كتب

في فلسفة التصوف عند الإمام عبد القادر الجيلاني.. قراءة في كتاب

التصوّف عند من حاولوا التعمق في حقائقه من المسلمين وعدم الاكتفاء بظاهره علم قائم بذاته أطلقوا عليه علم الخواطر أو الأحوال أو المكاشفات.
التصوّف عند من حاولوا التعمق في حقائقه من المسلمين وعدم الاكتفاء بظاهره علم قائم بذاته أطلقوا عليه علم الخواطر أو الأحوال أو المكاشفات.
الكتاب: ثورة الروح: قراءة معاصرة في فلسفة التصوف عند الإمام عبد القادر الجيلاني
الكاتب: جمال الدين فالح الكيلاني
الناشر: دار الزنبقة، ط2  القاهرة 2019
عدد الصفحات: 222 صفحة

ـ 1 ـ

كثيرا ما يُعاش التدين من منطلق الروح التي تسهم في صياغة شخصية الإنسان وتحفظ توازنها أمام مغريات الحياة، فيعمل العابد على إذكائها بترويض الجسد وتعويد النفس على الطاعة بالعبادة الشاملة في الحياة كلها، وهذا ما ينتهي به غالبا إلى خوض تجربة صوفية. والتصوّف عند من حاولوا التعمق في حقائقه من المسلمين وعدم الاكتفاء بظاهره، علم قائم بذاته، أطلقوا عليه علم الخواطر أو الأحوال أو المكاشفات. وفهمه وتمثّل ما يطرحه المتصوفة من رؤى للذات الإلهية وللكون والحياة فيها، يقتضيان مراعاة الأدوات المعرفية الصوفية ومنزلة الروح والعقل منها.

وهذا مذهب جمال الدين فالح الكيلاني في أثره الذي حاول عبره التعريف بمنهج الشيخ عبد القادر الجيلاني "ثورة الروح: قراءة معاصرة في فلسفة التصوف عند الإمام عبد القادر الجيلاني"، فيصادر على "أن التصوف خطّ فكريّ، ولد مبكرا في المجتمع الإسلامي. ومر بمراحل وتطورات مهمة. وفي أثناء تطوره تشكلت فيه مدارس عدة، منها مدرسة الشيخ عبد القادر الجيلاني التي يمكن اعتبارها مدرسة تربية الروح، وتزكية النفس وتطهير القلب، التي استطاعت أن تكسب قلوب الملايين في كل زمان ومكان".

ـ 2 ـ

ولد الشيخ عبد القادر الجيلي ( 470 هـ ـ 561 هـ ) الذي عرف بتسميات عديدة عند مريديه شأن "تاج العارفين" و"محيي الدين" و"شيخ الشيوخ" و "قطب" بغداد وسلطان الأولياء وأشهرها "الباز الأشهب" في قرية "جيل" قرب المدائن جنوب بغداد. وينحدر من نسل علي بن أبي طالب، تفقّه في الدين وأفتى على مذهب أبي حنيفة والشافعي وابن حنبل، حتى إنّ ابن السمعاني وصفه لمّا لقيه في بغداد، بأنه "إمام الحنابلة، وشيخهم في عصره"، وأورث طلبته حب العلم والرغبة فيه، فتتلمذ على يديه أكثر الفقهاء في زمنه، ويؤثر عنه قوله لأحدهم ممن رغبوا في الانقطاع للعبادة: "إذا أردت الانقطاع، فلا تنقطع حتى تتفقه وتجالس الشيوخ وتتأدب. وإلا فتنقطع وأنت فريخ ما ریشت".

كثيرا ما يُعاش التدين من منطلق الروح التي تسهم في صياغة شخصية الإنسان وتحفظ توازنها أمام مغريات الحياة، فيعمل العابد على إذكائها بترويض الجسد وتعويد النفس على الطاعة بالعبادة الشاملة في الحياة كلها، وهذا ما ينتهي به غالبا إلى خوض تجربة صوفية.
وعامّة، كان عنصر تلطيف للخلافات المذهبية التي بلغت قبله مستوى من التوتّر، هدد استقرار المجتمع البغدادي، ولذلك اعتبرته المستشرقة الفرنسية جاكلين شأبي، أحد أهم من توسط في القرن السادس الهجري بين الحركة الصوفية والفقهاء، وذكرت أنه "كان ممن بفضلهم تبنت الحركة التقليدية خلال القرنين اللاحقين منعطف الطرقية".

ـ 3 ـ

انتشر تلامذته في الأصقاع ينشرون التصوف القادري، ويدعون الناس للبس خرقته، أو قصده كثيرون من البلدان البعيدة ليلبسوا الخرقة من يده، لقيمته وفضائله وتأثيره في محيطه. وكان الدأب أن يُلبس الشيخ مريديه الخرقة الصوفية الممزقة التي ترمز إلى الفقر وإلى خشونة الحياة والإعراض عن مباهج الدنيا الخادعة. ويذكر الباحث أن الآباء أصبحوا لاحقا يُلبسونها لأبنائهم خلفا عن سلف، ما جعل القادرية ترتبط بعديد العائلات وصبغ تصوفها بصبغة وراثية، بعد أن كان شأنا فرديا قبله، وهذا ما أسهم في نشأة ظاهرة "الطرق الصوفية"، الصيغة التي راجت لاحقا في بلاد الإسلام عامة، حتى صارت عائلات بأسرها تسمى بالقادري والرفاعي والسهروردي وغيرهم.

ولعبد القادر الجيلاني خلوات كثيرة وانقطاع الحياة الاجتماعية في تجربة روحية شاقّة تنصرف عن أشراك الدنيا، حتى "برئت أدواء النفس ومات الهوى وأسلم الشيطان وصار الأمر كله لله"، وفق ما ينقل عنه، بحثا عما يسميه هو "الوجود الثاني".

ومما ينسبه إليه  الشطنوفي في عرضه لما يجده في هذه الخلوات من مشقة وأمور عجيبة قوله: "كانت الأحوال تطرقني في بدايتي في السياحة، فأقاومها فأملكها فأغيب فيها عن وجودي. وأغدو وأنا لا أدري، فإذا سري عني من ذلك، وجدت نفسي بعيدا عن المكان الذي كنت فيه".

ونسبت إليه الكرامات التي أسهبت كتب المناقب في ذكرها، ومنها أنه "كان يتكلم على الخواطر"، يقول عنها: "إنما أنطق فأنطق، وأعطى فأفرق، وأؤمر فأفعل، والعهدة على من أمرني والدية على العاقلة.. لولا لجام الشريعة على لساني لأخبرتكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم. أنتم بين يدي كالقوارير يرى ما في بواطنكم وظواهركم. لولا لجام الحكم على لساني لنطق صاع يوسف بما فيه. لكن العلم مستجير بذيل العالم كي لا يبدي مكنونه". وكان هذا الكلام على الخواطر عامل جذب للناس عامتهم وخاصتهم لحضور مجالسه، وعنصرا فاعلا في اشتهاره وفي إعلان أعداد كبيرة من الفئات الاجتماعية البغدادية المتعددة كالعيارين وقطاع الطريق والقتلة، توبتهم في مجلسه.

ـ 4 ـ

ولم يكن تصوف الشيخ عبد القادر الجيلاني اعتزالا للحياة الاجتماعية وانزواء وهروبا كما يُصوَّر المتصوفون غالبا. فيذكر الباحث أن له موقفا من الملوك ومن ذوي السلطان، وأنه كان يكلمهم الكلام الخشن ويبالغ لهم في الموعظة، وأنهم كانوا يقبلون يده ويجلسون بين يديه متواضعين متصاغرين، فقد كانت مجالسه تستقطب كبار رجال الدولة مثل نائب الوزراة عز الدين محمد بن الوزير أبي المظفر ابن هبيرة، وأستاذ الدار عبد الله بن هبة الله، وحاجب الباب مجد الدين بن الصاحب، وغيرهم. ومما يروى عنه قوله على المنبر مخاطبا الخليفة المقتفي: "وليت على المسلمين أظلم الظالمين، وما جوابك غدا لرب العالمين؟".

وتأخذ هذه الصورة في التضخّم في أذهان العامة في شكل من الأسطورة. فمما يروى من مناقبه، أن أحد الخلفاء العباسيين جاءه مستغيثا ليرد أحد سلاطين العجم، وقد قصد بغداد وكان الخليفة قد عجز عن رده، فأغاثه الشيخ ورد جيش العجم عن بغداد بدعائه، وأنّ بعض أتباع السلطان السلجوقي مر به ومعه أحمال خمر لسيده، فأمر الشيخ الدواب بالوقوف فوقفت ولم تتحرك، وتحول الخمر في الأواني إلى خل، ولما بلغ الخبر إلى السلطان حضر لزيارة الشيخ وارتدع عن الكثير من المحرمات. وغير ذلك من هذه الحكايات، التي تعكس تمثل الرأي العام لشخصيته، وتبرز أنه أضحى عنصرا من عناصر المثيولوجيا الشعبية آنذاك، فيجد فيها الباحث أمارة على وقع هذه الشخصية الاعتبارية، التي باتت تسهم في تشكيل مواقف المجتمع في تلك الفترة التاريخية، وتحدّد سلّم قيمه.

ـ 5 ـ

من المفاهيم الصوفية التي حدّدها عبد القادر الجيلاني، المجاهدة.

هي عنده فعل الصوفي الدائم الذي يرافق المريد، منذ باكورة سلوكه الصوفي حتى بلوغه اليقين المعرفي الذي يتحقق بـ"ارتفاع الحجب الظلمانية عن النفس والقلب". من وظائفها أنها تلقى على النفس المراوغة والمخاتلة والمحتالة والمليئة بالدواهي والمسلحة بالمكر وألوان الخداع، حتى تجد اطمئنانها لما تصل إلى درجة عدم التعلّق بشيء من المخلوقات.

ولأنه لا صفاء أبديا للنفس ولا خلاص مضمونا لها، عدّ الجيلاني المجاهدة فعلا متجدّدا ليس له وصول نهائي، بحيث تظل تصونها من الاستسلام للأهواء، وتعصمها من الزّلات وتحرمها من الشهوات واللذات، وتحملها على تقبّل خلاف ما تهوى. ولذلك، فهي تقتضي جهدا بالغا وتسبب مشقة عظيمة قد تتجاوز طاقة البشر، وهذا ما يشير إليه بحال المراقبة الذي يورث قلب العبد الشعور بالخوف والحياء تجاه الله تعالى.

لم يكن تصوف الشيخ عبد القادر الجيلاني اعتزالا للحياة الاجتماعية وانزواء وهروبا كما يُصوَّر المتصوفون غالبا. فيذكر الباحث أن له موقفا من الملوك ومن ذوي السلطان، وأنه كان يكلمهم الكلام الخشن ويبالغ لهم في الموعظة، وأنهم كانوا يقبلون يده ويجلسون بين يديه متواضعين متصاغرين.
وانطلاقا من المجاهدة وما تقتضي من مراقبة مستمرة، يعمل المتصوّف على تغيير معدن النفس وكسر بعض طبائعها. ولا يتعلّق الأمر بتطويع الجسد أو زيادة فاعلية الحواس، أو حتى إظهار القدرات الخفية الكامنة في أعماقها، وإنما بتحقيق السمو الخلقي والرقي الروحي والوجود الحقيقي غير المشوب بالأوهام؛ فهذه المجاهدة العظيمة سبيل للمكافأة الأعظم، وهي نوال الرزق الدائم والحياة الأبدية.

ـ 6 ـ

تنتهي المجاهدة إلى "إماتة النفوس الضعيفة الغارقة في اللذات، وإحيائها بحلة جديدة وقوة طالما كانت كامنة فيها"، وتفضي إلى تجربة الزهد، ذلك السلوك اليومي العبادي الذي لا يُطلب لذاته. فليس رهبنة وتكاسلا وقعودا وغير ذلك من الأوصاف التي ألصقها الخصوم بالصوفية. والزاهد الحقيقي لا يقتصر على صيام النهار وقيام الليل والأخذ بأسباب التخشن في المطعم والملبس فحسب، وإنما يعمل خاصّة على مجاوزة مراتب نفسه الدنيا، والتغلب على البؤس والجهل العالقين بها، بالاستعداد الباطني وخلوص النية وثبات الإرادة، وما الجوع والعطش وغيرهما من الأفعال الزهدية الظاهرة، غير رياضات تُعتمد لتصفية السرائر. فبالجوع "تفتح باب القوة الملكوتية الكامنة في روح الإنسان، وتظهر معها الحقيقة النورانية الخافية وراء حاجز الجسد ومتطلباته". ومع ذلك، يطلب الجيلاني من مريديه ألا يغالوا في الأخذ بأسباب الجوع والعطش، حتى لا يمنعهم ذلك عن القيام بواجباتهم العبادية الأخرى.

ويرتبط الزهد بالتسليم، وهو "ترك الاختيار وسلب الإرادة والامتثال لأمر الله تعالى، مع خلع ثياب الدنيا ولبس ثياب الآخرة".

ـ 7 ـ

بعد مسار المجاهدة والزهد، ينبع الحب في قلب المريد ويتجه إلى الذّات الإلهية، ويتحقّق ذلك بجلو البصائر المدفونة في أعماق مكامن النفس، التي يقتضي إخراجها من الإمكان إلى الوجود، صبرا ومشقة. فقلب المؤمن هو عرش الرحمن، وعلى العبد أن يظهر هذا العرش ويزينه استعدادا لمقدم مليكه. إنها مرحلة العشق الإلهي وفق عبد القادر الجيلاني، التي تكتمل من مشاهدة بعض جمال المحبوب الكامنة في مرايا الأرواح، التائقة إلى ملاحقة تجليات الجمال الحقيقي، بعد أن حُرمت منه لما اتصلت بهياكل الصلصال.

على خلاف الفقهاء الذين يرفضون هذا المبدأ؛ لأن محبة الربّ من وجهة نظرهم تستوجب الطّاعة والخضوع وتأدية العبادات، بعيدا عن القول بإقبال العابد ونفور المعبود صدّا وهجرا وغير ذلك من المعاني المستعارة من غرض الغزل، يحدد عبد القادر الجيلاني هذا الحب الإلهي الأولى، باعتباره إحساسا متلبسا بالقلب، فيلمسه جانب المحبوب لينمو بعيدا عن سلطة العقل وحكمه، وسكرا لا يشوبه صحو، و"المحبون سكارى لا يصحون أبدا إلا بمشاهدة محبوبهم، مرضى لا يشفون إلا بملاحظة مطلوبهم، حيارى لا يأنسون بغير مولاهم، ولا يلهجون إلا بذكره، ولا يجيبون غير داعيه".

ـ 8 ـ

يلحّ الباحث أنه لا يرمي إلى استئناف التراث الصوفي في عالمنا اليوم من خلال خوضه في فلسفة التصوف عند الإمام عبد القادر الجيلاني، فهذا الموروث الثقافي جهد بشري ينتمي للفقه التاريخي وفيه أحوال عصره ومختلف ملابساته، والولوج إليه يقتضي "مراعاة روح العصر والتقدم العلمي والوسطية والفهم السليم والابتعاد عن الأساطير الشعبية التي ألصقت فيه".

ويشير إلى ما بدا له فهما عميقا من الإمام الجيلاني لمجتمعه خلف المبادئ المثالية المطلقة التي كان يدعو إليها. وآيته على ذلك، عدم وقوفه موقف الضد من الحياة، بما تستوجبه من سعي في سبيل الرزق وسيطرة على أسباب الدنيا وتأكيده لضرورة العمل، من أجل أن يضع الإنسان الدنيا بين يديه. ولكن رغم إلحاحه هذا، مالت الدراسة إلى العرض والتوثيق أكثر من نزعتها إلى تنزيل تصوف عبد القادر الجيلاني ضمن مسار التصوف الإسلامي، أو نزعتها إلى تحليل دلالاته الدينية وأبعاده السياسية والاجتماعية والفكرية.
التعليقات (0)

خبر عاجل