قضايا وآراء

قبلة الأسير وموائد شرم الشيخ.. حين تنتصر الكرامة على بهرجة السياسة

عادل الحامدي
"الفرح الفلسطيني أصدق من كل تصفيق دبلوماسي حدث في شرم الشيخ"- جيتي
"الفرح الفلسطيني أصدق من كل تصفيق دبلوماسي حدث في شرم الشيخ"- جيتي
في تلك الصورة التي هزّت الوجدان العربي، انحنى الأسير المحرَّر ليقبّل قدم أمه. لم يكن مجرد ابنٍ يعود من غياب طويل، بل كان رمزا لجيل بأكمله خرج من ظلام الزنازين بخطوة بطيئة ولكن برأس مرفوع. كان وجهه شاحبا من أثر التعذيب، لكن يده كانت ثابتة وهو ينحني، لا خضوعا، بل اعترافا بأن الأم هي الوطن الأول والملاذ الأخير.

وفي اللحظة نفسها تقريبا، كانت الكاميرات تلتقط صورا أخرى: زعماء العالم في شرم الشيخ يجلسون حول طاولة دائرية، يوزعون البيانات الختامية كمن يوزع صكوك الغفران على الخراب. خلفهم بحر هادئ ومنتجعات مضاءة.. وأمامهم غزة تُطفئ أنفاسها الأخيرة تحت الركام.

قبلة الأسير كانت فعلا يفيض بالمعنى، بينما كانت مصافحات القادة في شرم الشيخ خاوية من الروح. هناك -على الأرض- أمٌّ تحتضن ابنها وتبكي كأنها تحتضن قبرا عاد للحياة. وهنا -في قاعات فندقية مكيفة- أمة كاملة تُختزل في "ملف إنساني" قابل للتفاوض

قبلة الأسير كانت فعلا يفيض بالمعنى، بينما كانت مصافحات القادة في شرم الشيخ خاوية من الروح. هناك -على الأرض- أمٌّ تحتضن ابنها وتبكي كأنها تحتضن قبرا عاد للحياة. وهنا -في قاعات فندقية مكيفة- أمة كاملة تُختزل في "ملف إنساني" قابل للتفاوض.

لقد اجتمعوا على أنقاض غزة، يتحدثون عن السلام بينما الدم لا يزال طريّا على حجارة المخيمات. عاد صليل السيوف إلى غمده لحظة واحدة، لكنهم لم يدركوا أن السيف العائد ليس استسلاما، بل هو التقاط أنفاس قبل جولة أخرى من التاريخ.

لم يكن الإفراج عن 20 رهينة إسرائيلي هو ما أثار دهشة الشعوب، بل المعادلة الفاضحة التي كشفت أرقامها عريَ الضمير العالمي: 20 مقابل 2000 أسير فلسطيني.

قالوا: "عودة الرهائن فرحة إنسانية". وقلنا: "عودة الأسرى الفلسطينيين مشاهد فرح مبللة بالدم والركام والدموع".

رهينة يعود إلى تل أبيب فتستقبله الشرفات المضيئة، أسير يعود إلى غزة فلا يجد إلا الأطلال، وبيتا صار سردابا، وأما إن بقيت حية فقد مات منها نصف الروح في طرقات السجن الطويلة.

ورغم ذلك، خرج الفلسطيني لا ليبكي، بل ليقول للعالم: نحن لا نُقاس بالأرقام، بل بالمعنى.

عشرون رهينة مقابل ألفي أسير؟ إذا هناك ألفان من الحكايات لم تُسمع بعد، وألفان من القلوب التي ستروي -كما روى هذا الأسير- كيف يُصنع الشرف خلف القضبان.

الفرح في غزة لم يكن لامعا ولا أنيقا، كان فرحا يخرج من تحت الأنقاض، يحمل في يده صورة شهيد وفي الأخرى يد أمٍ ترتجف. لم تُرفع الأعلام على منصات رسمية، بل رُفعت في الأزقة، على جدران مدمرة، بين أطفال يتامى وأمهات فقدن نصف ذريتهن في القصف.

لكن -وعلى الرغم من كل هذا الخراب- كان الفرح الفلسطيني أصدق من كل تصفيق دبلوماسي حدث في شرم الشيخ.

يظن العالم أن الحكاية انتهت بتلك الصفقة، وأن المشهد اكتمل. لكن الحقيقة أن التاريخ يبدأ من هنا، من قبلة أسير على قدم أم، من نظرة امرأة فقدت البيت والولد ولكنها لم تفقد اليقين.

..وتبقى الرسالة

الإنسان الفلسطيني لا يبحث عن شفقة، بل عن اعتراف بكرامته، أن الأم التي تُقبَّل قدمها على تراب غزة أصدق من كل بيانات الشرم السياسي المنعقد على شواطئ شرم الشيخ

تلك كانت الرسالة الأولى إلى العالم: أن الإنسان الفلسطيني لا يبحث عن شفقة، بل عن اعتراف بكرامته، أن الأم التي تُقبَّل قدمها على تراب غزة أصدق من كل بيانات الشرم السياسي المنعقد على شواطئ شرم الشيخ.

أما الرسالة الثانية، وهي الأهم، فهي موجهة إلى الداخل العربي والإسلامي؛ إلى الشعوب التي أنهكتها الخيبات، وإلى الأنظمة التي ظنت أن الهزيمة قدرٌ أبدي لا يُكسر. رسالة تقولها قبلة الأسير ببلاغة تفوق كل الخطب:

بين الحزن الراكع والموت الواقف أختار الموت
بين الصمت الهانئ والصوت الدامي
أختار الصوت
بينَ اللَّطْمَةِ والطَّلْقَةِ أختار الطلقة
بين السَّوْطِ وبينَ السَّيْف أختار السيف
هذا قدري

كما قال عبد العزيز المقالح، وكأنّه يكتب عن هذا الجيل الذي قرر ألا يموت جالسا في طوابير الانتظار، بل واقفا على أعتاب الحرية، ولو كانت الحرية شظية في يد أم وأثر قيد في معصم أسير.

هذه ليست نهاية المعركة، هذه لحظة استعادة المعنى، وهذه الأمة -التي تنحني للحب- فقط لا تُهزم.
التعليقات (0)