يمثل وقف إطلاق النار
الأخير في
غزة أكثر من مجرد هدنة مؤقتة؛ فهو لحظة كاشفة تفضح ديناميكيات القوة المتغيرة
في الشرق الأوسط والاعتراف العالمي المتزايد بالنضال
الفلسطيني. ورغم هشاشة الاتفاق،
فقد أجبر الأطراف الإقليمية والدولية على مواجهة حقائق لطالما حاولت
إسرائيل طمسها.
إن وقف إطلاق النار هذا ليس مجرد صفقة تكتيكية، بل يعكس نظاما إقليميا متغيرا عادت
فيه القضية الفلسطينية لتفرض نفسها كمسألة محورية للعدالة والشرعية السياسية.
صفقة مرحلية بتداعيات
عميقة
إن وقف إطلاق النار
بين إسرائيل وحماس هو صفقة ذات طابع مرحلي وتفصيلي. لقد جرى التفاوض عليها خطوة بخطوة،
مع التركيز على التبادلات الفورية والتدابير المؤقتة بدلا من رؤية طويلة الأمد. ورغم
أنها لا تمثل سوى المرحلة الأولى مما قد يصبح عملية أوسع، إلا أنها قد تنهار في أي
لحظة إذا أخفق أي من الطرفين في الوفاء بالتزاماته.
تدخل إسرائيل هذه
العملية بقوة عسكرية كبيرة، ولا تزال هي القوة المهيمنة على الأرض. ومع ذلك، فإن قدرتها
على إملاء الشروط بشكل أحادي تواجه تحديا متزايدا بسبب التدخل المتنامي للدول الإقليمية
والوسطاء الدوليين. فقد لعبت كل من قطر وتركيا ومصر والولايات المتحدة أدوارا أساسية
في صياغة الاتفاق، وتعمل هذه الأطراف الفاعلة بشكل متزايد على موازنة القوة الإسرائيلية،
مستخدمة الدبلوماسية والوساطة والضمانات الأمنية لتشكيل النتائج.
إعادة توزيع النفوذ هذه تقلل من قدرة إسرائيل على عزل القضية الفلسطينية، فقد أدركت القوى الإقليمية أن التطبيع مع إسرائيل، دون معالجة حقوق الفلسطينيين، لا يجلب استقرارا حقيقيا، وتُظهر مفاوضات وقف إطلاق النار أن إسرائيل لا يمكنها تجاوز المطالب الفلسطينية بالاعتماد فقط على صفقات ثنائية مع الحكومات العربية
تحولات في موازين
القوى الإقليمية
تعكس تركيبة طاولة
المفاوضات ما يمكن تسميته "شرق أوسط جديدا". ففي الماضي، هيمنت الدول العربية
الكبرى على الدبلوماسية من خلال المبادرات العربية الجامعة، أما اليوم، فقد برزت دول
خليجية أصغر كوسطاء حاسمين بفضل علاقاتها الفريدة مع كل من الحكومات الغربية وجماعات
مثل
حماس، كما تلعب تركيا ومصر أدوارا نشطة أيضا.
إن إعادة توزيع النفوذ
هذه تقلل من قدرة إسرائيل على عزل القضية الفلسطينية، فقد أدركت القوى الإقليمية أن
التطبيع مع إسرائيل، دون معالجة حقوق الفلسطينيين، لا يجلب استقرارا حقيقيا، وتُظهر
مفاوضات وقف إطلاق النار أن إسرائيل لا يمكنها تجاوز المطالب الفلسطينية بالاعتماد
فقط على صفقات ثنائية مع الحكومات العربية.
موقع إسرائيل من القوة
وحدوده
تواصل إسرائيل الاعتماد
على قوتها العسكرية الساحقة لفرض إرادتها، إلا أن هذه الاستراتيجية قد بلغت حدودها.
فبعد عامين من القصف على غزة، واجهت إسرائيل انتقادات دولية متزايدة بسبب الخسائر الهائلة
في صفوف المدنيين، وتدمير البنية التحتية، والعقاب الجماعي، وقد تحول الرأي العام العالمي
بشكل حاد، وبدأت دول عديدة بالضغط من أجل المساءلة.
في الوقت نفسه، أضعفت
الانقسامات السياسية الداخلية في إسرائيل قدرتها على صياغة استراتيجية متماسكة طويلة
الأمد. فقد تطلبت التنازلات من جانبها ضغوطا سياسية من أطراف خارجية، حتى إن الولايات
المتحدة اضطرت إلى ممارسة ضغوط قوية لدفع حكومة نتنياهو إلى قبول جوانب من الاتفاق،
وهذا يوضح أن قوة إسرائيل ليست مطلقة وأن الضغط الدولي يمكن أن يشكّل سلوكها.
وقف إطلاق النار لا
يعالج القضايا الجوهرية
على الرغم من أهميته،
فإن وقف إطلاق النار لا يحل أيا من القضايا السياسية الجوهرية. فمستقبل الحكم في غزة،
والسيطرة على الحدود، والترتيبات الأمنية، وإعادة الإعمار، كلها قضايا لا تزال معلقة.
كما أن الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية مستمر، ولا توجد خطة متفق عليها للسيادة
الفلسطينية أو لإنهاء عقود من التمييز المنهجي والتهجير.
وصف العديد من المحللين
وقف إطلاق النار بأنه تكتيكي وليس استراتيجيا، فبدون معالجة الأسباب الجذرية تظل مثل
هذه الاتفاقيات مؤقتة. وتتردد هذه الرؤية في الأصوات الفلسطينية التي تؤكد أن الاحتلال
والظلم هما المصدر الحقيقي لعدم الاستقرار.
عودة الصوت الفلسطيني
إلى الواجهة
أعادت هذه المواجهة
القضية الفلسطينية إلى صدارة الأجندة الدولية، ففي السنوات الأخيرة، سعت إسرائيل إلى
تطبيع علاقاتها مع الدول العربية مع تجاوز الحقوق الفلسطينية، وهي استراتيجية انكشفت
الآن. لقد أظهرت الحرب وما تلاها من وقف لإطلاق النار أنه لا يمكن لأي ترتيب إقليمي
أن يكون مستقرا دون حل عادل للفلسطينيين.
بات من الواضح أيضا
أن التطبيع بلا عدالة لا معنى له، فالفلسطينيون يطالبون بالسيادة والكرامة والاستقلال،
ولا يمكن للهدن المؤقتة والحوافز الاقتصادية أن تحل محل هذه الحقوق الأساسية. لقد عزز
وقف إطلاق النار من المطالبة الأخلاقية والسياسية للفلسطينيين على الساحة العالمية.
التنفيذ هو الاختبار
الحقيقي
يعتمد نجاح وقف إطلاق
النار أو فشله على التنفيذ؛ يجب على الوسطاء مراقبة وفرض الالتزامات، فبدون ضمانات
موثوقة يمكن أن ينهار الاتفاق. ويجب على الأطراف الإقليمية أن تظل منخرطة للحفاظ على
حيوية العملية. تُعد آليات الإنفاذ ضرورية، ففي غياب المساءلة، كثيرا ما انتهكت إسرائيل
الاتفاقات السابقة دون عواقب تذكر. ويجب على المجتمع الدولي ضمان معالجة الانتهاكات
والدفاع عن حقوق الفلسطينيين، لأن الفشل في ذلك سيؤدي حتما إلى تجدد الصراع.
حل الدولتين يظل هو
الأساس
أظهر الفلسطينيون صمودا في وجه قوة غاشمة، وعادت قضيتهم للظهور بقوة متجددة. والآن تواجه الدول الإقليمية والقوى العالمية اختبارا واضحا: هل ستسمح لإسرائيل بمواصلة سياسات الهيمنة، أم ستدعم حلا سياسيا عادلا ودائما؟
على الرغم من سنوات
الجمود، يظل حل الدولتين هو المسار الوحيد القابل للحياة لتحقيق سلام دائم، ولا يوجد
بديل يمكنه تحقيق الاستقرار والأمن والعدالة. بالنسبة للفلسطينيين، يعني هذا دولة مستقلة
ذات سيادة حقيقية، وبالنسبة للإسرائيليين، يعني قبول أن الاحتلال لا يمكن أن يستمر
إلى ما لا نهاية دون عواقب.
يوفر وقف إطلاق النار
نافذة ضيقة لإعادة إطلاق مناقشات سياسية جادة، وإذا تم استغلالها بحكمة، فقد تكون بداية
لتحول أوسع، وإذا تم تجاهلها، فستصبح فرصة أخرى مهدرة.
لحظة اختيار
يكشف وقف إطلاق النار
في غزة عن مسارين متنافسين: الأول هو استمرار الاحتلال والقمع ودوامات الحرب، وهو مسار
أدى إلى الدمار والعزلة والإدانة الأخلاقية لإسرائيل، والآخر هو التحول نحو العدالة،
والاعتراف بالحقوق الفلسطينية، والتعاون الإقليمي الحقيقي.
لقد أظهر الفلسطينيون
صمودا في وجه قوة غاشمة، وعادت قضيتهم للظهور بقوة متجددة. والآن تواجه الدول الإقليمية
والقوى العالمية اختبارا واضحا: هل ستسمح لإسرائيل بمواصلة سياسات الهيمنة، أم ستدعم
حلا سياسيا عادلا ودائما؟
إن وقف إطلاق النار
هذا ليس نهاية المطاف، بل هو مؤشر على واقع متغير. لا تزال القوة العسكرية الإسرائيلية
كبيرة، لكن قدرتها على التحكم في السردية السياسية آخذة في التضاؤل. لقد استعادت القضية
الفلسطينية زخمها على الساحة الدولية، وأصبحت الأطراف الإقليمية أكثر حزما.
يمكن تحويل صفقة مرحلية
إلى اختراق سياسي إذا كانت هناك ضغوط متواصلة من أجل العدالة والمساءلة. يجب على العالم
ألا يسمح لإسرائيل بتحويل هذه اللحظة إلى مجرد استراحة مؤقتة قبل تجدد العنف، فالسلام
الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال إنهاء الاحتلال والاعتراف بالحقوق الفلسطينية،
وأي شيء أقل من ذلك سيضمن أن التاريخ سيكرر نفسه.