أخيراً أقرت الأمم المتحدة ووكالاتها
الإنسانية، أن
غزة منطقة مجاعة منكوبة، و ضمناً بمسؤولية
الاحتلال الإسرائيلي عن
هندسة وإدارة حرب
التجويع المتبعة هناك، و صفَ وكيل الأمين العام للأمم المتحدة
توم فيشر إعلان المجاعة في غزة بأنه " لحظة عار جماعي " للمجتمع الدولي
كله، وصف يفتح نقاشاً ليس للبحث عن من يتحمل مسؤولية هذه الجريمة، بل للسعي إلى
فتح إجراءات ضد الاحتلال أمام العدالة الدولية، وتجريمه على ارتكاب جرائم الحرب
وضد الإنسانية ومنها جريمة التجويع.
الاعتراف الدولي بحدوث جريمة التجويع، لا
يقلل من عدم الاعتراف بجريمة الإبادة الجماعية، التي يتقاعس المجتمع الدولي
للاعتراف بحدوثها على الأرض، وذلك لتجنب المسؤولية القانونية والأخلاقية والسياسية
والأمنية عنها، غير أن الاعتراف بحدوثها والإشارة المباشرة للاحتلال عن هندسة هذه
الجريمة، وعرقلة دخول المساعدات، تعني أن انتكاسة قضائية وسياسية جديدة مني بها
الاحتلال الإسرائيلي على الصعيد الدولي، بالرغم من حالة النفاق الدولي التي تحاول
حمايته و التغطية على جرائمه، إلا أن المشهد الغربي لا يخلو من تململ واضح من هذا
النفاق، وآخره سلسلة الاستقالات التي هزت الحكومة الهولندية لإخفاقها بفرض عقوبات
على إسرائيل، وقبلها إقالة مسئول بالخارجية الأمريكية لتعاطفه مع طريقة إعدام
الاحتلال لطاقم صحفيي قناة الجزيرة وتقديم التعازي لعائلاتهم.
إذ لا يمر وقت، حتى تخرج بعض التصريحات
والمواقف الغربية، التي يشار إليها بالجريئة والغير مسبوقة برفض سياسات إسرائيل،
وتوجيه الاتهام الصريح لها بارتكاب جرائم الإبادة، مواقف تدعو لفرض العقوبات على
اسرائيل، ومنع تصدير السلاح لها وسحب السفراء، إلى المضي بإعلان الاعتراف بالدولة
الفلسطينية، وغيرها من مواقف أصبحت محفوظة لقادة دول، و سياسيين ومشاهير، ونخب
مختلفة من الثقافة والأكاديميا إلى السينما والمسرح والموسيقا والفن، بالإضافة
لغضب شوارع دولية من جرائم الاحتلال، جميعها تحاصر السردية الصهيونية لتبرير جريمة
الإبادة، التي ما عاد معها لقصة السابع من أكتوبر 2023 وسردية " معاداة السامية "غير منصة
متهاوية للمتابع الغربي لجرائم الحرب والإبادة والتطهير العرقي وإزهاق أرواح عشرات
آلاف الضحايا، وأصبح الحديث عن الاحتلال والاستعمار وإرهاب عصابات الاستيطان
وتدمير حل الدولتين محل النقاش عن سردية " إرهاب " مقاومة الفلسطينيين
لمحتلهم، وبعد ما ظن الاحتلال ومن خلفه الإدارة الأمريكية بزعامة ترامب، أنه
بمقدوره قمع العالم كله لخدمة الجريمة الصهيونية.
إذا كان العالم العربي بأنظمته وشعوبه ينتمي للمنظومة الدولية الغاضبة و القائلة أنه كان بالإمكان منع استمرار إسرائيل ارتكاب الجرائم وتفادي سقوط مئات آلاف الضحايا، فيفترض أن هناك ما يستدعي مراجعة سريعة لكل سياسة التخاذل والتواطؤ، على أقل تقدير وقف التطبيع مع مجرمي الحرب، وسحب السفراء والتحلي ببعض المسؤولية الأخلاقية والسياسية والأمنية والقانونية..
صحيح أن وكالات الأمم المتحدة أعلنت جريمة
التجويع في غزة، ولا تملك صلاحية استخلاص النتائج السياسية المترتبة على إعلانها،
لكن، بقرعها جرس جريمة التجويع في غزة، تضع العالم أمام مسؤولياته، والعالم العربي
هو واحد من المسؤولين بشكل مباشر للتسلح بهذا الإعلان، على الأقل لاتخاذ تدابير
عاجلة لوقف مذبحة التجويع وجريمة الإبادة، بدل الاكتفاء بتلاوة بيان الأمم المتحدة
عن المجاعة في غزة، وتعداد الضحايا ونقل الصورة، الأمر الذي يعني استمرار العجز
والإحباط والغضب من هكذا سياسيات، وعلى الرغم من ضعف ردود الفعل السياسية على وصف
الأمم المتحدة لجريمة التجويع على الأرض، والقول أنه كان بالإمكان منع حدوث تلك
المجاعة، أيضاً هناك من ظل يهمس ويصرخ بوجه العالم أنه كان بالإمكان وقف كل جرائم
الإبادة والحرب وضد الإنسانية في غزة، لولا هذا التواطؤ بالجريمة، والعار بالصمت
عنها، لذلك يظل البحث عن شيء مشابه على الجبهة السياسية العربية الغارقة في الصمت
من الأمور المخزية التي انطبعت في العقل العربي عن سياسات أنظمته اتجاه العدوان
المستمر.
إن ما بعد الاعتراف بجريمة التجويع، تعني
إشارة صريحة لمسؤولية الاحتلال عنها، وأن العالم لم يعد يطيق نفسه من هذا الخزي
والعار والمضي بحالة العجز والصمت الدولي عنها، وإذا كان العالم العربي بأنظمته
وشعوبه ينتمي للمنظومة الدولية الغاضبة و القائلة أنه كان بالإمكان منع استمرار
إسرائيل ارتكاب الجرائم وتفادي سقوط مئات آلاف الضحايا، فيفترض أن هناك ما يستدعي
مراجعة سريعة لكل سياسة التخاذل والتواطؤ، على أقل تقدير وقف التطبيع مع مجرمي
الحرب، وسحب السفراء والتحلي ببعض المسؤولية الأخلاقية والسياسية والأمنية
والقانونية التي بمقدورها أن تجبر الاحتلال على وقف الجريمة، بدل الإصرار على
مراكمة العجز الذي ينخر الأمن العربي، ويفتح من شهية المشروع الصهيوني الاستعماري
التوسعي، تقرع أجراس مخاطره من أبواق صهيونية فاشية كل يوم، من باحات القدس ومن مدن الضفة وتصل الى
الجنوب السوري واللبناني حتى أطرف الجزيرة العربية ومصر.
أخيراً، الجريمة كما يعرفها العالم كله، بالأمم المتحدة
وأعضائها، ومنهم العرب طبعاً، ليست مقتصرة على جريمة التجويع وتفاديها بالشكل
الإنساني المطلوب، والمفقود في واقع الأمر، القضية تتعلق بحق شعب بالحياة وبالتحرر
من الاحتلال ومن بنيته الفاشية، ومناصرة قضية الشعب الفلسطيني على أساس عدالتها
ومنبع حق شعبها بأرضه، وعلى أساس الرفض القاطع لسياسات الاحتلال وجرائمه، وعليه،
يفهم الغضب الشعبي والرسمي من الاحتلال الإسرائيلي في المنظومة الدولية، والتي
يحاول العالم العربي الخروج منها بهدوء بدون فاعلية وغضب مطأطئ الرأس خفيض الفعل
واللسان، بينما تحاول بعض المنظومة الدولية أن تبعث فيه بعض الحياة بفعلٍ مباشر،
وغضبٍ ملموس بإرادة قطع العلاقة مع المحتل، والاستقالة من منظومة التواطؤ والعجز
والنفاق، وهو يُصر أن يقدم هدوء يخدم المذبحة والتطهير العرقي الذي سيقال عنهما
"كان بالإمكان منع حدوث كل ذلك" لكن بعد فوات الأوان، وبعد فقدان
الشجاعة والكرامة، التي تمنح المحتل كل هذا الاطمئنان من جبهة عربية هادئة، مقابل
أنظمة وشعوب وسياسات غير عربية، لم تعد تحتمل رعونة وصفاقة وغطرسة إسرائيل وفاشية
حكومتها، بينما المفجع أن بعضنا العربي ممسك بعكس ذلك.