في
أوائل تشرين الأول/ أكتوبر 2025، أعلنت حركة
حماس وإسرائيل توصلهما إلى اتفاق هدنة
جديد لإنهاء الحرب المستمرة في
غزة منذ عامين. جاء هذا الاتفاق ثمرة مفاوضات غير مباشرة
استضافتها مصر في منتجع شرم الشيخ، بمشاركة وسطاء دوليين أبرزهم الولايات المتحدة وقطر
وتركيا. يقوم الاتفاق على خطة من 20 بندا طرحها الرئيس الأمريكي دونالد
ترامب لمعالجة
الحرب في غزة وترتيبات ما بعد النزاع. وقد وافق الطرفان على المرحلة الأولى من هذه
الخطة التي تتضمن وقفا شاملا لإطلاق النار وتبادل الأسرى والرهائن، إلى جانب ترتيبات
إنسانية وأمنية وإدارية واسعة.
يُنظر
إلى هذا الاتفاق على أنه هدنة دائمة تُشكّل خطوة أولى نحو إنهاء القتال الدامي وإرساء
ترتيبات جديدة في القطاع، وإن كان ليس اتفاق سلام نهائيا بعد. فيما يلي تقييم قانوني
مبكِّر لأبرز مضامين الاتفاق وردود الفعل الأولية من الأطراف، مع التركيز على تحليل
البنود العشرين وتصنيفها، ومواقف حماس وإسرائيل، إضافة إلى الضمانات الدولية وآليات
التنفيذ والإطار القانوني الناظم لهذه الهدنة.
أولا: البنود الإنسانية والإغاثية
تنص
الهدنة على وقف فوري لإطلاق النار وتبادل للأسرى، حيث تُفرج حماس عن جميع المحتجزين
مقابل إطلاق
إسرائيل نحو ألفي أسير فلسطيني، بينهم محكومون بالمؤبد ونساء وأطفال، وتسليم
الجثامين المتبادلة. كما تلتزم إسرائيل بفتح معبر رفح وإدخال المساعدات بلا قيود تحت
إشراف الأمم المتحدة والصليب الأحمر، لضمان إعادة تشغيل المرافق الحيوية وإغاثة المدنيين.
وتستند هذه البنود إلى القانون الدولي الإنساني الذي يضمن حماية المدنيين وحقهم في
المساعدات الإنسانية.
يمكن تقييم موقف حماس بأنه قبول اضطراري محسوب يوازن بين الضرورات الإنسانية وحفظ المكانة السياسية والقانونية للحركة. وخطابها أعاد تعريف الهدنة كـ"وقف عدوان لا استسلام"، وأظهر الواجهة القانونية للعقل التفاوضي، مقدّما موقفا مرنا دون التفريط بالثوابت
ثانيا: البنود الأمنية والعسكرية
تهدف
إلى نزع سلاح المقاومة في غزة وجعل القطاع منطقة منزوعة السلاح. تشمل تفكيك الأنفاق
والمنشآت العسكرية وجمع الأسلحة الثقيلة بإشراف مراقبين دوليين، ضمن برنامج لإعادة
شراء السلاح ودمج المقاتلين. وتتعهد إسرائيل بالانسحاب التدريجي مقابل تنفيذ هذه الإجراءات،
مع ضمانات بألا تحتل غزة أو تضمها. كما تُنشأ قوة استقرار دولية مؤقتة بقيادة أمريكية-عربية
لضبط الأمن ومنع الفوضى ومراقبة الحدود. وتُقدَّم ضمانات إقليمية من قطر ومصر والأردن
وتركيا لضمان الالتزام ومنع الخروقات.
ثالثا: البنود السياسية والإدارية
تنص
على إنهاء حكم حماس المباشر وإنشاء حكومة انتقالية تكنوقراطية مستقلة تدير غزة تحت
إشراف هيئة دولية تُعرف بـ"مجلس السلام" برئاسة ترامب وعضوية شخصيات دولية.
تتولى هذه الهيئة إعادة الإعمار وإدارة المساعدات وتحويل غزة إلى منطقة اقتصادية خاصة. وتبقى السلطة الفلسطينية المرجعية السيادية
تمهيدا لعودتها التدريجية إلى القطاع. كما يشمل الاتفاق إطلاق حوار سياسي شامل برعاية
أمريكية نحو "أفق الدولة الفلسطينية"، بما يعيد غزة إلى إطار الشرعية الدولية
ويفتح الباب لتسوية أوسع في المستقبل.
الموقف الرسمي لحماس وتفسيره القانوني والسياسي:
أظهر
موقف حركة حماس من اتفاق الهدنة مزيجا من البراغماتية السياسية والحذر القانوني. ففي خطاب خليل الحية، وُصف الاتفاق بأنه إنجاز
وطني وإنساني فرضته توازنات القوة، يهدف إلى وقف العدوان وحماية المدنيين لا إلى التنازل
السياسي. هذا الخطاب أعاد تأطير القبول بالهدنة كخيار مصلحي وحقوقي منسجم مع مبادئ
القانون الدولي الإنساني.
أما
الدكتور موسى أبو مرزوق، ففي مقابلته مع قناة الجزيرة بتاريخ 4 تشرين الأول/ أكتوبر
2025، قدّم التفسير الأكثر وضوحا لطبيعة التزامات الحركة، فأكد أن "الأولوية كانت وقف الحرب والمجازر"، وأن تسليم إدارة غزة لهيئة مستقلة تمّ بتوافق
وطني وبرعاية السلطة الفلسطينية، لا كوصاية أجنبية. هذا التصريح منح الاتفاق غطاء قانونيا
وطنيا، إذ يظهر أن حماس نقلت الإدارة بإرادتها ولم تُقصَ قسرا.
أبو
مرزوق شدد كذلك على أن قضية سلاح المقاومة ستُناقش لاحقا، وأن الالتزامات متبادلة لا
أحادية، ما يعني أن الحركة قبلت بالاتفاق كإطار تفاوضي مشروط، لا كاستسلام سياسي أو
قانوني. كما اعتبر أن كل مرحلة من التنفيذ تحتاج إلى تفاهم جديد، مؤكدا أن حماس طرف
تفاوضي معترف به، لا جهة خاضعة.
بذلك،
يمكن تقييم موقف حماس بأنه قبول اضطراري محسوب يوازن بين الضرورات الإنسانية وحفظ المكانة
السياسية والقانونية للحركة. وخطابها أعاد تعريف الهدنة كـ"وقف عدوان لا استسلام"،
وأظهر الواجهة القانونية للعقل التفاوضي، مقدّما موقفا مرنا دون التفريط بالثوابت.
الإطار القانوني للاتفاق وفعالية الضمانات الدولية
مع غياب قرار رسمي من مجلس الأمن الدولي، تبقى هذه الضمانات سياسية في جوهرها، لكنها تكتسب قوة عملية بفعل تشابك المصالح الأمريكية والعربية في استقرار غزة
تستند
الضمانات المصاحبة للاتفاق إلى إرادة سياسية أكثر منها قانونية، إذ لم يُودَع الاتفاق
كمعاهدة رسمية لدى الأمم المتحدة، بل جاء نتيجة تفاهمات متعددة الأطراف ترعاها دول
ذات نفوذ مباشر على الجانبين: الولايات
المتحدة، وقطر، ومصر، وتركيا. وتُعد
الضمانة الأمريكية حجر الزاوية في هذا الإطار، فهي التي تطمئن حماس إلى أن واشنطن -بقدرتها
على لجم إسرائيل- لن تسمح بانقلابها على التفاهم، وفي الوقت نفسه تمنح إسرائيل ثقة
بأن حماس ستُراقَب وتُمنع من استغلال الهدنة لإعادة التسلّح.
ومع
غياب قرار رسمي من مجلس الأمن الدولي، تبقى هذه الضمانات سياسية في جوهرها، لكنها تكتسب
قوة عملية بفعل تشابك المصالح الأمريكية والعربية في استقرار غزة. ويمكن تحويلها إلى
التزامات قانونية إذا أقرّها مجلس الأمن بقرار رسمي، إلا أن هذا الاحتمال يظل ضعيفا
في ظلّ الفيتو. لذلك، يعتمد نجاح الاتفاق على مدى استعداد
الدول الضامنة لاستخدام نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري لفرض التنفيذ.
في
حال وقوع خروقات، يمكن لأي طرف أو دولة ضامنة اللجوء إلى مجلس الأمن لعقد جلسة طارئة،
غير أن فعالية الأمم المتحدة تبقى محدودة ما لم تُدعَم من القوى الكبرى. وعلى المستوى
القانوني، يبقى القانون الدولي الإنساني ساريا بغضّ النظر عن الاتفاق؛ فالإخلال ببنود
الأسرى أو المحتجزين يُعد انتهاكا لاتفاقيات جنيف وقد يرقى إلى جريمة حرب قابلة للمساءلة
أمام المحكمة الجنائية الدولية. أما عمليا، فتُعد اللجنة المشتركة للدول الضامنة الآلية
الواقعية الأولى لمعالجة أي خرق قبل تصعيده إلى المحافل الدولية.
ومنذ
عام 2023، تراكمت التقارير الأممية التي وصفت الانتهاكات الإسرائيلية في غزة بأنها
قد ترقى إلى جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، ما شكّل تحولا نوعيا في المزاج
القانوني الدولي وأوجد رادعا أخلاقيا وقانونيا جديدا ضد إسرائيل. فبات أي خرق جديد
مكلفا سياسيا وقانونيا، كما أصبح التزام حماس بالاتفاق وسيلة للحفاظ على ما كسبته من
تعاطف وشرعية دولية.
وعليه،
فإن الإطار القانوني للاتفاق يقوم على مزيج من الضمانات السياسية والالتزامات القانونية
الإنسانية، ويستمد فعاليته من توازن المصالح الدولية وازدياد الوعي العالمي بالمسؤولية
القانونية عن جرائم الحرب، أكثر مما يستمدها من نصوص رسمية أو قرارات أممية.
مستقبل الهدنة: اختبار للإرادة الدولية
يُجسّد
الاتفاق الأخير في غزة منظومة رقابة غير مسبوقة تجمع بين إشراف ميداني أمريكي، وقوة
استقرار دولية متعددة الجنسيات، وآليات أممية وعربية لضبط التنفيذ. تشمل هذه المنظومة
مراقبة الانسحاب، وتبادل الأسرى، ونزع السلاح بإشراف دولي، مع دور محوري للأمم المتحدة
في الإغاثة وتشغيل المعابر، إضافة إلى لجنة مشتركة من واشنطن والدوحة والقاهرة وأنقرة
لمعالجة الخروقات الفورية.
ورغم
اتساع هذه البنية الرقابية، فإن نجاحها مرهون بالإرادة السياسية للدول الضامنة أكثر
من النصوص أو التفويضات القانونية. فالولايات المتحدة، ومعها قطر ومصر وتركيا، تبقى
الطرف القادر على منع الانهيار عبر الضغط والتدخل السريع.
سياسيا،
تمثل الهدنة مرحلة انتقالية حساسة يمكن أن تقود إلى تسوية أوسع إذا ثبتت الثقة المتبادلة،
أو تتحول إلى التزام هش إذا طغت الحسابات الداخلية. وهكذا، يبقى الاتفاق اختبارا حقيقيا
لقدرة النظام الدولي على فرض السلام بالإرادة المشتركة لا بالقوة العسكرية.
تقييم قانوني لاتفاق الهدنة في غزة- أكتوبر 2025
يُمثل
اتفاق الهدنة بين حماس وإسرائيل في تشرين الأول/ أكتوبر 2025 نقطة تحول مهمة في الصراع
الفلسطيني الإسرائيلي. فمن خلال البنود العشرين المُحكَمة، جرى ربط الإغاثة الإنسانية
العاجلة بترتيبات أمنية صارمة وتغييرات سياسية جذرية، ضمن صفقة متكاملة تحمل وعودا
كبيرة وتحديات قانونية في آن واحد.
التحليل
القانوني يُظهر أن معظم هذه البنود تنسجم مع مبادئ القانون الدولي، كحماية المدنيين
وتقرير المصير، ولكن تنفيذها سيختبر مصداقية الأطراف وقدرة الضامنين على فرض احترامها.
حماس قبلت مضطرة التنازلَ عن سلطتها وسلاحها بالتدريج مقابل الحفاظ على حياة شعبها
وانتزاع مكاسب حقوقية، وهي تراهن على الدعم العربي والإسلامي لضمان ألا يُفسَّر ذلك
هزيمة نهائية. وإسرائيل قبلت الإفراج عن أسرى فلسطينيين والتخلي عن احتلال غزة مقابل
إزالة تهديد حماس واستعادة رهائنها، لكنها تبقي عينها على الهدف الأكبر: إنهاء وجود
حماس المسلح تماما، ولو بشكل مؤجل. وبين الطرفين تقف الدول الوسيطة، وقد وضع كل منها
هيبته وموارده في ميزان هذا الاتفاق، ما يخلق منظومة ضغط جماعية تحصر أي محاولة نكوص.
على
المدى القريب، سيتركز الاهتمام على تنفيذ المرحلة الأولى بحذافيرها: وقف إطلاق النار
الشامل، وتسليم الرهائن والأسرى، وبدء تدفق الشاحنات الإغاثية لإغاثة نصف مليون جائع
في غزة. هذه الخطوات إن تمت بسلاسة خلال الأيام الأولى ستبني ثقة متبادلة طال غيابها،
وقد تشجع على المضي قدما إلى المراحل التالية الأصعب؛ نزع السلاح، وإعادة الإعمار،
وإعادة تشكيل الحكم.
من
المنظور القانوني، تلك المراحل ستتطلب اتفاقات تفصيلية إضافية، ربما بروتوكولات أمنية
حول تفكيك السلاح بإشراف دولي، ومذكرات تفاهم حول تشكيل حكومة التكنوقراط وصلاحياتها،
وربما تفاهمات حول عقد انتخابات فلسطينية عامة بعد توحيد غزة والضفة لفرز قيادة شرعية
جديدة.
كل
ذلك سيفتح أبواب نقاش قانوني وسياسي واسع داخل البيت الفلسطيني وبين الأطراف المعنية،
لكن الاتفاق الحالي على الأقل يؤسس الأرضية لهذه النقاشات تحت مظلة وقف إطلاق النار،
بدلا من فوهة البنادق.
تفاؤلٍ مشوبٍ بالحذر: تفاؤلٌ مردّه إلى الطابع غير المسبوق للاتفاق من حيث شموليته واتساع الدعم الدولي له، وحذرٌ تمليه دروس التجربة، إذ طالما انهارت وعود السلام أمام عناد الاحتلال وتراجع الإرادة الدولية بمجرد انحسار وهج الأزمات
ليس
من السهولة بمكان تجاوز عقود من الحروب والجولات الدموية عبر اتفاق واحد، إلا أن شمولية
اتفاق تشرين الأول/ أكتوبر 2025 وتميّزه بوجود إجراءات رقابية وضمانات دولية قوية يجعلان
منه وثيقة فريدة قد تقلب معادلة الصراع جذريا. وإذا ما صدقت إسرائيل والتزمت بتعهداتها،
فقد نشهد انتشال غزة من دوامة الحروب والحصار إلى أفق جديد، يجعل سكانه يتلقطون أنفاسهم
ويبحثون عن فرص أفضل للحياة الكريمة.
تبقى
التحديات عديدة: هل سيوافق المقاتلون على تسليم سلاحهم طوعا؟ هل ستقبل القواعد الشعبية
بحكومة تدعمها أمريكا؟ هل سيلتزم المتشددون في إسرائيل بكبح جماح أي نزعات انتقامية؟
وهل سيفي العالم بتعهداته بإعادة الإعمار الضخم؟
كل
هذه أسئلة ستتم الإجابة عنها في قادم الشهور، وما سيساعد في التقييم هو استمرار المتابعة
القانونية الدقيقة لكل خطوة: من توثيق عمليات إطلاق السراح وتسجيلها، إلى مراقبة مدى
التزام إسرائيل بالانسحاب ورفع الحصار..
في
الختام، يُفضي هذا التقييم القانوني الأولي إلى تفاؤلٍ مشوبٍ بالحذر: تفاؤلٌ مردّه
إلى الطابع غير المسبوق للاتفاق من حيث شموليته واتساع الدعم الدولي له، وحذرٌ تمليه
دروس التجربة، إذ طالما انهارت وعود السلام أمام عناد الاحتلال وتراجع الإرادة الدولية
بمجرد انحسار وهج الأزمات.
ومع
ذلك، فإن التأطير القانوني الصارم للاتفاق -سواء في بنوده العشرين أو في الالتزامات
العلنية للقادة- يمنح المجتمع الدولي أداة للمساءلة لم تكن متوفرة قبلا، فإذا عادت
الحرب، فسيكون واضحا للجميع من المسؤول عن نسف اتفاق أجمعت عليه معظم دول العالم.