هل أصبح القصف الوحشي لمستشفى ناصر في
غزة
مجرد فصل جديد في مسلسل طويل من الجرائم التي تحولت إلى أخبار عابرة، يمر بها
العالم بصمت قاتل؟ هل يُعقل أن يُقتل 20 شخصًا، بينهم 5 صحفيين يشكلون العين
والذاكرة والضمير الحر، في مكان من المفترض أن يكون ملاذًا للإنسانية، ولا يتحرك
العالم إلا بتصفيق للصمت؟ أم أن الولايات المتحدة الأمريكية، التي برزت في عهد
ترامب كأشد الرعاة لدولة
الاحتلال، صنعت هذه المأساة بعجزها المتعمد أو صمتها
المطبق؟
بين صمت العالم وصخب الصواريخ.. هل انتهت
الإنسانية؟
في 2025، وقصف مستشفى ناصر الذي راح ضحيته
عشرات الأبرياء، بينهم خمسة صحفيين مميزين مثل محمد سلامة، مصور قناة الجزيرة،
ومريم أبو دقة، وحسام المصري، ومعاذ أبو طه، وأحمد أبو عزيز، يفتح هذا الحدث
الأليم أعيننا على واقع مروّع؛ دماء
الفلسطينيين لا تزال تُسكب بلا هوادة، والغرب
يتفرج بلا حراك يُذكر.
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة
في أكتوبر/تشرين الأول 2023، قُتل حتى الآن ما بين 174 و240 صحفيًا وصحفية، بحسب
تقديرات موثوقة لكل من لجنة حماية الصحفيين، والاتحاد الدولي للصحفيين، ومكتب
إعلام الحكومة في غزة، ومنظمات دولية أخرى، ما يجعل هذه الحرب من أكثر الحروب
دمويةً ضد الصحافة في التاريخ الحديث.
هذا القصف ليس حادثًا عابرًا، بل هو ترجمة
فعلية لـ"الاستراتيجية الصهيونية" التي تبنتها إدارة ترامب، التي وصفتها
الناشطة فرانشيسكا ألبانيز بأنها “الأكثر صهيونية” في تاريخ العلاقات
الأمريكية-الإسرائيلية، حيث لا تتورع إسرائيل عن ارتكاب ما تسميه ألبانيز
"إبادة جماعية".
لا يمكن فهم صمت واشنطن إزاء مجازر غزة من دون التذكير بالسياسة الأمريكية التي أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل في عهد ترامب. لقد شهدنا تقارير تؤكد أن إدارة ترامب لم تكن فقط متواطئة، بل فاعلة في تعزيز قدرات الاحتلال وتغطية جرائمه، حتى إن مسؤولين سابقين في الخارجية الأمريكية وصفوا هذه الإدارة بأنها "تغذي نظامًا يقوم على التنكيل والإبادة".
لكن السؤال الأكثر استفزازًا: لماذا يقبل
المجتمع الدولي أن يتحول البشر إلى مجرد أرقام في إحصائيات عنف لا تتوقف؟ هل صارت
حياة الفلسطيني أقل قيمة من مصالح سياسية واقتصادية؟ وكيف يمكن للعرب أن يواجهوا
هذا التوحش الذي لا يرحم؟
إدارة ترامب ودور فاعل في تعميق المأساة
الفلسطينية
لا يمكن فهم صمت واشنطن إزاء مجازر غزة من
دون التذكير بالسياسة الأمريكية التي أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل في عهد ترامب.
لقد شهدنا تقارير تؤكد أن إدارة ترامب لم تكن فقط متواطئة، بل فاعلة في تعزيز
قدرات الاحتلال وتغطية جرائمه، حتى إن مسؤولين سابقين في الخارجية الأمريكية وصفوا
هذه الإدارة بأنها "تغذي نظامًا يقوم على التنكيل والإبادة".
إحدى أهم الإحصائيات التي تم كشفها مؤخرًا
تُظهر أن الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل في عهد ترامب وصل إلى أرقام قياسية
تجاوزت قيمتها 16 مليار دولار، بما في ذلك تزويدها بأحدث الأسلحة التي استخدمت في
مجازر مثل قصف مستشفى ناصر.
إن الصحفيين الخمسة الذين ارتقوا شهداء،
يمثلون جزءًا من الحقيقة التي يُراد طمسها. هؤلاء كانوا يمارسون مهنتهم في توثيق
الحقيقة رغم الخطر، لكن غياب الحماية الدولية جعلهم أهدافًا سهلة.
من يحمينا؟ هل هناك من سيحاسب؟
إن أخطر ما في هذه المرحلة، أن تتحول
المجازر إلى روتين، وأن تتحول الصور إلى مجرد تزيين للنشرات لا أكثر.
أكثر من 62 ألف شهيد في غزة منذ اندلاع
الحرب في 7تشرين الأول/أكتوبر2023، وحتى 23 آب/ أغسطس 2025، بحسب وزارة الصحة
الفلسطينية، وفقًا لبيانات نشرها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية،
بينهم عشرات الآلاف من النساء والأطفال، وتدمير شامل للبنية التحتية، وسط حصار
خانق، وانقطاع الكهرباء والماء، وتجويع جماعي، وتهجير ممنهج، في مشهد لا يمكن إلا
أن يُوصف بأنه تطهير عرقي مُصوَّر على الهواء مباشرة.
“الصمت الدولي
هو إذن الجريمة”، كما قالت فرانشيسكا ألبانيز، الناشطة الحقوقية التي لا تخشى وصف
الوقائع بالاسم. ولكن هل يكتفي العالم بمشاهدة هذا المشهد المروع من دون أن يحرك
ساكنًا؟ الأمم المتحدة، التي يعاني نظامها من شلل مزمن، لم تُصدر سوى بيانات تنديد
ضعيفة لا تزيد عن كلمات جوفاء، فيما الجلاد يواصل قصفه بلا رحمة.
أما العرب، فقد ظلوا كما كانوا، شبحًا يراقب
ويتباكى، لكن دون خطة أو استراتيجية واضحة.
كيف يمكن مواجهة التوحش الإسرائيلي في ظل
انقسام سياسي عميق، وصراعات إقليمية تلتهم الموارد والأولويات؟ هل على الفلسطينيين
أن يستمروا في المعاناة وحدهم؟
دروس من التاريخ.. هل نتعلم من مآسي الماضي؟
تذكير سريع بتاريخ طويل من الجرائم المشابهة
يفرض علينا مراجعة ذاتية.
لم تكن المذابح الجديدة في غزة مختلفة عن
مجازر صبرا وشاتيلا أو مجازر الحرب العالمية الثانية التي حصدت أرواح الملايين، بل
ربما هي أكثر بشاعة لأنها تحدث في زمن ادعى فيه العالم تقدمه الأخلاقي.
إن التاريخ يخبرنا أن الصمت لا يدوم، وأن
العدالة قد تأخذ وقتًا لكنها ستتحقق لا محالة. فهل سنكون يومًا ما شهودًا على
انهيار هذا الصمت؟ وهل ستبرز أصوات جديدة تدفع العالم للوقوف بحزم ضد احتلال
يستهين بالمواثيق والأعراف الدولية والإنسانية؟
كيف يمكن إعادة رسم خارطة المواجهة؟
إن مواجهة هذا التوحش الإسرائيلي تتطلب
إعادة بناء الوحدة الفلسطينية، فبدون توحيد الكلمة والجهود، تبقى المواجهة هشّة
وضعيفة أمام آلة الاحتلال.
كما أن هناك حاجة لتفعيل الضغط العربي
والدولي المتزامن، إذ يجب أن يتحول الغضب العربي إلى تحرك سياسي حقيقي، ومقاطعة
اقتصادية، وعزل دبلوماسي لإسرائيل، مع فرض عقوبات فعلية.
ولابد من حماية الصحفيين ودعم حرية الإعلام؛
لأن الصحافة الحرة هي آخر خطوط الدفاع ضد الاحتلال والتزييف.
إن التاريخ يخبرنا أن الصمت لا يدوم، وأن العدالة قد تأخذ وقتًا لكنها ستتحقق لا محالة. فهل سنكون يومًا ما شهودًا على انهيار هذا الصمت؟ وهل ستبرز أصوات جديدة تدفع العالم للوقوف بحزم ضد احتلال يستهين بالمواثيق والأعراف الدولية والإنسانية؟
كما أن التحرك في المحافل الدولية يحتاج أن
يكون بشكل أكثر حزمًا، بدءًا من مجلس الأمن، وصولًا إلى المحكمة الجنائية الدولية
لمحاسبة مجرمي الحرب.
تكريس الجهود لتوعية
الرأي العام العالمي،
وحتى لا تُترك القضية تحت رحمة الإعلام الموجه، يجب دعم مبادرات التضامن والإعلام
المستقل.
خاتمة: الدم الفلسطيني يصرخ.. هل من مجيب؟
لم يعد القصف مجرد تفجير مبانٍ، بل تفجير
للضمير الإنساني العالمي. إن
مجزرة مستشفى ناصر في غزة، حيث قُتل الصحفيون وهم
يسجلون الحقيقة، هي صرخة حقيقية تنبّهنا إلى أن معادلة الصمت لن تظل قائمة، بل
ستنهار.
هل يستمر العالم في تقبل هذه المجازر كجزء
من المشهد السياسي، أم أن هناك من سيُحدث الفارق؟ هل ينتظر العرب حتى تُراق دماء
أبنائهم بلا حساب، أم أن الوقت قد حان لتغيير قواعد اللعبة؟
الدم الفلسطيني ليس مجرد رقم، ولا الصحفيون
الذين استشهدوا كانوا مجرد ضحايا عابرين. هم جرح البشرية الذي يرفض الصمت،
والتاريخ سيحاسب كل من غيّبهم أو تجاهلهم.