قضايا وآراء

مزاعم ترامب حول "الشريعة" تغذي حربا ثقافية عالمية آخذة في الاتساع

"استقطب خطاب ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة اهتماما عالميا"- البيت الأبيض
في خطاب ألقاه أمام الأمم المتحدة في أواخر أيلول/ سبتمبر 2025، اتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لندن بـ"التوجه نحو تطبيق الشريعة"، ووصف عمدة المدينة صادق خان بأنه "عمدة سيئ للغاية". كما صعّد ترامب من حدة انتقاداته للمرشح الأوفر حظا لمنصب عمدة نيويورك، زهران ممداني، مصورا إياه كشخصية راديكالية ستقوض القانون والنظام. كلا الاتهامين يوحي بأن القادة المسلمين أو التقدميين يتعاطفون مع فرض الشريعة الإسلامية في المدن الغربية. وقد أثارت هذه التصريحات ردود فعل قوية في كل من المملكة المتحدة والولايات المتحدة، وأعادت إلى الواجهة جدلا قديما حول استخدام الدين كسلاح سياسي.

ماذا قيل ومتى؟

استقطب خطاب ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة اهتماما عالميا، وضمن استعراضه لموضوعات السياسة الخارجية أدرج ملاحظة لاذعة وموجهة مفادها أن لندن "تتجه نحو تطبيق الشريعة". جاء هجومه على صادق خان استمرارا لعداء شخصي يمتد لسنوات، ويعود تاريخه إلى خلافات حول قرارات حظر السفر التي فرضها ترامب في ولايته الأولى وانتقادات خان لخطابه. وعلى الساحة السياسية الأمريكية، استهدف ترامب؛ زهران ممداني طوال سباق رئاسة بلدية نيويورك لعام 2025، حيث ربطه بالسياسات الراديكالية وألمح إلى أنه يشكل خطرا على الطابع الثقافي للمدينة.

منحت منصة الأمم المتحدة خطاب ترامب هذا حضورا استثنائيا، ففي محفل دولي مخصص للدبلوماسية، اختار ترامب تكرار ادعاء متجذر في سياسات الهوية الداخلية. وكان الأثر المترتب على ذلك هو عولمة سردية الخوف الثقافي التي تلقى صدى لدى شرائح من قاعدته السياسية

الحقيقة القانونية والمؤسسية

إن الادعاء بأن عمدة مدينة يمكنه فرض الشريعة الإسلامية في مدينة غربية ينهار تماما أمام أي تدقيق جاد. في المملكة المتحدة، يرتكز النظام القانوني على السيادة البرلمانية والقانون العلماني. ورغم وجود مجالس للشريعة تعمل بشكل غير رسمي للتوسط في النزاعات الأسرية داخل الجاليات المسلمة، إلا أنها لا تملك أي قوة قانونية ملزمة، حيث تحتفظ المحاكم المدنية بسلطتها الكاملة. أما في الولايات المتحدة، فإن مبدأ الفصل الدستوري بين الكنيسة والدولة يمنع تبني أي تشريع ديني كقانون بلدي أو فيدرالي. وعليه، لا يملك عمدة نيويورك أي صلاحية قانونية لإدراج الشريعة في الأطر التشريعية. وقد خلص مدققو الحقائق باستمرار إلى عدم وجود أي دليل على أن خان أو ممداني قد اقترحا مثل هذه الإجراءات.

السير الذاتية والسجلات السياسية

يُعرف صادق خان، عمدة لندن للولاية الثالثة، بإصلاحاته في قطاع النقل، ومبادراته للإسكان، وتدابيره البيئية. وخلافاته مع ترامب قديمة؛ فخلال فترة رئاسة ترامب، انتقد خان علنا حظر السفر الأمريكي الذي استهدف الدول ذات الأغلبية المسلمة، ورد ترامب بالتشكيك في كفاءة خان وملاءمته للمنصب. ويعد اتهام "الشريعة" هو الشكل الأكثر تطرفا في هذا الخصام المستمر.

أما زهران ممداني، فهو في بداية مسيرته السياسية على مستوى المدينة. بنى ممداني، وهو نجل مهاجرين هنديين من أوغندا، برنامجه الانتخابي حول توفير الإسكان الميسور، وتسهيل الوصول إلى وسائل النقل العام، والضرائب التصاعدية. سياساته علمانية بحتة، وتتركز في القضايا الاقتصادية والاجتماعية لا الهوية الدينية. يراه مؤيدوه صوتا جديدا للمجتمعات المهمشة، بينما يصوره خصومه كشخصية راديكالية خطيرة.

لماذا يكتسب هذا الادعاء أهمية سياسية؟

إن تأطير الخصوم السياسيين كمتعاطفين مع الشريعة ليس بالأمر الجديد. فقد ظهر هذا التكتيك في السياسة الأمريكية على الأقل منذ الجدل الذي دار حول ترشح باراك أوباما، حين انتشرت نظريات المؤامرة حول ديانته. يعمل هذا الأسلوب كإشارة ثقافية تربط الخصوم بالغربة، وبتهديد مزعوم للحريات العلمانية. وفي بريطانيا، انتشرت اتهامات مماثلة حول سياسيين مسلمين، لكنها نادرا ما تحظى بزخم في الخطاب العام السائد.

لقد منحت منصة الأمم المتحدة خطاب ترامب هذا حضورا استثنائيا، ففي محفل دولي مخصص للدبلوماسية، اختار ترامب تكرار ادعاء متجذر في سياسات الهوية الداخلية. وكان الأثر المترتب على ذلك هو عولمة سردية الخوف الثقافي التي تلقى صدى لدى شرائح من قاعدته السياسية.

ردود الفعل الفورية والمعارضة

كان رد الفعل السياسي سريعا. فقد رفض رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر تصريحات ترامب واصفا إياها بـ"الهراء"، ومؤكدا أن القانون البريطاني علماني وليس معرضا لخطر الاستبدال. من جانبه، رفض خان الاتهام ووصفه بأنه معادٍ للإسلام "إسلاموفوبي" وإهانة لسكان لندن الذين يقدرون التعددية. وفي الولايات المتحدة، أشار ممداني وحلفاؤه إلى أن تصريحات ترامب لا يدعمها أي دليل وتهدف فقط إلى تأجيج الانقسام. كما حذرت جماعات الحقوق المدنية من أن مثل هذا الخطاب يمكن أن يعرض الجاليات المسلمة للخطر عبر إضفاء الشرعية على الشك والعداء.

تدقيق الادعاء الأساسي

التحقق المستقل من الادعاء أمر مباشر وبسيط: لا يوجد أي مقترح في بلدية لندن لاستبدال القانون الإنجليزي بالشريعة، فإدارة خان تعمل ضمن الأطر الوطنية. وبالمثل، فإن وثائق سياسات ممداني المنشورة تتعلق بالإيجارات والأجور والخدمات العامة، وليس الدين. إن غياب الأدلة يشير إلى أن هذه المزاعم هي مجرد خطاب سياسي وليست حقائق. وهذا النمط -دون تقديم براهين- يؤكد الطبيعة السياسية المحضة للهجوم.

التداعيات الأوسع
غالبا ما تطغى الادعاءات المثيرة على النقاشات السياسية الجوهرية. فقد هيمنت تغطية تصريحات ترامب على العناوين الرئيسة، بينما تراجعت النقاشات حول الإسكان والنقل والحوكمة

هناك عدة عواقب يجب أخذها في الاعتبار:

* العلاقات الدولية: باستهدافه عمدة عاصمة حليفة رئيسية في الأمم المتحدة، خاطر ترامب بتوتير العلاقات مع المملكة المتحدة. وقد اضطر المسؤولون البريطانيون إلى الرد علنا، مما صرف الانتباه عن الأجندات الدبلوماسية المشتركة.

* الاستقطاب المحلي: يعمّق اتهام "الشريعة" الانقسامات داخل السياسة الأمريكية. وهذا من شأنه أن يعزز جاذبية ترامب بين الناخبين الذين يعطون الأولوية للهوية الثقافية، ولكنه يعمل على تنفير آخرين يعتبرونه تمييزا.

* المخاوف الأمنية: يحذر المحللون من أن الربط المتكرر بين القادة المسلمين والتطرف يمكن أن يزيد من التهديدات الموجهة ضدهم، فالساسة مثل خان وممداني يواجهون بالفعل مخاطر أمنية متزايدة.

* البيئة الإعلامية: غالبا ما تطغى الادعاءات المثيرة على النقاشات السياسية الجوهرية. فقد هيمنت تغطية تصريحات ترامب على العناوين الرئيسة، بينما تراجعت النقاشات حول الإسكان والنقل والحوكمة.

إن الادعاء بأن لندن أو نيويورك تتجه نحو تطبيق الشريعة تحت قيادة مسؤولين منتخبين محددين هو ادعاء لا أساس له من الصحة، فهو لا يستند إلى أي أساس قانوني أو سياسي أو إداري. ومع ذلك، يحمل هذا الادعاء وزنا سياسيا، ليس لأنه حقيقي، بل لأنه يلقى صدى لدى المخاوف الثقافية. وعندما يتم التعبير عن مثل هذا الخطاب على المسرح العالمي، فإنه يهدد كلا من التماسك الداخلي وحسن النية على الساحة الدولية.

إن المهمة الملقاة على عاتق الإعلام والقادة السياسيين والمواطنين هي فصل الحقيقة عن الخيال. عند تقييم المرشحين للمناصب، فإن الأسئلة ذات الصلة تتعلق بسجلاتهم وسياساتهم والحدود الدستورية التي يعملون ضمنها. إن تحويل الانتخابات إلى استفتاءات حول تهديدات دينية متخيلة يقوض المساءلة الديمقراطية. الحقائق، لا الخوف، هي ما يجب أن تحدد التنافس على القيادة في كل من لندن ونيويورك.