قضايا وآراء

إعلان أبي مازن الدستوري.. اقتسام جلد الدب قبل اصطياده

"قطع الطريق على أي عملية إصلاح ومراجعة سياسية تقود لانتخابات ديمقراطية وحرة"- جيتي
في عامين تغير العالم بالنسبة لفلسطين؛ غزة بمآسيها وصمود شعبها رغم كل جرائم الإبادة الجماعية ضدهم، دفعت بشعوب عبر شوارع القارات الخمس للوقوف دعما لعدالة القضية الفلسطينية.. دول وشعوب استطاعت من خلال مراجعة سياسات حكوماتها مع الاستعمار الإسرائيلي أن تفرض نفسها ورأيها في الشارع، والمطالبة بقطع العلاقة مع الاحتلال وفرض العقوبات عليه وتجريمه في المحاكم الدولية.. انكسرت وتراجعت السردية الصهيونية في الغرب، ونستطيع القول إن غزة غيّرت نظرة شعوب كثيرة نحو فلسطين، لكن المدهش في كل ذلك لا يتعلق بسياسات حكومات غربية مع الإدارة الأمريكية بالنسبة لموقفها من إسرائيل والقضية الفلسطينية، بل المدهش أن أصحاب السلطة الفلسطينية لم تمر عليهم رياح التغيير التي حملتها جرائم الاحتلال؛ ليس في غزة وحدها، بل في محيط سكنهم وفي أراضيهم القريبة التي يرتع فيها المستعمرين قتلا وحرقا.

لم تتغير عقلية الهوبرة والفهلوة السياسية والأمنية، رغم انكشافها المر والقاسي على واقع قضية تحرر وطني، فبعد إعلان وقف إطلاق النار في غزة، لن يهنأ الشعب الفلسطيني بسلام وأمن، لا في غزة ولا في بقية الأراضي المحتلة، وهذا حاله مع مستعمر يجاهر ليل نهار بخططه وسياساته الاستعمارية الإحلالية تجاه أصحاب الأرض. ولعقود طويلة أعقبت اتفاق "أوسلو" الشهير، تنقّل الفلسطينيون من إحباط إلى آخر، رغم الإغداق المتكرر من السلطة الفلسطينية لكل الصفات "الحميدة" عليه وعلى أدائها وتمسكها بتلابيبه، وإطلاق الصفات الرشيدة على الإدارة الأمريكية، واستجداء واستعطاف خذل مراهنتها وأوهامها الكثيرة مع نظرائها العرب.

التحدي الأبرز الذي يواجه الشعب الفلسطيني، ليس في غياب رئيس سلطته، وقلقه من وجود من يحكمه، بل في النظام السياسي الفلسطيني الذي تختطفه السلطة وتبدل وتضيف وتسقط منه كما يشاء السبب القاهر، أي الاحتلال

قبل يومين أصدر رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن إعلانا دستوريا يقضي بأنه "في حال شغور مركز رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، وبغياب المجلس التشريعي، يتولى نائب رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، مهام الرئاسة مؤقتا لمدة لا تتجاوز تسعين يوما، تُجرى خلالها انتخابات حرة ومباشرة لاختيار رئيس جديد".

لن نحلل قانونية إعلان أبي مازن، ولا شرعية استمراره في السلطة، لكن هناك تناقض فيما يتعلق بالمجلس التشريعي والمجلس الوطني، بمعنى أن هذا النقيض يستمر مع الرئيس في ولايته، ويريد توريثه لخلفه (نائب رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير)، أي قطع الطريق على أي عملية إصلاح ومراجعة سياسية تقود لانتخابات ديمقراطية وحرة. والمنع عنوانه إسرائيلي ويلطفه إعلان الرئيس الدستوري بعبارة الأسباب القاهرة التي تستمر منذ العام 2006، بانتخاب آخر مجلس تشريعي، ومنذ انتهاء ولاية أبي مازن في العام 2009، بالإضافة لغياب انتخاب مجلس وطني فلسطيني لأسباب قاهرة.

فالتحدي الأبرز الذي يواجه الشعب الفلسطيني، ليس في غياب رئيس سلطته، وقلقه من وجود من يحكمه، بل في النظام السياسي الفلسطيني الذي تختطفه السلطة وتبدل وتضيف وتسقط منه كما يشاء السبب القاهر، أي الاحتلال. هذا النظام بحاجة لإصلاح وبناء جديدين، والمأزق الذي تعيشه السلطة الفلسطينية، وجرّت إليه المنظمة ومؤسساتها الوطنية والكل الفلسطيني وفصائل وقوى ومجتمع، لم يتوقف على المطالبة بعملية مراجعة سياسية وتنظيمية وهيكيلة لكل المسيرة السابقة، لكن أصبحت الظروف والأسباب واضحة لمن يتابعها في الشارع الفلسطيني وعلى مدار عقدي الانقسام.

لم يتوان رئيس السلطة عن إصدار إعلان دستوري يضمن استمرار نهج السلطة، بما يفسر استجابة لدعوات الإصلاح غير الفلسطينية، وعلى حساب قضايا أخرى بحاجة لإصلاح وبناء بعيدا عن السبب القاهر. فإصلاح المنظمة وإعادة بنائها مع مؤسساتها المترهلة والمعاقة، لن توقفه الأسباب القاهرة فقط، بل يعطلها من أصبح أحد هذه الأسباب وذراعها الضاربة في المجتمع الفلسطيني، لأن من يقود مشروع السلطة الفلسطينية نقيض لمنظمة التحرير. والكلمة الأخيرة تعني تحرير الأرض وكنس الاحتلال ومقاومته.. الخ؛
لم يتوان رئيس السلطة عن إصدار إعلان دستوري يضمن استمرار نهج السلطة، بما يفسر استجابة لدعوات الإصلاح غير الفلسطينية، وعلى حساب قضايا أخرى بحاجة لإصلاح
بديهيات لا تتسع لها أدبيات الفلسطينيين بعد أوسلو في نقد الحالة الفلسطينية وما أصابها حتى اليوم، ويعاد فتحها في اليوم التالي لإنهاء حرب الإبادة على غزة، وبداية الوصاية الاستعمارية عليها.

في سيطرة السلطة الفلسطينية على مناطقها في الضفة، لم يكن الحال مُرضيا إلا لمستعمرين تمددوا في الغي والإجرام، ومع الانقسام وسيطرة حركة "حماس" في غزة لم يكن الحال أفضل في ظل الحصار والعدوان، فكل ما جرى ويجري فلسطينيا للآن لم يشكل جرس إنذار حقيقي على جبهة القوى والفصائل الفلسطينية رغم دوي قرعه في غزة والضفة والقدس. وكان عليها، لمصلحتها ومصلحة خطها السياسي ومصلحة شعبها وقضيته الوطنية، أن تستثمر هذا الواقع المدوي والذي غيّر العالم فعلا وقولا، بينما الفاعلية الذاتية محدودة لإنهاء الانقسام واستعادة المنظمة وإصلاح مؤسساتها.

أخيرا، الفلسطيني على إدارة قطاع غزة مهم، واجتماع الفصائل أيضا مهم وهو تكرر عشرات المرات، لكن تبقى الأهمية بعدم العودة للغرق في العجز وفي حالة التراجع، فحالة رفض السياسات الاستعمارية الإسرائيلية وإدانتها، مع التخلي المستمر عن مكامن قوة حقيقية حتى بالتوافق على استراتيجية وطنية وقواسم مشتركة، أسهمت إلى حد بعيد في إضعاف النتائج المرجوة التي يتطلع إليها الشارع الفلسطيني غير المهتم أصلا بمن يسكن في مقر الرئاسة، بقدر اهتمامه بمن يتحكم في حياته على الحواجز وفي حقول الزيتون وعلى المعابر ومن يخنقه بالحصار، ومن يقتل أبناءه وأمهاته، ومن يسرق أرضه ويهجره منها.

فهل يمكن تصور مستقبل فلسطيني من خلال إعلان دستوري يتحدث عن تعيين خليفة لرئيس منتهية ولايته أصلا، وإجراء انتخابات بشكل فضفاض، بدون إصلاح، وبدون ممارسة ديمقراطية أو حرية تعبير، وبدون عمل سياسي وشعبي وجماهيري لمواجهة احتلال فاشي؟ في الحقيقة الإعلان الدستوري هو بمثابة مبادرة لاقتسام جلد الدب قبل اصطياده.. تحرروا من الاحتلال وليكن صياد الدب زعيما للدولة.

x.com/nizar_sahli