أفضت أحداث السابع
من أكتوبر 2023 إلى تحول جذري داخل المشهد الإعلامي
الإسرائيلي. ففي أعقاب هجمات حماس،
اجتاحت موجة من القومية المتطرفة غرف الأخبار، مما أدى فعليا إلى إسكات الأصوات المعارضة
وتهميش الروايات الفلسطينية. وقد أدى هذا التحول إلى نشوء بيئة إعلامية تتسم بالرقابة،
والرقابة الذاتية، وإزالة الصفة الإنسانية عن الفلسطينيين على نطاق واسع، الأمر الذي
ساهم في نهاية المطاف في تصنيع الموافقة على الرد العسكري المدمر في
غزة.
جبهة موحدة على حساب
الحقيقة
في الأيام والأسابيع
التي تلت السابع من أكتوبر، قدم الإعلام الإسرائيلي جبهة موحدة بشكل لافت، وذُهل الناس
بالأحداث، فلجأوا إلى وسائل الإعلام للحصول على المعلومات والطمأنينة. لكن هذه الوحدة
جاءت بتكلفة باهظة للنزاهة الصحفية، حيث تخلت وسائل الإعلام الكبرى إلى حد كبير عن
التغطية النقدية لصالح رواية تهدف إلى تعزيز الروح المعنوية الوطنية ودعم أهداف الحكومة
الحربية بشكل مطلق. هذا التأثير، المعروف بـ"الالتفاف حول العلم"، عنى أن
أي موضوعات لا تساهم في تعزيز الشعور بالقوة والمظلومية الوطنية كان يتم تجاهلها بشكل
منهجي.
كانت معاناة المدنيين في غزة، وهي نتيجة مباشرة للحملة العسكرية الإسرائيلية الشرسة، غائبة بشكل واضح عن شاشات التلفزيون والتقارير الإخبارية الإسرائيلية السائدة. وبدلا من ذلك، كانت البرامج مشبعة بقصص البطولة والتضحيات الإسرائيلية، الأمر الذي أدى إلى خلق فقاعة معلوماتية محكمة الغلق
كانت معاناة المدنيين
في غزة، وهي نتيجة مباشرة للحملة العسكرية الإسرائيلية الشرسة، غائبة بشكل واضح عن
شاشات التلفزيون والتقارير الإخبارية الإسرائيلية السائدة. وبدلا من ذلك، كانت البرامج
مشبعة بقصص البطولة والتضحيات الإسرائيلية، الأمر الذي أدى إلى خلق فقاعة معلوماتية
محكمة الغلق. وقد كشف استطلاع أجراه مركز "أكورد" في الجامعة العبرية أن
64 في المئة من الإسرائيليين يعتقدون أن التغطية الإعلامية المحلية لما يحدث في غزة
كانت متوازنة ولا تحتاج إلى إظهار المزيد من معاناة الفلسطينيين. ويسلط هذا الأمر الضوء
على فجوة عميقة ومصطنعة عن عمد بين واقع المذبحة في غزة والنسخة المنقحة للأحداث التي
يستهلكها الجمهور الإسرائيلي.
تغييب الفلسطينيين
ونزع الإنسانية عنهم
لعل التحول الأكثر
إثارة للقلق في الإعلام الإسرائيلي هو التغييب شبه الكامل لوجهات النظر الفلسطينية،
فقد هيمنت الأصوات الإسرائيلية بشكل حصري على السردية، دون ترك أي مساحة للتجربة الفلسطينية
من سلب للأرض واحتلال وحرب. لقد كان لهذه الصورة أحادية الجانب دور أساسي في تبرير
حجم العنف الذي تم إطلاقه على غزة.
لم يكن هذا التغييب
مجرد عملية سلبية، بل أصبح نزع الإنسانية عن الفلسطينيين ممارسة شائعة، حيث وجد الخطاب
التحريضي، الذي كان محصورا في يوم من الأيام بهوامش اليمين المتطرف، منبرا له في القنوات
الرئيسة، وأصبحت اللغة التي استخدمها المعلقون وحتى بعض المسؤولين ذات طابع إبادة جماعية
على نحو متزايد، حيث لم يعد يُشار إلى الفلسطينيين كشعب مدني تحت الحصار، بل ككيان
متجانس، مع بث دعوات "لتسوية غزة بالأرض" أو "تحويلها إلى موقف سيارات"
دون أي اعتراض يُذكر. تم تعزيز هذه الرواية من خلال التصوير المستمر لغزة على أنها
مكان خالٍ من البراءة، و"عش للإرهابيين"، حيث يُعتبر كل رجل وامرأة وطفل
تهديدا محتملا.
تجاوزت هذه العملية
حدود الخطاب لتصل إلى التصفية الجسدية للأصوات الفلسطينية. فمنذ السابع من أكتوبر،
قُتل عدد غير مسبوق من الصحفيين الفلسطينيين في غارات إسرائيلية في غزة، غالبا مع عائلاتهم؛
لم يكن هؤلاء الصحفيون مجرد أضرار جانبية، بل كانوا عيون العالم وآذانه داخل قطاع محاصر.
وكان لاستهدافهم الممنهج هدف مزدوج: إسكات التقارير الحيوية من الميدان، وإرسال رسالة
ترهيب لكل من يحاول توثيق حقائق الحرب. في غضون ذلك، مُنع الصحفيون الدوليون إلى حد
كبير من دخول غزة بشكل مستقل، وأُجبروا على الاعتماد على جولات منظمة بعناية مع الجيش
الإسرائيلي، مما ضمن هيمنة الرواية الرسمية الإسرائيلية. أدى هذا إلى خلق فراغ إعلامي،
مُلئ بروايات ودعاية حكومية. وصرح رئيس وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين
الفلسطينيين (الأونروا)، فيليب لازاريني، بأن هذا الحظر الإعلامي "يُغذي الدعاية
والتضليل ونشر نزع الصفة الإنسانية".
قمع المعارضة ومناخ
من الخوف
أصبحت البيئة الإعلامية
في إسرائيل معادية بشدة للمعارضة الداخلية، فالصحفيون والمؤسسات الإعلامية التي تحيد
عن الإجماع القومي يتم شيطنتهم علنا ووصفهم بـ"الخونة" أو "المتعاطفين
مع حماس". وقد شجعت حكومة بنيامين نتنياهو هذا المناخ من التعصب بشكل فعال، حيث
قاطعت وسائل إعلام ناقدة مثل صحيفة "هآرتس" اليسارية وهاجمت أخرى بسبب تغطيتها.
تفشي ثقافة الرقابة الذاتية بين الصحفيين، فبات الكثيرون يخشون تغطية الكلفة الإنسانية للحرب في غزة، أو التشكيك في استراتيجية الحكومة العسكرية، أو تقديم سياق حول الاحتلال
وقد قادت هذه الحملة
شخصيات من داخل الحكومة نفسها، حيث سعت وزارة الاتصالات، على سبيل المثال، إلى وضع
لوائح لإغلاق قنوات إخبارية أجنبية مثل الجزيرة، واستهداف المنافذ المحلية التي تُعتبر
غير وطنية بما فيه الكفاية. وإلى جانب الإجراءات الرسمية، تم خلق بيئة من الجماعات
اليمينية والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي لتنظيم حملات مضايقة وتجييش إلكتروني
ضد أي صحفي يجرؤ على الخروج عن الصف. وقد خلق هذا التنمر الرقمي أثرا رادعا أكثر انتشارا
مما يمكن أن يحققه أي قانون
رقابة رسمي.
أدى هذا الضغط إلى
تفشي ثقافة الرقابة الذاتية بين الصحفيين، فبات الكثيرون يخشون تغطية الكلفة الإنسانية
للحرب في غزة، أو التشكيك في استراتيجية الحكومة العسكرية، أو تقديم سياق حول الاحتلال،
خوفا من العواقب المهنية وردود الفعل الشعبية العنيفة. حتى الصحفيون العرب داخل إسرائيل
أبلغوا عن تعرضهم لترهيب شديد، مما أجبرهم على فرض رقابة على أعمالهم لحماية سلامتهم
ومصادر رزقهم.
إن التغيرات في الإعلام
الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر تمثل انحرافا خطيرا عن مبادئ الصحافة الموضوعية. فمن
خلال إعطاء الأولوية للقومية على الحقيقة ومحو الأصوات الفلسطينية بشكل فعال، أصبح
الإعلام الإسرائيلي مشاركا نشطا في الصراع، لا مراقبا محايدا. وهذا لم يعمّق الانقسامات
بين الإسرائيليين والفلسطينيين فحسب، بل ألحق ضررا جسيما بالجمهور الإسرائيلي نفسه،
الذي يُحرم من المعلومات اللازمة لفهم التبعات الأخلاقية والوجدانية العميقة للحرب
التي تُشن باسمه.