بعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023،
والتي تتم عامها الثاني اليوم، تمخض جدل
عربي وفلسطيني رسمي يتبرأ منها، ويحمل مسؤولية
ما جرى للمقاومة، وموقف غربي وأمريكي تمثل بتبرير جرائم الإبادة والدفاع عن
إسرائيل،
ومنحها غطاء حق الرد، وتقديم دعم دبلوماسي وعسكري لها. أدى كل ذلك لفشل المجتمع الدولي
في وقف هذه الجرائم، والتي أدين بسببها قادة الاحتلال كمجرمي حرب وضد الإنسانية، أمام
المحكمة الجنائية الدولية والعدل الدولية، فعطلت الولايات المتحدة مجلس الأمن بالفيتو،
وفرضت عقوبات على منظمات دولية تدين الاحتلال، وعاقبت جامعات وشخصيات ودول ترفض الإبادة
الجماعية بشكل واضح، وتطالب بعقاب إسرائيل ومحاكمة قادتها عن جرائم
الابادة وضد الإنسانية
في
غزة.
بعد كل الفشل من وقف جرائم الإبادة ومحاسبة ومعاقبة إسرائيل، بلورت الإدارة
الأمريكية خطة لوقف إطلاق النار في غزة، وافقت عليها إسرائيل، ورحبت بها أطراف عربية،
وقبلت بها حركة "حماس" مع تحفظ على بعض بنودها.
المطلوب فلسطينيا تكثيف عِبر ودروس الماضي، وحاضر جرائم إبادة غزة، في ظل ظروف عربية وإقليمية ودولية، وفي زمن منعطفٍ حاد يحصل على أرضٍ واحدة ولشعبٍ ينتظر توظيف هذه العبر، بما لا يكرر توظيف الوهم والعجز أو اعتماد سياسة الخنوع التي كانت السبب في تمدد العدوان والاحتلال والاستيطان والتهويد، وفرض الحصار وتحقيق التطهير العرقي
لكن، تبقى دلائل مهمة لتبلور الخطة الأمريكية، غير البعيدة عن تحقيق الأهداف
الإسرائيلية من حرب الإبادة، والقائلة بأن الصراع ينتهي باستسلام الطرف الفلسطيني وخضوعه
المطلق للاحتلال، وحرمانه من حقه في تقرير مصيره والعيش بموجب إرادته على أرضه التي
هي محور الجدل والصراع.
كشف الرئيس الأمريكي
ترامب، لموقع أكسيوس، أن أحد أهدافه من إنهاء الحرب هو "استعادة مكانة إسرائيل الدولية"،
وقال: "لقد ذهب نتنياهو بعيدا جدا، وخسرت إسرائيل الكثير من الدعم في العالم.
الآن سأستعيد كل هذا الدعم". مقابل هذا الهدف تتضح حقيقة سافرة، أن أمريكا
لا تؤيد قيام دولة فلسطينية، وإسرائيل ترفض بشكل مطلق أي كيان فلسطيني، وتعمل على الأرض
بخطى سريعة ومكثفة لإجهاض هذا الحق، فما الذي بيد الفلسطينيين من سلاح، غير الذي استخدموه
للدفاع عن أنفسهم وصد جرائم الاحتلال؟ وهل يمتلك العرب والفلسطينيون سلاحا دبلوماسيا
بمقدوره ردع إسرائيل عن وقف العدوان والاستيطان والتهويد والإقرار بالحقوق الفلسطينية؟
السلاح الفلسطيني الذي طالما نادى الجميع بإشهاره بوجه العدوان هو سلاح الوحدة
الفلسطينية، والإصلاح، والاتفاق على اإستراتيجية وطنية لا تمس جوهر حقوق الشعب الفلسطيني،
لا في أرضه، ولا ثوابته التاريخية، فإذا كان خطاب السلطة الرسمي بعد كل هذا الانكشاف،
يصر على الالتزام ببرنامجها واتفاقياتها (أوسلو وملحقاته) دون مراجعة، فذلك يعني البقاء
ضمن دائرة العجز عن مواجهة من داس على هذا الالتزام، والذي قوض وجود وعمل كل السلطة
وجعل منها هيكلا مشلولا ومسلوب الإرادة أمام عدوانه وأمام شعبها.
وبالتالي، المطلوب فلسطينيا تكثيف عِبر ودروس الماضي، وحاضر جرائم إبادة غزة،
في ظل ظروف عربية وإقليمية ودولية، وفي زمن منعطفٍ حاد يحصل على أرضٍ واحدة ولشعبٍ
ينتظر توظيف هذه العبر، بما لا يكرر توظيف الوهم والعجز أو اعتماد سياسة الخنوع التي
كانت السبب في تمدد العدوان والاحتلال والاستيطان والتهويد، وفرض الحصار وتحقيق التطهير
العرقي.
كذلك يجب التوضيح أن الموقف الأمريكي مهتم بوقف نزيف صورة اسرائيل، ومن مهام
خطة إنهاء الحرب، استعادة مكانة إسرائيل، وإخراجها من العزلة الدولية بفعل جرائم الإبادة
الجماعية وسياساتها العنصرية والفاشية؛ موقف يختصر الدور الأمريكي وعلاقته بإسرائيل،
فالصورة "الناصعة" لإسرائيل تزييفا وتزويرا كدولة "ديمقراطية"
في محيط استبداد عربي يجب استعادتها.
تطهير إسرائيل من جرائم الإبادة الذي تعهد ترامب بإنجازه، سيمر بعواصم عربية وإسلامية، للقول إن إسرائيل القوية والمهيمنة بعضلات القوة الأمريكية بإمكانها فرض تغطية وجهها القبيح؛ بقناع التطبيع والتعايش مع أنظمة عربية ترى في صور الإبادة الجماعية في غزة نصاعة مدهشة لـ"السلام" مقابل الخلاص من "إرهاب" مقاومة تتصدى لمجرمي حرب وإبادة
يتبين كذلك أن مؤثرات السياسة العربية الرسمية، مقابل نزيف الخسارة الفلسطينية
في الأرض والأرواح والقضية، تفتقد لدعم مماثل، كأن تستعيد القضية الفلسطينية صورتها
ومكانتها المركزية، كقضية تحرر وطني عادلة، وبدعم أصحابها في الصمود فوق الأرض ومقاومة
أعتى قوة فاشية، بينما واقع الحال يشير لعكس ذلك تماما، وفيه بعض من التطابق مع السياسة
الأمريكية الإسرائيلية؛ من تمسيخ صورة المقاومة الفلسطينية، إلى تجريمها وتشويهها ونعتها
بالإرهاب، وتلك كانت سردية بعض الإعلام العربي ولغة "نخب" أنظمة عربية تستخدم
قاموس المحتل في تجريم مقاومة الفلسطينيين، في وقت سقوط السردية الصهيونية في الغرب،
واعتراف ترامب وبعض لوبيات إسرائيل بصعوبة الدفاع عن جرائم الإبادة الجماعية، وعن سياسات
التطهير العرقي التي تعتمدها إسرائيل تجاه الفلسطينيين.
عبء وثقل صور جرائم الإبادة في غزة، لم تهز ضمير الإدارة الأمريكية والعالم
المنافق، بل صورة إسرائيل المزيفة ومكانتها الاستعمارية في المنطقة، وهي كانت كذلك
على مدار عقود، وزاد انكشافها
منذ السابع من أكتوبر 2023، لكن مع بلوغها مرتبة الملاطفة والتستر عليها،
عند سياسة عربية وغربية ترى في استمرار العلاقة مع مجرمي الحرب حتى في ذروة العدوان
على سيادة عربية؛ مصلحة تفوق مصلحتها ومصالح أمنها الوطني.
من هذا التأثير العكسي نشأ جدل مرفوض بمنطق القانون الدولي وشرائعه، لذلك، تطهير
إسرائيل من جرائم الإبادة الذي تعهد ترامب بإنجازه، سيمر بعواصم عربية وإسلامية، للقول
إن إسرائيل القوية والمهيمنة بعضلات القوة الأمريكية بإمكانها فرض تغطية وجهها القبيح؛
بقناع التطبيع والتعايش مع أنظمة عربية ترى في صور الإبادة الجماعية في غزة نصاعة مدهشة
لـ"السلام" مقابل الخلاص من "إرهاب" مقاومة تتصدى لمجرمي حرب وإبادة،
ولصوص أرض وتاريخ، فإن توقفت جريمة الإبادة الجماعية في غزة دون محاسبة المجرم، وعقاب
المحتل، ستتعاظم جرائم الاستيطان كما هي الآن، وتتسارع عمليات التهويد والتطهير العرقي
التي ترمي مجددا كل وهْم عربي وفلسطيني تصور أن العقبة هم الضحايا لا المجرمون.
فمن دون ربط عملية "طوفان الأقصى" أو أي عملية مقاومة في الضفة والقدس
بجذر من مشكلة مديدة عمرها من عمر نكبة الشعب الفلسطيني، فإن كل ترقيع للحالة الفلسطينية
لا يعبر عن قيم ومضامين فعلية للحقوق الفلسطينية؛ يعني أن البؤس السياسي الفلسطيني
العربي، والانكفاء عن استعادة منظمة التحرير لدورها ولمؤسساتها، لن يحميا أرضا وشعبا
وقضية، فالوضع سيبقى مختلا في بعده الفلسطيني والعربي. فإسرائيل لم تغادر أساطيرها
وأحلامها وأطماعها لا في "يهودا والسامرة" ولا عن إسرائيل الكبرى، فهل من
صحوة عربية، تتعهد بعودة قضية فلسطين لألقها وعمقها العربي، خصوصا أنها استعادت مكانتها
على الصعيد الدولي وفي شوارع غير عربية؟ أم سيبقى المسعى العربي ظلا لخطة ترامب لاستعادة
مكانة إسرائيل في عواصم عربية؟
x.com/nizar_sahli