أفكَار

من الفكر إلى السلطة.. تجربة الثورة الإيرانية بين الدين والدولة

إن التجربة الإيرانية، من الانتصار على الشاه إلى تأسيس الجمهورية الإسلامية، تعلمنا درسًا مزدوجًا: أن التغيير الحقيقي لا يكتمل بالثورة وحدها.. جيتي
إن التجربة الإيرانية، من الانتصار على الشاه إلى تأسيس الجمهورية الإسلامية، تعلمنا درسًا مزدوجًا: أن التغيير الحقيقي لا يكتمل بالثورة وحدها.. جيتي
في ظل الانفجار الكارثي الذي يشهده قطاع غزة منذ أواخر العام 2023، حيث يموت البشر جوعًا وتُمحى المدن من على وجه الأرض، ويبدو التاريخ الحديث والمعاصر عاجزًا عن إيجاد سابقة للتدمير البشري المنهجي، تفرض هذه المأساة قراءة جديدة لتجارب الشعوب التي واجهت الاستبداد والاحتلال والتحديات الكبرى. فمن الجزائر إلى إيران، عبرت حركات التحرر الوطني عن إرادة الشعوب في كسر قيود القمع والهيمنة، مقدمةً دروسًا حول إمكانية تحويل الفكر إلى مشروع حياة وسيادة.

وفي هذا السياق، تأتي تجربة الثورة الإيرانية (1979-1989) كمثال حي على كيفية الانتقال من خطاب فكري وثقافي إلى دولة كاملة المؤسسات، قادرة على حماية نفسها ومشروعها. الثورة لم تقتصر على إسقاط الشاه، بل جسدت مرحلة تأسيسية، جعلت الدين رافعة سياسية ومصدراً للشرعية، وسعت لبناء مؤسسات تمثل صرحًا متكاملًا من الفكر إلى السلطة.

هذه القراءة التاريخية والفكرية، التي أقدمها ضمن سلسلة من المقالات الفكرية، لا تكتفي بسرد أحداث الماضي، بل تهدف إلى استخلاص مقومات النهوض العربي والإسلامي الممكنة، وتأسيس نمط تفكير جديد يتجاوز الانقسامات المذهبية والأيديولوجية، ويتركز على المشترك الحضاري والثوري. فالنموذج الإيراني، من الانتصار على الشاه إلى تأسيس الجمهورية الإسلامية، يطرح أسئلة جوهرية حول العلاقة بين الفكر والثورة، الدين والدولة، والمجتمع والسياسة، ليكون مرجعًا للتأمل والتطبيق في مسار النهوض المنشود للأمة.

الدين والدولة.. مأزق أو فرصة؟

تظل العلاقة بين الدين والدولة في العالم الإسلامي واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا وإشكالية في مسار بناء الدولة الحديثة. فالالتباس التاريخي لهذه العلاقة لم يكن يومًا واضحًا، منذ سقوط الخلافة العثمانية وقيام الدولة القومية الحديثة على النمط الأوروبي، حيث انفصلت السلطة السياسية عن المرجعيات الدينية، وحوصر الدين في المؤسسات التقليدية، بينما تولت النخب الحداثية صياغة التعليم والثقافة والقانون.

هذه القراءة التاريخية والفكرية، التي أقدمها ضمن سلسلة من المقالات الفكرية، لا تكتفي بسرد أحداث الماضي، بل تهدف إلى استخلاص مقومات النهوض العربي والإسلامي الممكنة، وتأسيس نمط تفكير جديد يتجاوز الانقسامات المذهبية والأيديولوجية، ويتركز على المشترك الحضاري والثوري. فالنموذج الإيراني، من الانتصار على الشاه إلى تأسيس الجمهورية الإسلامية، يطرح أسئلة جوهرية حول العلاقة بين الفكر والثورة، الدين والدولة، والمجتمع والسياسة، ليكون مرجعًا للتأمل والتطبيق في مسار النهوض المنشود للأمة.
لكن لماذا تبدو هذه العلاقة اليوم ملتبسة؟ يعود السبب جزئيًا إلى تراكمات تاريخية؛ فالفقه السياسي الإسلامي، في أصله، لم يُفترض أن يمارس في سياق دولة حديثة، بمعنى دولة ذات مؤسسات مستقلة، دستور مكتوب، ونظام انتخابي يتيح التداول على السلطة بين المختلفين. وعليه، عندما يُطبق الفكر الديني في سياق الدولة، يبرز السؤال: هل يمكن أن تتحول المرجعية الدينية إلى معيار للشرعية والسيادة من دون أن تصبح حكرًا على فئة محددة من الفقهاء أو القوى السياسية؟

يتعلق الأمر أيضًا بتصورات الإسلاميين عن الديمقراطية؛ فقد طرح بعض المدافعين عن النظام الديمقراطي الإسلامي فكرة أن المؤسسات الانتخابية يمكن أن تعمل بطريقة "محدودة المدة"، تُستخدم لمرة واحدة لتثبيت النظام، ثم يتحول الحكم إلى سلطة مطلقة باسم الدين. وهذه المخاوف ليست نظرية جامدة، بل مأخوذة من ممارسات بعض التجارب الواقعية، حيث تم استغلال الانتخابات لتعزيز سلطة حزب أو جماعة دينية، ثم تقييد التداول على الحكم باسم الحفاظ على مشروع الثورة أو حماية الشريعة.

ومن هنا ينبع القلق والجدية في هذا النقاش عندما يتعلق الأمر بالعالم الإسلامي: كيف يمكن إقامة دولة عادلة، تُتيح التداول على السلطة بين المختلفين، وتضمن الحقوق الأساسية لمواطنيها، من دون أن تتحول المرجعية الدينية إلى حاجز أمام الديمقراطية والمواطنة المتساوية؟ هل يمكن الفصل بين القيم الدينية وآليات الحكم الحديثة بطريقة تسمح للدين أن يوجّه القيم دون أن يتحكم في كل التفاصيل السياسية والإدارية؟

إن الثورة الإيرانية تقدم نموذجًا حيًا لهذا النقاش. فولاية الفقيه تمنح الفقيه الأعلى سلطة شاملة على الدولة، بما في ذلك الرقابة على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتدمج الدين مباشرة في صلب الحكم. هنا، يظهر التحدي الأساسي: كيف يُترجم الفكر الديني إلى حكم عادل، وما هي الحدود التي يمكن وضعها لضمان أن لا تتحول السلطة إلى استبداد؟

وبهذا، تصبح مسألة العلاقة بين الدين والدولة في العالم الإسلامي قضية محورية لا يمكن تجاوزها في أي نقاش عن النهضة أو بناء الدولة الحديثة. فهي ليست مجرد جدل نظري، بل مسألة حياة أو موت في عالم يعيش اليوم في مواجهة صراعات فكرية وسياسية واقتصادية، حيث يُختبر مدى قدرة المجتمعات على التوفيق بين هويتها الدينية وضرورات الدولة الحديثة.

في فبراير 1979، شهدت إيران لحظة فاصلة لم تشهدها دول العالم الإسلامي الحديث منذ سقوط الخلافة العثمانية: سقوط نظام الشاه واستيلاء الثورة الإسلامية على السلطة. هذه الثورة لم تكن مجرد تغيير سياسي، بل تجربة فريدة في تحويل خطاب فكري وثقافي إلى مشروع دولة كامل.

منذ عقود، كان الفكر الإسلامي في إيران مقصورًا على النشاط الدعوي والحوزات العلمية، بينما شكلت النخب الحداثية نماذج الحكم والتعليم والثقافة. لكن الثورة الإيرانية قلبت الطاولة، وجعلت الدين رافعة سياسية وشرعية لتأسيس دولة حديثة.

العقل الثوري الإيراني من الفكر إلى السلطة

برز في هذه التجربة ثلاث شخصيات مركزية صاغت العقل الثوري الإسلامي الجديد:

علي شريعتي: مفكر الثورة الثقافية والاجتماعية، مزج بين الماركسية والإسلام ودعا إلى إسلام نضالي ضد الاستعمار والاستبداد.

محمد باقر الصدر: المفكر الأصولي الحداثي، قدم مشروعًا متكاملاً في الاقتصاد والسياسة والاجتماع الإسلامي، متجاوزًا القطيعة بين الفقه والتركيبة المؤسسية الحديثة.

روح الله الخميني: المرجع الذي حوّل الفقه السياسي إلى سلطة شرعية، وابتكر مفهوم "ولاية الفقيه" كبديل لنظرية "انتظار المهدي"، مطلقاً بذلك تحولًا جذريًا في المذهب الشيعي.

هذه النخبة لم تكتف بالنقد، بل طرحت بدائل شاملة ثقافية واقتصادية وتشريعية ومؤسساتية، وأوجدت أرضية صلبة لتحويل الثورة الشعبية إلى دولة فعالة.

المؤسسات الأساسية للثورة الإيرانية: مجلس قيادة الثورة، الدستور، ومجلس صيانة الدستور

مع سقوط الشاه ونجاح الثورة، سارع قادة الثورة إلى تأسيس مجلس قيادة الثورة، وهي هيئة مؤقتة أنيطت بها مهمة إدارة الدولة خلال المرحلة الانتقالية، وصياغة السياسات التنفيذية الأساسية، مع الإشراف المباشر للخميني على كل القرارات. شكل المجلس قلب الثورة المؤسسي، وكان بمثابة أداة الربط بين النخب الثورية الشعبية والدولة الوليدة.

في مارس 1979، جرى استفتاء شعبي أقر قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتم صياغة الدستور الجديد في نوفمبر من نفس العام، ليؤكد سلطة المرشد الأعلى (ولي الفقيه) فوق جميع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ويحدد العلاقة بين الدين والدولة، مع وضع قواعد لضمان تطبيق الشريعة كمصدر أساسي للتشريع.

ولاية الفقيه.. أساس الجمهورية الإسلامية ومرجعيتها الدينية

ولاية الفقيه هي النظرية الأساسية التي قامت عليها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتتمثل في السيادة الدينية والسياسية للفقيه العادل على الدولة والمجتمع. صاغ هذه النظرية روح الله الخميني، الذي رأى أن الفقهاء المتمكنين من العلم الشرعي قادرون على تطبيق الشريعة الإسلامية وتوجيه شؤون الدولة بما يضمن العدالة الدينية والسياسية.

مرجعيتها الدينية تعود إلى الفقه الجعفري الإمامي (الشيعي الإثني عشري)، الذي كان في السابق يقتصر على تفسير الأحكام الشرعية وإصدار الفتاوى، بينما اقتصرت السلطة السياسية على الحكام العلمانيين أو السلاطين. الخميني أدخل تحولًا جذريًا عندما أعلن أن الولي الفقيه يمتلك سلطة سياسية شاملة على الدولة، بما في ذلك السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، لضمان تطبيق أحكام الدين في الحياة العامة.

وبحسب هذا المفهوم، فإن المرشد الأعلى هو أعلى سلطة في الجمهورية، ويشرف على جميع المؤسسات، بما في ذلك الحكومة، الجيش، القضاء، ومجلس صيانة الدستور، لضمان ثبات النظام الديني وحماية الثورة من الانحراف أو التأثيرات الخارجية.

تعتبر ولاية الفقيه بذلك ربطًا بين الدين والدولة، وتُعد حجر الزاوية في الهيكل السياسي للجمهورية الإسلامية، حيث تشكل المرجعية الدينية مصدر شرعية لجميع القرارات السياسية والقوانين، وتمنح الدولة طابعها الفريد بين الدول الحديثة.

مؤسسات سياسية وأمنية

لتثبيت هذا النظام وضمان استمرار المشروع الثوري، تم إنشاء مجلس صيانة الدستور، الذي يراقب القوانين والتشريعات للتأكد من مطابقتها للشريعة والدستور، ويمنع أي تجاوز أو انحراف عن روح الثورة.

إلى جانب هذه المؤسسات، تأسست المؤسسات الأمنية الداخلية كرافعة أساسية لحماية الثورة من التهديدات الداخلية والخارجية. من أبرز هذه المؤسسات:

الحرس الثوري الإيراني (الذي تأسس عام 1979)، لحماية الثورة والحفاظ على النظام الجديد من أي محاولات انقلاب أو تخريب داخلي، بالإضافة إلى دوره في السياسة الإقليمية لاحقًا.

الشرطة والأجهزة الاستخباراتية التي تم تطويرها لتأمين الاستقرار الداخلي، مراقبة الأنشطة المعارضة، وضمان الامتثال للقوانين الجديدة.

تظل العلاقة بين الدين والدولة في العالم الإسلامي واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا وإشكالية في مسار بناء الدولة الحديثة. فالالتباس التاريخي لهذه العلاقة لم يكن يومًا واضحًا، منذ سقوط الخلافة العثمانية وقيام الدولة القومية الحديثة على النمط الأوروبي، حيث انفصلت السلطة السياسية عن المرجعيات الدينية، وحوصر الدين في المؤسسات التقليدية، بينما تولت النخب الحداثية صياغة التعليم والثقافة والقانون.
الميليشيات المحلية والمتطوعون، مثل منظمة الباسيج، الذين شكلوا شبكة دعم شعبي للنظام، تربط بين المواطنين والدولة الجديدة وتعزز حضور الثورة في المجتمع المحلي.

كل هذه المؤسسات شكلت الهيكل المؤسسي الكامل للثورة، حيث الدمج بين السلطة الدينية والسياسية، والأمن الداخلي، والإشراف القضائي، لضمان بقاء الدولة مخلصة لروح الثورة وحمايتها من الانحراف أو الانقسام.

من الانتصار إلى التأسيس

لم ينتظر قادة الثورة طويلاً بعد إسقاط الشاه، فقد استثمروا الزخم الشعبي لتأسيس مشروع سياسي جديد. تشكل مجلس قيادة الثورة لإدارة المرحلة الانتقالية، وتم إعلان الجمهورية الإسلامية بعد استفتاء شعبي، مع دستور يؤكد سلطة المرشد الأعلى.

لكن الانتقال من الثورة إلى الدولة لم يكن سهلاً. فقد واجهت الجمهورية الناشئة صراعات داخلية مع الأحزاب الليبرالية واليسارية، وتم العمل على حماية المشروع الثوري من ابتلاع الدولة لروح الثورة، من خلال مجلس صيانة الدستور والمؤسسات الأمنية التي شكلت خط الدفاع الأول عن الثورة وأفكارها.

التحديات الفكرية والسياسية

لقد كان التحدي الأكبر هو ترجمة الفكر إلى سلطة فعلية: إدارة الاقتصاد، الصراعات الداخلية، بناء مؤسسات قضائية وتشريعية، وضمان سيادة الدولة في مواجهة الضغوط الإقليمية والدولية. لم تكن الثورة مجرد تغيير للسلطة، بل مشروعًا ثقافيًا وسياسيًا متكاملًا، يجعل من الدين أساسًا للتشريع والتنظيم السياسي، ومن الوعي الاجتماعي قاعدة للصمود في مواجهة الأزمات.

اليوم، مع الضربات المتتالية التي تتعرض لها إيران وأذرعها في المنطقة، تصبح تجربة الثورة الإيرانية بين 1979 و1989 دليلًا على قدرة مشروع فكري متين على الصمود وتحويل الصدمة السياسية إلى مشروع دولة مستقر نسبياً، رغم كل التحديات الداخلية والخارجية.

وبمجرد أن نجحت الثورة الإيرانية داخليًا في إسقاط نظام الشاه، وبدأت معالمها الفكرية والدينية والسياسية تتضح، انطلقت فزاعة التخويف والشيطنة لتغزو العالم، وتوغلت بسرعة إلى منطقتنا العربية، فاندلعت الحرب الدموية التي شنها صدام حسين ضد إيران، واستمرت ثمانية أعوام من الدمار والليل الطويل والدماء التي لم تتوقف.

لكن التاريخ لا يكتفي بسرد الخراب، فهو مرآة للوعي والقدرة على الصمود. ففي قلب هذه التجربة، نلمس كيف يمكن للفكر أن يتحول إلى مؤسسات، وللثورة أن تصنع دولة، وللأيديولوجيا أن تتجسد في قوة قادرة على مواجهة الصعاب الداخلية والخارجية. هنا تتجلى قيمة الإرادة الشعبية حينما تتقاطع مع مشروع فكري متين، في مواجهة قوى الخوف والتهويل التي حاولت أن تُخيف العالم وتشل حركة التاريخ.

إن التجربة الإيرانية، من الانتصار على الشاه إلى تأسيس الجمهورية الإسلامية، تعلمنا درسًا مزدوجًا: أن التغيير الحقيقي لا يكتمل بالثورة وحدها، وأن المشروع الذي يسعى للعدالة والحرية يجب أن يوازن بين القوة والمرجعية، بين الدين والدولة، بين الفكر والممارسة. وفي هذا الدرس تكمن بذور أي نهضة عربية وإسلامية حقيقية، حينما يتحرر الفكر من قيود الخوف، وتصبح الإرادة الشعبية قاعدة لصناعة المستقبل، حتى وسط أعتى العواصف.
التعليقات (0)