منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار في
غزة، وموافقة
الاحتلال وحركة "حماس"
على خطة ترامب المتضمنة 20 بندا، وإجراء عملية تبادل الأسرى بين المقاومة والاحتلال،
واستمرار تسليم جثامين أسرى الاحتلال؛ تنتهك
إسرائيل كما العادة كل بند وعهد واتفاق،
وتخرق كل القوانين الدولية. فحصار غزة مستمر، والمساعدات الإنسانية معدومة، والاحتلال
يعترض على كل بند جاء في خطة ترامب، وتشكيل القوة الدولية لمراقبة وقف إطلاق النار
في غزة يضع عليه الاحتلال فيتو، ولا يسمح بإدخال المساعدات الطبية، ويمنع خروج جرحى
العدوان للعلاج، فضلا عن منعه دخول المساعدات الغذائية بالكميات المطلوبة والمتفق عليها،
ومنع دخول المعدات الثقيلة لإزالة الركام وانتشال جثث آلاف الضحايا من تحتها.
إذا قوائم المنع الإسرائيلية تشمل كل ما من شأنه إعادة بصيص الأمل لمليوني غزاوي،
وذلك يدفع للتساؤل فيما إذا كان وسطاء وقف الإبادة الجماعية، من الطرف العربي والدولي،
تنحصر وساطتهم عند حدود الخطة الأمريكية في غزة، بغض النظر عن تطورات العدوان على بقية
فلسطين.
من يدقق في بنود خطة ترامب، يعلم يقينا أن المشكلة ليست في تلك البنود، بقدر ما أنها تكمن في كيفية إجبار إسرائيل على التقيد بها، وإذا كان الضامن الفعلي لها ترامب نفسه، فهو غير ملزم بكبح "المصلحة" الإسرائيلية
فمن يدقق في بنود خطة ترامب، يعلم يقينا أن المشكلة ليست في تلك البنود، بقدر
ما أنها تكمن في كيفية إجبار إسرائيل على التقيد بها، وإذا كان الضامن الفعلي لها ترامب
نفسه، فهو غير ملزم بكبح "المصلحة" الإسرائيلية، ولا قدرة لبقية الأطراف
العربية التي حضرت حفل توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في شرم الشيخ الشهر الماضي؛
على المجاهرة بموقف واضح أمام الإدارة الأمريكية لتجبر إسرائيل الالتزام بخطته أو بالقانون
الدولي، والسبب مفضوح من اتفاق أوسلو وإلى اليوم، ونعرف من دمر الاتفاق ومن داس عليه.
جرائم الإبادة الجماعية في غزة توقفت عند حدود أرقام مهولة من الضحايا جرحى
وشهداء ومفقودين، ودمار شمل 95 في المئة من غزة، لكن الجريمة مستمرة بأدوات وأشكال
جديدة وقديمة، وعمليات القتل والمجازر مستمرة، وتجريف الأراضي ونسف البيوت وعمليات
الهجوم على مراكز الإيواء وغيرها خلفت أكثر من 200 ضحية منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار.
ولا يستطيع المرء تلخيص المشهد في غزة من كافة جوانبه الأمنية والإنسانية، بدون التطرق
لما يجري في بقية المدن الفلسطينية، كتجسيد لواقع غير بعيد عن خطط جرائم الإبادة والتطهير
العرقي للكل الفلسطيني، فهناك جرائم حرب وضد الإنسانية تستعر في الضفة والقدس ولا تقل
خطورة أيضا عما لحق بالقطاع المنكوب.
عملية اقتلاع الفلسطينيين من أرضهم، تمضي على خطى اليمين الفاشي في إسرائيل،
وتشريع ذلك بقوانين، فبن غفير وسموتريتش لا يغردان خارج سرب الإجماع الصهيوني، بل يمثلان
الدلائل القوية لتوجه إسرائيل نحو مزيد من تصعيد الهجمة الفاشية ضد الفلسطينيين في
الضفة والقدس، ويشكلان الواجهة الحقيقية لنيات الحكومة بزعامة نتنياهو، لضم الضفة الغربية
وفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة عليها وبدون إعلان ذلك. ورغم ادعاء الرئيس ترامب
رفضه للضم، إلا أنه يدعم المخاوف الإسرائيلية المتعلقة بالأمن، ويتبنى الأسطورة التلمودية
التوراتية بشأن "يهودا والسامرة" من خلال تطمينات يحملها موفدوه إلى تل أبيب
ويعبر عنها بكل صراحة.
العدوان الإسرائيلي على الضفة والقدس بتوسيع الاستيطان ونسف البيوت وتهجير السكان،
لا يواجه بموقف أمريكي حاسم، مع علم الإدارة الأمريكية بأن سياسات إسرائيل في الأراضي
الفلسطينية تؤدي فعليا للضم، ومنع قيام دولة فلسطينية، ولا تحقق "السلام"
الذي تُطبل له الولايات المتحدة في المنطقة، فالهم الأمريكي منصب على أن لا تتورط إسرائيل
أكثر في جرائم الإبادة، ومنحها فائدة من خلف الهدوء المزيف لآلتها الوحشية، بعد تحويل
غزة لمنطقة غير قابلة للحياة، والتصدي لإدانتها أمام المحاكم الدولية بجرائم الحرب
والإبادة، فإسرائيل من وجهة النظر الأمريكية بحاجة لهندسة عملية ضم الضفة والإشراف
على حصار غزة بما تقتضيه المصلحة الإسرائيلية أولا.
النشاط الاستيطاني المتزايد، وتشريع قانون إعدام الأسرى، وهدم وتفريغ مخيمات
الضفة، وتشديد حصار المدن والقرى والبلدات الفلسطينية، وتقطيع أوصالها بمشاريع استيطانية..
كلها تكرس فعليا أشكال العدوان المستمر وتنسف أي فكرة سيادية فلسطينية على الأرض، أمام
مجتمع دولي وإدارة أمريكية فقدا بصيرة الملاحظة بأن العدوان على كل الأرض الفلسطينية
وعلى عموم الشعب الفلسطيني تجعل من ادعاء السلام والتطبيع وتبييض وجه المحتل ينزلقان
في قعر الهاوية السحيقة.
أمام هذا الوضع والمشهد الفلسطيني المؤلم في غزة والضفة والقدس، لا تزال الحالة الفلسطينية الرسمية والعربية غارقة وتتوغل أكثر فأكثر في أوحال وأوهام الرضوخ والتواطؤ والعجز والدونية وكسر إرادة الذات الفلسطينية والعربية
أمام هذا الوضع والمشهد الفلسطيني المؤلم في غزة والضفة والقدس، لا تزال الحالة
الفلسطينية الرسمية والعربية غارقة وتتوغل أكثر فأكثر في أوحال وأوهام الرضوخ والتواطؤ
والعجز والدونية وكسر إرادة الذات الفلسطينية والعربية، وما يثير الفزع في كل مرحلة
من مراحل الصراع مع المحتل ومع مشروعه الاستعماري، هو بالذات ما يجعل الفلسطيني في
حالة صراخ مستمر ومطالبة سلطته وفصائله وقواه الوطنية ومناشدتها بمراعاة فهمه ومعايشته
للوقائع التصادمية مع المستعمر، وأن يمدوا أيديهم له، وأن يتكاتفوا فيما بينهم، لأن
استمرار التشظي الداخلي، وتعطيل دور منظمة التحرير ومؤسساتها، استجابة لشروط وضغوط
إسرائيلية أمريكية، يعني تكبيلا للذات أمام هذا الإعصار الكبير من العدوان وعربدة المستوطنين،
وتوسيع ضم الأرض وتهويدها وتشديد الحصار عليها لتهجير أصحابها، وكل تقاعس أمام ذلك
أثمانه مكلفة وقاسية على النحو الذي شهدته غزة وتشهده بقية فلسطين.
وهنا، يبقى سؤال أول وأخير: هل الفصائل الفلسطينية بمختلف توجهاتها، تدرك فعلا
أبعاد ما جرى بعد جرائم الإبادة الجماعية في غزة، وما يجري في عمق الضفة والقدس؟ وبالتالي
هل لديها الإرادة لحزم الأمر والتقاط الراية والتقدم ببرنامج وطني فلسطيني وأداة وطنية
واحدة واستراتيجية كفاحية واحدة؟ سؤال سيبقى يثير مرارة شعب يراقب حماقة وصفاقة سلطة
أمام محتلها، وشعبها يواجه احتلالا ونفاقا دوليا ومشاريع تصفية لقضيته. والراية الفلسطينية
التي رُفعت في كل القارات الخمس تنتظر من يحافظ على ألقها في فلسطين وفي شوارع عربية؛
بإجابة فورية على كل أسئلة التقاعس والتردد المؤدي لإسقاط تلك الراية.
x.com/nizar_sahli