قضايا وآراء

الشّرعيةُ المأزومة وانعكاساتُها على موقف الأنظمة العربية من القضية الفلسطينية

عبد الهادي المهادي
إنّ وضع الأنظمة العربية، في تخلّيها عن فلسطين، وفي مواجهتها الخفية أو المعلنة للمقاومة، وفي ارتهانها للخارج، وفي سعيها المستمر لإعادة إنتاج شرعية متآكلة، يكشف عن تناقض وجودي تعيشه السياسة العربية المعاصرة.. الأناضول
إنّ وضع الأنظمة العربية، في تخلّيها عن فلسطين، وفي مواجهتها الخفية أو المعلنة للمقاومة، وفي ارتهانها للخارج، وفي سعيها المستمر لإعادة إنتاج شرعية متآكلة، يكشف عن تناقض وجودي تعيشه السياسة العربية المعاصرة.. الأناضول
يبدو من المُتعذّر الحديث عن موقع الأنظمة العربية من القضية الفلسطينية دون الوقوف على ذلك القدر الكبير، والتّدريجي، من التخلّي الذي مارسته هذه الأنظمة، تَخَلٍّ لا يمكن وصفه بمجرد الإهمال أو اللامبالاة، بل يثير سؤالا ملحًّا، تدعّمه الوقائع، حول ما إذا كان ينبغي تسميته ـ في حقّ بعضها ـ خيانة صريحة، لا سيما حين يتضح أنّ هذا التخلّي لم يكن عارضا أو مرتبطًا بظرف سياسي معيّن، بل هو توجّه ثابت يشترك فيه أولئك البعض.

ويزداد هذا التساؤل حدّة حين نلاحظ أنّ هذه الأنظمة ليست فقط بعيدة عن دعم المقاومة الفلسطينية، بل تبدو في كثير من الأحيان وكأنّها تسعى إلى القضاء عليها: فكرة قبل أن تكون تنظيما. فهل يعود ذلك إلى أنّ استمرار المقاومة يشكّل إحراجا لها أمام شعوبها؟ أم لأنها تشعر بأنّ بقاء نموذج مقاوم يفضح هشاشة شرعيتها ويُظهر الفارق الحاد بين من يقاوم ومن يبرّر العجز؟ إنّ هذا الهاجس الوجودي يجعل بعض الأنظمة لا تتردد في الانخراط ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ في ما يمكن تسميته بـ "الجهد الحربي ضد الشعب الفلسطيني"، سواء عبر الصمت الذي يتحوّل أحيانا إلى مشاركة ضمنية، أو عبر التطبيع، أو عبر تسهيلات لوجستية واقتصادية تتقاطع مع مسار الحصار والضغط.

لماذا يبدو المستقبل مفتوحا على احتمالات كثيرة يصعب التنبؤ ببعضها ويستحيل في حقّ أخرى، بينما يصبح الماضي ـ بمجرد تحوله إلى مادة تاريخية ـ قابلا للتحليل والتفسير وكشف العوامل التي لم تكن ظاهرة أثناء وقوع الحدث؟
ويفتح هذا الواقع بابا لإشكال أكبر يتعلّق بوعي هذه الأنظمة بضعف عمقها الشعبي؛ فهل تخشى فعلا من لحظة قد تجد فيها نفسها في مهبّ الريح، بعدما صار وجودها السياسي غير مبنيّ على قاعدة اجتماعية صلبة؟ إنّ محاولاتها المستمرة لتأصيل شرعيتها عبر روايات النسب الشريف، أو الامتداد التاريخي، أو الشرعية الثورية، أو أولوية الاستيلاء على الحكم، تثير سؤالا آخر: هل لم تعد هذه الأسس قادرة على إقناع الإنسان المعاصر الذي بات يطالب بشرعية ديمقراطية فعلية تقوم على المشاركة والفعل السياسي؟ الواقع يشير إلى أن هذه الأنساق التقليدية فقدت قيمتها ضمن بنية الاجتماع السياسي الحديث، وأنّ التمسك بها لم يعد سوى محاولة لشراء الوقت وتأجيل مواجهة حتمية مع سؤال الشرعية الحقيقي.

وفي ظل هذا الضعف البنيوي، يصبح الارتهان للخارج خيارا إلزاميا، أو شبه إلزامي، بالنسبة لهذه الأنظمة؛ إذ تبحث عن سند تتكئ عليه في لحظات الأزمة. لكن، هل يمكن أن تُبنى علاقة قوة غير متوازنة كهذه من دون أن تتحول إلى تبعية؟ إنّ القوى الدولية التي تمنح الغطاء لا تفعل ذلك بلا مقابل، بل تضع شروطا تتجاوز أحيانا حدود العلاقات الدبلوماسية العادية، حتى تصبح هذه الشروط ـ مع مرور الوقت وتعاقب التنازلات ـ أشبه بتعليمات، وربما أوامر صريحة، تُدلى في غرف مغلقة أو، بجرأة أكبر، أمام الكاميرات دون أي حرج. فهل تستطيع الأنظمة العربية فعلا رفض هذه الإملاءات، أم أنها أصبحت، بحكم هشاشتها الداخلية، غير قادرة على ذلك أصلا؟

ورغم أن هذا الوضع يبدو مستقرا في لحظته الراهنة، إلا أنه يحمل في داخله عناصر انهياره؛ فالتجارب التاريخية تُظهر أنّ الأنظمة القائمة على التوازنات الخارجية بدل الاستناد إلى شرعية داخلية صلبة لا يمكن لها أن تستمر طويلا. ولذا فإنّ السؤال اليوم لا يتعلق بكون هذا الوضع سيتغير أم لا، لأنّ بقاءه الدائم غير ممكن، بل يتعلّق بكيف سيحدث هذا التغيير ومتى.

وهنا تتولد إشكالية معرفية: لماذا يبدو المستقبل مفتوحا على احتمالات كثيرة يصعب التنبؤ ببعضها ويستحيل في حقّ أخرى، بينما يصبح الماضي ـ بمجرد تحوله إلى مادة تاريخية ـ قابلا للتحليل والتفسير وكشف العوامل التي لم تكن ظاهرة أثناء وقوع الحدث؟ هل لأنّ المؤرخ يمتلك مسافة زمنية تمكّنه من رؤية ما كان مستورا عن الفاعلين في حينه؟ أم لأنّ العلوم الاجتماعية تجد نفسها عاجزة أمام حركية الواقع حين يكون حيّا وفاعلا، لكنها تتظاهر بالقدرة على الفهم عندما يصبح ذلك الواقع منغلقا ومكتملا؟

وتنعكس هذه الإشكالية بالضّرورة على دور المثقف نفسه؛ إذ هناك مَن يَطلبُ منه أن لا ينخرط في الأحداث، وأن يُحافظ على مسافة موضوعية منها، وأن لا ينحاز إلى حركيّتها، وكأنّ مقامه المعرفي يفرض عليه مراقبة المجريات دون أن يكون جزءا منها. لكن، هل يجوز للمثقف أن يظل متفرجا في لحظة تتشكل فيها معادلات جديدة، في وقت يعرف فيه بدقة القوى المحركة للأحداث؟ ولماذا يُنظر إلى مشاركته باعتبارها خروجا عن الموضوعية، بينما يحقّ لـ"السلطة" أن تتدخل بكل أدواتها بما فيها ذات الطبيعة العنفية؟ ألا يكشف هذا التناقض عن تسييج لدور المثقف ضمن حدود تسمح بقدر من "النقد اللفظي" دون أن يتحول إلى "فاعل اجتماعي"؟

إنّ اللحظة التاريخية الراهنة، بكل تعقيداتها، تفرض إعادة نظر جذرية في علاقة الأنظمة العربية بقضايا شعوبها، وفي مقدمتها ومركزها القضية الفلسطينية، التي لم تعد مجرد قضية تضامن ـ ولم تكن في يوم من الأيام كذلك ـ بل أصبحت معيارا لمدى قدرة النظام على تمثيل ضمير شعبه. ولعلّ أخطر ما تكشفه هذه اللحظة هو أنّ الشعوب، حتى لو ظهرت صامتة، لا تفقد أبدا إحساسها بـ"العدل"، وأنّ التاريخ، مهما بدا جامدا، لا يتوقّف.
إنّ وضع الأنظمة العربية، في تخلّيها عن فلسطين، وفي مواجهتها الخفية أو المعلنة للمقاومة، وفي ارتهانها للخارج، وفي سعيها المستمر لإعادة إنتاج شرعية متآكلة، يكشف عن تناقض وجودي تعيشه السياسة العربية المعاصرة؛ فكيف يمكن لنظام يخشى شعبه أن يتبنى قضية شعب آخر؟ وكيف يمكن لنظام يبحث عن شرعية خارجية أن يدعم فعلا تحرريا يناقض فلسفة القوة التي يستند إليها حلفاؤه؟ وكيف يمكن لمن يهاب التغيير أن يقف مع حركة مقاومتها جوهر التغيير ذاته؟ هذه الأسئلة لا تُطرح من باب المزايدة، بل من باب محاولة فهم بنية سياسية تبدو عالقة بين ماض لم يعد قادرا على منح الشرعية، وحاضر لا يستطيع تلبية متطلبات الدولة الحديثة، ومستقبل يُصرّ على أن يأتي، حتى لو تأخر.

إنّ اللحظة التاريخية الراهنة، بكل تعقيداتها، تفرض إعادة نظر جذرية في علاقة الأنظمة العربية بقضايا شعوبها، وفي مقدمتها ومركزها القضية الفلسطينية، التي لم تعد مجرد قضية تضامن ـ ولم تكن في يوم من الأيام كذلك ـ بل أصبحت معيارا لمدى قدرة النظام على تمثيل ضمير شعبه. ولعلّ أخطر ما تكشفه هذه اللحظة هو أنّ الشعوب، حتى لو ظهرت صامتة، لا تفقد أبدا إحساسها بـ"العدل"، وأنّ التاريخ، مهما بدا جامدا، لا يتوقّف.

لذلك، إذا كان الجميع لا يعرف متى وكيف ستحدث الانعطافات، كما سبق الذّكر، فإنّ المؤكّد هو أنّ القواعد التي بُنيت عليها شرعية كثير من هذه الأنظمة لم تعد قادرة على الصمود طويلا، وأنّ "لحظة إعادة التّأسيس" قادمة لا محالة، وحينها فقط سيتسابق المؤرخون لتحليل الأسباب، بينما يبقى السؤال: لماذا لم تُطرح هذه الأسئلة بجرأة أكبر حين كان الحدث ما يزال يتشكل، والأسئلة المقصودة هنا ـ طبعا ـ كان يجب أن لا تنفكّ عن الانتساب إليها والانحياز إلى جذورها؟

*باحث من المغرب
التعليقات (0)

خبر عاجل