أفكَار

شريعتي والصدر والخميني.. ثلاثية الوعي والدم والدولة.. قراءة معاصرة (2)

الثورة الإيرانية لم تكن وليدة الدهاليز، لكنها أيضًا لم تكن خارج أعين المراقبة الغربية. ربما لم يُخطَّط لها بالكامل، لكن الواضح أن أطرافًا دولية تعاملت معها ببراغماتية عالية، وفضلت التكيف على المواجهة.. عربي21
الثورة الإيرانية لم تكن وليدة الدهاليز، لكنها أيضًا لم تكن خارج أعين المراقبة الغربية. ربما لم يُخطَّط لها بالكامل، لكن الواضح أن أطرافًا دولية تعاملت معها ببراغماتية عالية، وفضلت التكيف على المواجهة.. عربي21
لا تعجب إن بدا لك أنّ تاريخ الشعوب يُكتب فجأة، بلا إنذار ولا ميعاد؛ فالثورات لا تولد من فراغ، بل من تراكم الصمت والخذلان حتى يفيض الكيل. وحين تتزاحم خطى المقهورين في الشوارع، تلتقي في صرخةٍ واحدة تهدم عروشًا راسخة، كما حدث في طهران حين امتلأت الأزقّة بملايين الأقدام، لا تحمل سلاحًا سوى الإيمان والعزم، فإذا بقصور الشاه تتهاوى تحت وقع الجماهير.

عام 1979 لم يكن حدثًا سياسيًا عابرًا، بل زلزالًا حضاريًا نقل إيران من هامش القرار إلى مركز المشهد. كانت الثورة الإيرانية صرخةً ضد التغريب والتبعية، وضد الطغيان المحلي الذي جعل البلاد رهينة لمعادلات الخارج. فخرج الناس يهتفون باسم الله والحرية معًا، ليقولوا للعالم إن الشعوب لا تُختزل في قصور الملوك، ولا في قواعد الجيوش، بل في إرادةٍ إذا تحررت كسرت المستحيل.

وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فما إن تُطوى صفحةُ ثورةٍ في طهران حتى تُفتح صفحةُ أخرى في غزّة، هناك حيث يكتب الأطفال بدموعهم معنى الحرية. في إيران، كان الشاه قصراً يطاول السماء، فسقط تحت أقدام الفقراء. وفي فلسطين، يقف الاحتلال على جبلٍ من السلاح، لكنّه يرتجف من صرخة رضيعٍ يتضوّر جوعًا خلف الحصار. كأنّ التاريخ يقول لنا: إنّ الحرية لا تموت، وإنّ الثورات، وإن تعثّرت، تعود فتزهر في أرضٍ أخرى، وتُعلِّمنا أنّ الدم المسفوح على تراب غزة اليوم هو الحبر الذي سيكتب فجرها غداً.

وإذا كانت غزّة اليوم تجسّد معنى الثورة الحيّة التي لا تساوم، فإنّ إيران بالأمس كانت المثال الذي ألهم العالم بأنّ الشعوب قادرة على قلب الموازين. هناك، لم يكن التاريخ صنيعَ الزمان وحده، بل صنيع رجالٍ حملوا الفكرة وآمنوا بها حتى آخر رمق. قادةٌ لم يكتفوا بشعارٍ يرفعونه، بل قدّموا سيرةً يتناوبها الصبر والسجن والمنفى، حتى اجتمع الشعب حولهم ليصنع التحوّل الأكبر في القرن العشرين.

حين نُلقي نظرة معمقة على المسارات الفكرية التي ساهمت في تشكيل الثورة الإسلامية الإيرانية، فإننا نجد أنفسنا أمام ثلاث شخصيات مركزية، تمثل ثلاث تجليات مختلفة لوعي التغيير: المثقف، المرجع، الفقيه الثوري. وهذه الشخصيات، رغم تباين خلفياتها، أسهمت مجتمعةً في إنتاج لحظة التحول الكبرى في إيران أواخر سبعينيات القرن الماضي.

أولًا ـ علي شريعتي.. المثقف الذي أيقظ الوعي الجمعي

كان علي شريعتي صوت الرفض الاجتماعي والثقافي بامتياز. لم يكن فقيهًا أو رجل دين، بل كان مفكرًا حداثيًا يسعى إلى استعادة روح الإسلام كرسالة تحرر وعدالة اجتماعية. شريعتي لم يؤمن بـ"الإسلام الرسمي"، بل انتقده بوصفه متواطئًا مع السلطة، ودعا إلى العودة إلى "الإسلام المحمدي الأصيل" الذي ينهض على مبدأ الثورة المستمرة، لا الطاعة العمياء.

إن الثورة الإسلامية الإيرانية لم تكن ثمرة فكر واحد، بل كانت مزيجا بين خطاب وجداني تعبوي (شريعتي)، ونظرية إسلامية عقلانية متكاملة (الصدر)، وتجربة سياسية قيادية حاسمة (الخميني). لكن الذي هيمن في النهاية هو النموذج الذي أدار الدولة، لا الذي فكّر فيها.
أطروحاته حول التشيع العلوي مقابل التشيع الصفوي، وقراءاته للتاريخ الإسلامي كصراع بين الحق والسلطة، شكلت أرضية شعبية لفهم الإسلام بوصفه دينًا للمستضعفين. وقد لعب دورًا بالغ الأهمية في تهيئة الوجدان الجمعي للثورة، خصوصًا بين الطلبة والشباب.

لكن شريعتي، رغم ثوريته، لم يقدّم تصورًا مؤسسيًا للدولة. فقد ظلّ في موقع المثقف الذي يثير الأسئلة ويفجّر النقد، دون أن يبلور مشروعًا سياسيًا واضحًا، وهو ما جعله مؤثرًا في الوعي، لكنه غائبًا عن لحظة تأسيس النظام.

ثانيًا ـ محمد باقر الصدر.. المفكر المرجعي وصاحب النظرية البديلة

في مقابل شريعتي، يبرز محمد باقر الصدر كأبرز مفكر إسلامي شيعي في العراق. لم يكن مجرد فقيه، بل كان منظّرًا ذا طابع موسوعي، قدم مشاريع كبرى مثل "اقتصادنا" و"فلسفتنا" التي أراد بها أن يؤسس بديلًا إسلاميًا عن الرأسمالية والاشتراكية.

تميز الصدر برؤية منهجية ومتكاملة، تجمع بين الفقه والأصول والفكر السياسي والاقتصاد والنقد المعرفي. ولم يكتف بالنقد، بل طرح نظريات إيجابية واضحة، تجعل من الإسلام قوة قادرة على بناء دولة حديثة وعادلة، لكن دون القفز على الأمة أو مصادرة إرادتها.

ورغم أنه دعم الثورة الإيرانية، إلا أن الصدر تحفّظ على مبدأ ولاية الفقيه المطلقة كما طرحه الخميني. كان أقرب إلى تصور "المرجعية الأخلاقية" للفقيه، لا سيطرته الكلية على الدولة. وهو ما أدى به إلى الاصطدام مع نظام صدام حسين، ودفع حياته ثمنًا لهذا الموقف.

الصدر بهذا المعنى يمثل ضمير الثورة الإسلاميّة، ومنظرها الأكثر نضجًا، لكنه ظل مهمّشًا سياسيًا داخل النظام الإيراني الوليد، الذي اختار الانحياز إلى أطروحة الخميني الأكثر واقعية وتنفيذية.

ثالثًا ـ روح الله الخميني.. القائد السياسي وباني الدولة

الخميني لم يكن مفكرًا تنظيريًا بقدر ما كان قائدًا سياسيًا عمليًا. تميز بمزج نادر بين الكاريزما الدينية والحسم الثوري. أطروحته حول "الحكومة الإسلامية" و"ولاية الفقيه المطلقة" شكلت النواة النظرية والسياسية التي قامت عليها الجمهورية الإسلامية بعد سقوط الشاه.

خلافًا لشريعتي والصدر، كان الخميني يرى أن إقامة الدولة الإسلامية ليست فقط ممكنة، بل واجبة شرعًا، وأن الفقيه العادل هو الأقدر على قيادتها نيابة عن الإمام الغائب. هذه الرؤية، رغم ما أثارته من جدل واسع داخل الحوزات العلمية، وجدت صدى عمليًا واسعًا في صفوف الثورة، نظرًا لاحتياجها إلى زعامة دينية ـ سياسية موحدة.

الخميني أقام النظام ولم يكتف بنقده أو التنظير له، وهذا ما جعل أثره التاريخي يتجاوز الآخرين. لكنه، في المقابل، كرّس نوعًا من الحكم الثيوقراطي المقنع، وأسس لنظام مركزي صارم، جعل الفقيه الأعلى فوق الدستور والقانون، وهو ما سيطرح لاحقًا أسئلة حارقة حول طبيعة الدولة الإسلامية ومدى ديمقراطيتها.

المفارقة والتكامل

ـ شريعتي حرّك الوجدان، وعبّأ الجماهير بالوعي الثوري، لكنه لم يقدم مشروع دولة.

ـ الصدر نظّر بعمق للدولة الإسلامية العادلة، لكنه افتقر إلى الأدوات السياسية والتنظيمية.

ـ الخميني جسّد المشروع سياسيًا، لكنه اختزله في سلطة فقهية مطلقة.

بهذا المعنى، يمكن القول إن الثورة الإسلامية الإيرانية لم تكن ثمرة فكر واحد، بل كانت مزيجا بين خطاب وجداني تعبوي (شريعتي)، ونظرية إسلامية عقلانية متكاملة (الصدر)، وتجربة سياسية قيادية حاسمة (الخميني). لكن الذي هيمن في النهاية هو النموذج الذي أدار الدولة، لا الذي فكّر فيها.

رغم أن علي شريعتي غاب قبل أن يرى لحظة الانتصار، وأن محمد باقر الصدر استشهد في سنواتها الأولى، ورغم أن الخميني نفسه طوى جسده الموت بعد عقد من التأسيس، فإن الثورة التي ألهموها جميعًا لم تُدفن برحيلهم، بل استمرت لتخوض الحروب وتتحمل العقوبات وتواجه الحصار، فيجد العالم أن الأفكار أقوى من أصحابها، وأن مشروعًا تماهى مع الوجدان الجمعي لشعب بأسره يمكن أن يبقى حيًّا حتى بعد أن يوارى منظروه الثرى.

إنها مفارقة التاريخ: الأجساد تترجل، لكن الفكرة إذا انغرست في العقول والضمائر، فإنها تُولد من جديد مع كل جيل، وتقاوم كل ضربة كما لو أنها قدر لا يموت.

هل فاجأت الثورة الإيرانية الغرب فعلًا؟

من يقرأ الثورة الإيرانية كما لو أنها انفجرت فجأة، خارج دوائر الرصد الغربي، يُغفل حقيقة لا يمكن القفز عليها: أن إيران، زمن الشاه، لم تكن دولة معزولة عن الغرب، بل كانت في صميم المعسكر الأمريكي، حليفًا استراتيجيًا واقتصاديًا وأمنيًا من الطراز الأول.

رغم أن علي شريعتي غاب قبل أن يرى لحظة الانتصار، وأن محمد باقر الصدر استشهد في سنواتها الأولى، ورغم أن الخميني نفسه طوى جسده الموت بعد عقد من التأسيس، فإن الثورة التي ألهموها جميعًا لم تُدفن برحيلهم، بل استمرت لتخوض الحروب وتتحمل العقوبات وتواجه الحصار
فهل يمكن أن تحدث ثورة بهذا الحجم والزخم من دون أن تكون أجهزة الاستخبارات الغربية وفي مقدمتها الـCIA) ) قد لاحظت إرهاصاتها، أو توقعت مساراتها؟ أم أن هناك ما هو أعمق من ذلك: صراع بين نخب غربية متباينة المصالح، بعضها راهن على "البديل الإسلامي"، أو على الأقل انحنى للعاصفة حين أصبحت الثورة أمرًا واقعًا؟

أولًا ـ الغرب كان يعلم.. لكن لم يكن موحّدًا

تشير وثائق وشهادات عديدة من داخل الإدارة الأمريكية ـ خاصة من مستشاري كارتر ـ إلى معرفة مسبقة بحجم التململ الشعبي داخل إيران، وبأن نظام الشاه أصبح عبئًا على واشنطن أكثر منه حليفًا مفيدًا. فالرجل بات يعاني من أزمات شرعية داخلية، وتضخم أمني، وعزلة شعبية خانقة، في وقتٍ كانت فيه المعارضة ـ رغم قمعها ـ تتوسع من المساجد إلى الجامعات.

لكنّ الغرب ـ كما تدل مؤشرات كثيرة ـ لم يكن موحدًا في رؤيته للتعامل مع هذه الأزمة. جزء من النخب الليبرالية الأمريكية (مثل بريجنسكي) أراد الحفاظ على الشاه بأي ثمن، فيما رأى فريق آخر أن إيران في حاجة إلى "انتقال محسوب" نحو نموذج أكثر قابلية للاستمرار، حتى لو كان ذا طابع ديني محافظ.

ثانيًا ـ باريس.. عاصمة الثورة الخفية

الصدفة وحدها لا تفسر كيف سمحت فرنسا لآية الله الخميني بالإقامة بحرية تامة في ضاحية "نوفيل لو شاتو"، ولا كيف تحولت إقامته هناك إلى غرفة عمليات مفتوحة تدير منها الثورة لحظة بلحظة، عبر تسجيلات وخطب وتنسيقات دولية.

ما حدث هو أن الخميني لم يكن يعمل في الظل، بل تحت أضواء باريس الكاشفة، أمام مرأى الصحافة العالمية ومراكز البحث والدراسات الغربية. ولذا يحق لنا أن نتساءل:هل كانت باريس (ومعها واشنطن) تعتقد أن البديل الإسلامي سيكون أكثر عداء للشيوعية من نظام الشاه؟ هل رأت في الخميني قوة موازنة للمد الناصري أو البعثي أو اليساري الذي بدأ يتراجع؟ أم أن النخب الغربية أرادت فقط ركوب الموجة لتوجيه مسارها، دون القدرة الحقيقية على التحكم بها بعد لحظة الانفجار؟

ثالثًا ـ هل تخلى الغرب عن الشاه فعلًا؟

الوثائق اليوم تُظهر أن واشنطن ترددت كثيرًا في دعم الشاه حتى اللحظة الأخيرة، لكنها لم تمنحه "تفويضًا مفتوحًا" بالقمع. كان هناك توازن حساس بين دعم الاستقرار وعدم الغرق في دماء أكثر، خاصة مع تصاعد الكاميرات والإعلام الدولي الذي بات ينقل يوميات الثورة.

ربما أدرك الغرب متأخرًا أن القطار غادر المحطة، وأنه من الأفضل التكيف مع المعادلة الجديدة. فكان الخيار هو "احتواء الثورة بدلًا من مقاومتها"، وهو ما يفسر المسار الغامض للعلاقات لاحقًا، خصوصًا في قضايا مثل إيران غيت (1986)، وصفقات السلاح السرية.

السؤال أهم من الجواب

ما نطرحه ليس مجرّد شكوك، بل أفق مفتوح لفهم ديناميات التحولات الكبرى. الثورة الإيرانية لم تكن وليدة الدهاليز، لكنها أيضًا لم تكن خارج أعين المراقبة الغربية. ربما لم يُخطَّط لها بالكامل، لكن الواضح أن أطرافًا دولية تعاملت معها ببراغماتية عالية، وفضلت التكيف على المواجهة.

فهل كانت ثورة "ضد الغرب"؟ أم ثورة "نشأت في قلب فضائه الليبرالي ثم تمردت عليه"؟ وهل الإسلام السياسي كان مجرد بديل طارئ، أم حلقة ضمن هندسة ما بعد الشاه؟ هذه أسئلة مفتوحة لقراءة ثوراتنا، لا للحكم عليها، بل لفهمها ومحاولة استعادة المبادرة.
التعليقات (0)

خبر عاجل