قضايا وآراء

الاعتراف بالدولة الفلسطينية: خطوة مهمة ولكنها بداية لا نهاية

"الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس منّة من أحد، بل حق طبيعي تأخر كثيرا في نيل الاعتراف به"- جيتي
إعلان بعض الدول الغربية والعالمية اعترافها الرسمي بالدولة الفلسطينية لم يُدخل البهجة إلى قلوب الفلسطينيين وحدهم، بل عمّق شعورا بالانتصار المعنوي لدى كل أنصار الحرية والحقوق الفلسطينية حول العالم. ففي الشوارع والجامعات والعواصم الأوروبية والأمريكية اللاتينية، ترددت أصداء هذا الاعتراف كتصحيح، ولو متأخر، لظلم تاريخي، ورسالة بأن تضحيات الفلسطينيين لم تذهب سدى. هذه الاعترافات تحمل قيمة رمزية وقانونية كبرى، فهي تكرّس حق الفلسطينيين في تقرير المصير، وتمنحهم مكانة أوضح في المؤسسات الدولية، وأدوات أوسع لملاحقة الاحتلال أمام المحاكم والهيئات الأممية. لكنها في الوقت نفسه ليست الضمانة الكافية لتأسيس دولة فعلية ذات سيادة ومؤسسات؛ إنما هي نقطة انطلاق لا بد أن تليها خطوات عملية على الأرض.

وفي المقابل، قوبلت هذه اللحظة بحالة غضب وانفعال شديد في إسرائيل، عبّر عنها قادتها بالقول إن الاعترافات "مكافأة للإرهاب". هذا التباين بين الفرح الفلسطيني وأنصار قضيته من جهة، والغضب الإسرائيلي من جهة أخرى، يكشف جوهر الصراع: فبينما يرى الفلسطينيون في الاعتراف تصحيحا لمسار العدالة، تراه إسرائيل تهديدا استراتيجيا لمشروعها التوسعي.

إعلان الدولة الفلسطينية، على أهميته الرمزية والقانونية، لا يمكن أن يتحول إلى واقع ملموس ما لم تتبعه خطوات عملية متكاملة. وأول هذه الخطوات وقف الحرب فورا ومحاسبة إسرائيل على جرائم الإبادة

ومن هنا تنبع الأسئلة الجوهرية: هل تكفي الاعترافات وحدها لبناء دولة، أم أنها مجرد خطوة رمزية تحتاج إلى إجراءات توقف الحرب وتفكك منظومة الاحتلال؟ وهل يمكن أن تقوم دولة من دون القدس التي أعلنت إسرائيل ضمها، أو من دون ضمان حق العودة لملايين اللاجئين المشردين منذ أكثر من سبعة عقود؟ ثم ماذا عن الضفة الغربية التي تبتلعها سياسات الاستيطان والضم؟ أليست هذه كلها شروطا جوهرية تجعل من الاعتراف بداية تحتاج إلى ترجمة عملية عاجلة على الأرض؟

ما الذي يجب أن يتبعه الإعلان؟ خطوات عملية لا بد منها

إن إعلان الدولة الفلسطينية، على أهميته الرمزية والقانونية، لا يمكن أن يتحول إلى واقع ملموس ما لم تتبعه خطوات عملية متكاملة. وأول هذه الخطوات وقف الحرب فورا ومحاسبة إسرائيل على جرائم الإبادة، إذ لا معنى لدولة تُقام تحت الحرب والتجويع والقتل، بل يجب أن تكون التحقيقات والمساءلات جزءا أساسيا من أي عمل سياسي. كما أن إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان وفتح الحواجز شرط جوهري، وبدون ذلك ستظل الحدود والقدس شعارات بلا مضمون، فالقدس التي أعلنت إسرائيل ضمها تمثل قلب الهوية الفلسطينية، ولا يمكن تصور دولة من دونها كعاصمة. ومع أن إسرائيل أقدمت على هذا الضم بقرار أحادي سنة 1980، فإن مجلس الأمن في قراره 478 اعتبر الخطوة باطلة ودعا الدول إلى عدم الاعتراف بها، ما يجعل أي تسوية تتجاوز مسألة القدس خروجا صريحا على الشرعية الدولية.

وإلى جانب هذه القضايا، لا بد أن يتناول أي اعتراف بالدولة حق اللاجئين الفلسطينيين، الذين يزيد عددهم اليوم عن ستة ملايين لاجئ منذ أكثر من 78 عاما، رغم وجود قرارات دولية واضحة تضمن لهم حق العودة (قانون دولي عرفي فضلا عن نصوص قانونية تعاقدية ثم قرارات ذات صلة وعلى رأسها القرار 194). فهل يمكن أن يضيع حقهم بالتقادم، وتُطوى معاناتهم مع مرور العقود؟ لذلك، فإن الاعتراف بالدولة لا يكتمل ما لم يتضمن ضمانات فعلية لعودة اللاجئين وصون حقوقهم. كما أن وجود آليات ضمان دولية قابلة للتنفيذ يعد ضرورة لضمان تطبيق الاتفاقات ومنع العودة إلى سياسة فرض الأمر الواقع.

ويبقى توحيد الصف الفلسطيني عبر حكومة وحدة انتقالية، ومصالحة حقيقية، وانتخابات حرة تعيد الشرعية الشعبية، ركيزة أساسية لنجاح أي مشروع دولة.

الخطر الكبير: ربط الاعتراف بنزع أسباب القوة الفلسطينية
الدولة لا تُبنى على الفراغ الأمني، ولا على شروط تُضعف الطرف الأضعف أصلا. والبديل الواقعي ليس نزع الوسائل فورا، بل مسار تدريجي يبدأ بوقف الحرب وتفكيك آليات العدوان الإسرائيلي أولا، ثم وضع ضمانات دولية ملزمة تردع أي خرق

إن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، مهما بدا خطوة إيجابية، يصبح خطيرا حين يُقدَّم كـ"جائزة" مشروطة بنزع الوسائل الدفاعية أو القيود عن قدرة الفلسطينيين على حماية أنفسهم، بدلا من أن يكون مطلبه الأول وقف الحرب ومحاسبة إسرائيل على جرائمها. ففي هذه الصياغة الملتبسة، يتحول الاعتراف إلى مجرد إرضاء شكلي يسكّن الضمير الدولي، بينما يستمر تدفق السلاح والدعم الاستخباراتي إلى إسرائيل بلا توقف. والأسوأ أنه يضع الفلسطينيين أمام مقايضة ظالمة: التخلي عن أدواتهم الدفاعية أو عن جزء من خياراتهم السياسية والدبلوماسية قبل أن يتحقق لهم أمن أو عدالة، ما يفتح الباب لانفجار داخلي جديد وصراع متجدد. وهنا يبرز السؤال الجوهري: كيف يمكن أن تقوم دولة لا تستطيع حماية نفسها؟

لا يمكن لأي مشروع وطني أن ينجح إذا فُرض على شعب أعزل في وجه قوة محتلة. فالدولة لا تُبنى على الفراغ الأمني، ولا على شروط تُضعف الطرف الأضعف أصلا. والبديل الواقعي ليس نزع الوسائل فورا، بل مسار تدريجي يبدأ بوقف الحرب وتفكيك آليات العدوان الإسرائيلي أولا، ثم وضع ضمانات دولية ملزمة تردع أي خرق. بعد ذلك يمكن بحث خطط مرحلية لدمج المكوّنات المسلحة ضمن أطر أمنية ومدنية مؤسسية -ومعزَّزة بآليات رقابة قانونية ودولية- ترافقها عملية إعادة بناء مؤسسات الدولة وتوحيدها على أسس ديمقراطية. إن الحديث عن نزع قدرات الردع أو تجريد الفلسطينيين من أدوات المقاومة السياسية والدبلوماسية بمعزل عن ضمان أمنهم ومحاسبة الاحتلال، ليس سوى وصفة لدولة هشة لا تملك القدرة على حماية مواطنيها، وبالتالي هو تكريس للأزمة لا حلا لها.

كما أن الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس منّة من أحد، بل حق طبيعي تأخر كثيرا في نيل الاعتراف به. لقد أعاد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بما مثّله من صدمة كبرى وصمود أسطوري في غزة وتضحيات جسيمة للشعب الفلسطيني، تسليط الضوء على القضية بعد عقود من الإهمال والتجاهل. وقد عبّر الأمين العام للأمم المتحدة بوضوح حين قال إن ذلك اليوم "لم يأتِ من فراغ"، بل كان ثمرة عقود من الاحتلال والحرمان والجرائم الممنهجة. ومع ذلك، يبرز في الخطاب الدولي اتجاه مقلق يحاول أن يربط الاعتراف بتجريد الفلسطينيين من مقومات صمودهم، مهما كانت محدودة مقارنة بترسانة إسرائيل، بدلا من تركيز الجهود على وقف الحرب ومحاسبة الاحتلال على سياساته الاستعمارية. وهنا تكمن الخطورة: أن يتحول الاعتراف إلى إجراء رمزي مشروط، فيما تبقى جذور الاحتلال على حالها بلا مساءلة أو رادع.