا
يجرّنا إلى سؤال بالغ الأهمية: هل معيار الانتصار في التاريخ هو السيطرة
الميدانية، أم القدرة على إلهام الأجيال وصناعة المعنى؟
في مقابل هذه الرّؤية، يزداد حضور أصوات ـ بعضها من داخل الصفّ
المقاوم فكريا أو وجدانيا ـ ترى أن الأفق المسدود أو كلفة المواجهة قد يُحتّمان
على الفصائل أن "تعلن نهاية مهمتها" وأن تضع العبء في "حِمل
الأمة". ويبدو هذا الطرح عقلانيا من وجهة نظر سياسية، لكنه يواجه تعقيدا
جوهريا: هل تمتلك المقاومة، بوصفها تجربة وجودية قبل أن تكون مؤسسة عسكرية، الحق
في إعلان الاستسلام؟ وهل الاستسلام خيار سياسي أم خيار وجودي لا يتناسب أصلا مع
تعريف المقاوم لذاته؟
إنّ منطق المُقاومِ، ليس هو منطق السياسي، ولا المفكّر؛ السياسي
يوازن، والمفكّر يحلّل، أما المقاوم فيعيش فعل المقاومة بوصفه هوية لا وظيفة.
ولذلك فإنّ فكرة الاستسلام ليست واردة ضمن "منظومته المعرفية"، ليس
لأنها غير عقلانية، بل لأنها تتعارض مع معنى وجوده نفسِه؛ فهو لا يرى في المقاومة
مجرد معركة مرحلية، بل طريقا إلى الخلود؛ خلودٍ دنيويٍّ من خلال الذاكرة الجمعية،
وأخرويّ ـ بالنّسبة للمؤمن ـ من خلال الوفاء للمبدأ المؤدّي إلى أعالي الجنّة.
وهكذا يظلّ السؤال الأكبر مفتوحا أمام الباحثين والمفكرين: هل
المقاومة فعل تاريخي ينتهي بتحقّق هدفه، أم أنّها تجسيد دائم لـ"فلسفة
الحقّ" و"فلسفة العدل" التي لا تموت؟ وهل الخلود قيمة رمزية تُمنح
للمقاوم من خارج ذاته، أم أنها المعنى الذي يصنعه هو حين يرفض الاستسلام مهما
اختلّ ميزان القوة؟
إنّ هذا الإستشكال العميق هو ما يجعل المقاومة، في نظر الكثيرين،
الطريق الأمتن نحو خلود الإنسان وقيمه، مهما تغيّرت موازين القوى وتبدّلت الوقائع.
*باحث من المغرب