قضايا وآراء

كيف تحوّل "طوفان الأقصى" إلى زلزال إقليمي وعالمي

إذا كان التاريخ يُكتب عادة بأيدي المنتصرين، فإن ما جرى في غزة سيظل شاهدا على أن الحقيقة لا تموت، وأن الدماء التي سالت هناك قد فرضت رواية جديدة للعالم، رواية عنوانها الحق في الحياة والكرامة، لا في البقاء فقط.. الأناضول
حين اندلعت عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023، بدا في ظاهره مواجهة عسكرية محدودة بين فصائل المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، لكنه سرعان ما تجاوز التقديرات الأولية وتحول إلى حدث مفصلي غيّر وجه المنطقة والعالم. فالحرب التي استمرت عامين لم تكن مجرد جولة جديدة من الصراع، بل زلزالا سياسيا وإنسانيا أعاد صياغة موازين القوى الإقليمية والدولية، وفتح نقاشا عالميا غير مسبوق بشأن العدالة، والاحتلال، وحدود الصمت الأخلاقي في زمن الصورة والاتصال الفوري.

وفق بيانات وزارة الصحة في غزة، بلغ عدد الشهداء منذ اندلاع الحرب وحتى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت نحو 67 ألف شهيد، بينهم أكثر من 30 في المئة من الأطفال، فيما تجاوز عدد المصابين 145 ألف مصاب. هذه الأرقام الهائلة حولت كل بيت في غزة إلى شاهد على فقدان أو تهجير أو إصابة، وجعلت من القطاع رمزا للمعاناة الإنسانية في مواجهة آلة عسكرية تمتلك أحد أقوى جيوش المنطقة. ومع مرور الوقت، لم تعد غزة مجرد مساحة جغرافية محاصرة، بل تحولت إلى عنوان للثبات الفلسطيني في وجه القوة العمياء.

وضعت الحرب الأنظمة العربية أمام اختبار صعب. فالدول التي طبّعت علاقاتها مع الاحتلال الإسرائيلي لم تغيّر مواقفها رسميا، لكن ضغط الشارع العربي كان لافتا، حيث شهدت العواصم مظاهرات حاشدة أعادت فلسطين إلى صدارة الوجدان العربي. وأصبح صمود غزة عامل توحيد نادر للرأي العام العربي بعد سنوات من الانقسام.
الدمار المادي الذي خلّفته الحرب كان بدوره صادما. فقد أظهرت تقارير الأمم المتحدة عبر برنامج UNOSAT أن أكثر من 191 ألف مبنى في القطاع دُمّر أو تضرّر بنسب مختلفة، أي ما يعادل نحو 83 في المئة من المباني في بعض المدن الكبرى مثل غزة ورفح. كما تضرّرت 245 ألف وحدة سكنية وقرابة 88 في المئة من المدارس بشكل جزئي أو كلي. هذه الأرقام تعني أن البنية التحتية المدنية في القطاع انهارت عمليا، وأن إعادة الإعمار ستحتاج إلى سنوات طويلة وإرادة دولية حقيقية، في وقت يعاني فيه السكان من نقص حاد في الماء والغذاء والدواء.

لم يقتصر تأثير الحرب على الميدان والسياسة، بل امتد إلى الفضاء الأكاديمي والإعلامي الغربي. ففي جامعات مثل هارفارد وأوكسفورد وكولومبيا، شهدت الساحات موجات تضامن طلابية واسعة، نُظمت خلالها اعتصامات ومسيرات دعماً للمدنيين في غزة، في مشهد أعاد إحياء النقاش حول ازدواجية المعايير الغربية في قضايا الحقوق والحرية. كما أصدر عدد من المفكرين والفلاسفة بيانات تندد بالتصعيد الإسرائيلي، من بينهم سلافوي جيجيك وجوديث بتلر، اللذان أكدا أن صمت الغرب تجاه الاحتلال يمثل مشاركة ضمنية في الجريمة. أما يورغن هابرماس، فتبنى موقفًا أكثر تحفظًا، مؤكدًا حق إسرائيل في الوجود، لكنه انتقد استمرار استهداف المدنيين، قائلاً إن "الأمن لا يمكن أن يبرر الإبادة".

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وصف الحرب بأنها "غير مسبوقة في تاريخ النزاعات الحديثة"، محذرا من اتساع الكارثة الإنسانية في ظل الانهيار الشامل للخدمات الأساسية. أما المؤرخ الإسرائيلي أومير بارتوف، فاعتبر ما يجري في غزة "إبادة جماعية ممنهجة" تهدف إلى تدمير المجتمع الفلسطيني، مؤكدا أن ما يحدث تجاوز منطق الدفاع عن النفس إلى مشروع عقابي يستهدف الهوية والوجود.

إقليميا، وضعت الحرب الأنظمة العربية أمام اختبار صعب. فالدول التي طبّعت علاقاتها مع الاحتلال الإسرائيلي لم تغيّر مواقفها رسميا، لكن ضغط الشارع العربي كان لافتا، حيث شهدت العواصم مظاهرات حاشدة أعادت فلسطين إلى صدارة الوجدان العربي. وأصبح صمود غزة عامل توحيد نادر للرأي العام العربي بعد سنوات من الانقسام.

وفي المقابل، وجدت دول مثل مصر نفسها في موقع الوسيط بين الأطراف، تواجه معادلة معقدة تجمع بين متطلبات الوساطة وضغوط الرأي العام. كما برزت أدوار إقليمية أخرى لإيران وتركيا وقطر في المسار السياسي والإنساني، مما أعاد تشكيل خريطة التحالفات في المنطقة.

على المستوى الدولي، كشفت الحرب حدود التأثير الأميركي في المنطقة وتراجع صورة واشنطن كوسيط عادل. فالدعم غير المشروط لإسرائيل أثار استياء واسعا حتى داخل الأوساط الأميركية، حيث خرجت احتجاجات في عدد من المدن والجامعات تطالب بوقف المساعدات العسكرية وبمراجعة السياسات الخارجية تجاه الشرق الأوسط. وفي أوروبا، بدأت تظهر أصوات ناقدة داخل البرلمانات، مطالبة بوقف تصدير السلاح إلى إسرائيل وإجراء تحقيقات دولية في جرائم الحرب.

"طوفان الأقصى" لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل محطة تاريخية غيّرت طريقة فهم العالم للقضية الفلسطينية. لقد أجبر هذا الحدث القوى الكبرى على إعادة النظر في سياساتها، وكشف أن ميزان القوة العسكري لا يعني بالضرورة التفوق الأخلاقي أو السياسي.
أما على صعيد الإعلام، فقد شكّلت هذه الحرب نقطة تحوّل في الوعي العالمي. فوسائل التواصل الاجتماعي أصبحت جبهة موازية للمعركة، حيث نجح المحتوى الفلسطيني في كسر الرواية الإسرائيلية التقليدية التي كانت تهيمن على الإعلام الغربي لعقود. صور الأطفال تحت الأنقاض، ومقاطع الإنقاذ من المستشفيات، ومشاهد النزوح الجماعي، خلقت تعاطفا شعبيا واسعا، وأعادت تعريف معنى المقاومة في زمن الرقمنة. لقد تحولت الكاميرا إلى سلاح لا يقل تأثيرا عن الصاروخ، وجعلت الرأي العام العالمي طرفا فاعلا في المعركة.

اليوم، وبعد عامين من اندلاع الحرب ودخولها مرحلة وقف إطلاق النار المؤقت، يقف العالم أمام سؤال مصيري: هل يمثل هذا الهدوء بداية مسار حقيقي لإعادة الإعمار وتحقيق العدالة، أم أنه مجرد استراحة قبل انفجار جديد؟ المؤشرات حتى الآن متباينة، فبينما تتحدث الأمم المتحدة عن خطط لإغاثة عاجلة وإعادة الإعمار، تلوّح أطراف إسرائيلية بإمكانية استئناف العمليات العسكرية إذا لم تتحقق أهدافها الأمنية. في المقابل، تواصل الفصائل الفلسطينية التأكيد على أن أي تسوية سياسية يجب أن تضمن رفع الحصار والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني كاملة.

مهما كانت الإجابة، يبقى مؤكدًا أن "طوفان الأقصى" لم يكن مجرد عملية عسكرية، بل محطة تاريخية غيّرت طريقة فهم العالم للقضية الفلسطينية. لقد أجبر هذا الحدث القوى الكبرى على إعادة النظر في سياساتها، وكشف أن ميزان القوة العسكري لا يعني بالضرورة التفوق الأخلاقي أو السياسي. ومن رحم المأساة، خرجت غزة كرمز عالمي للصمود، لا بوصفها ساحة حرب فقط، بل كاختبار لضمير الإنسانية بأكملها. وإذا كان التاريخ يُكتب عادة بأيدي المنتصرين، فإن ما جرى في غزة سيظل شاهدا على أن الحقيقة لا تموت، وأن الدماء التي سالت هناك قد فرضت رواية جديدة للعالم، رواية عنوانها الحق في الحياة والكرامة، لا في البقاء فقط.