تعيش الولايات المتحدة واحدة من أكثر أزماتها السياسية والاقتصادية تعقيدا منذ سبع سنوات، مع دخول
الإغلاق الحكومي الفيدرالي أسبوعه الخامس، وتفاقم آثاره المباشرة على حياة ملايين الأمريكيين، لا سيما من ذوي الدخل المنخفض، الذين باتوا مهددين بفقدان المساعدات الغذائية الشهرية التي يعتمدون عليها للبقاء.
وربما يتمكن هؤلاء من الحصول على دعم مؤقت بعد أن حكم قاضيان اتحاديان يوم الجمعة بأن تعليق المساعدات الغذائية بسبب الإغلاق٬ غير قانوني، في قرارين متزامنين صدرا في ولايتي ماساتشوستس ورود آيلاند.
أوامر قضائية عاجلة لمكافحة الجوع
في ماساتشوستس، أمرت القاضية نديرا تالواني الحكومة باستخدام أموال الطوارئ لتمويل برنامج المساعدة الغذائية التكميلية (SNAP)، وطالبتها بتقديم تقرير بحلول يوم الإثنين القادم حول إمكانية توفير مساعدات جزئية خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر الجاري.
وفي رود آيلاند، أصدر القاضي جون ماكونيل حكما مماثلا، أكد فيه أن رفض إدارة
ترامب استخدام احتياطي الطوارئ السابق إقراره من الكونغرس يعد خرقا للقانون، وأمر الحكومة بتوزيع الأموال في أسرع وقت ممكن لتفادي الجوع عن ملايين المواطنين.
ويعد برنامج "سناب" أكبر مبادرة لمكافحة الجوع في الولايات المتحدة، إذ يوفر المساعدات لنحو 42 مليون أمريكي، أي ما يعادل شخصا من كل ثمانية، بتكلفة شهرية تبلغ 8.6 مليارات دولار. وتحمل المساعدات على بطاقات إلكترونية تمكن المستفيدين من شراء البقالة، من دون السماح باستخدامها لأي أغراض أخرى.
وزارة الزراعة توقف المدفوعات
وكانت وزارة الزراعة قد أعلنت أن المدفوعات ستتوقف اعتبارا من الأول من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، بعد فشل الكونغرس في تمرير قانون تمويل جديد، وهو ما أدى إلى بدء الإغلاق رسميا مطلع تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وتوقف نحو 750 ألف موظف فيدرالي عن العمل مؤقتا، بخسارة يومية تقدّر بنحو 400 مليون دولار.
ورغم الأوامر القضائية، لا يزال من غير الواضح متى ستصرف المساعدات أو ما إذا كانت ستكون كاملة أو جزئية، إذ أعلنت إدارة ترامب أنها لا تعتقد أن لديها السلطة القانونية لاستخدام أموال الطوارئ في هذا الغرض.
وقال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في منشور عبر منصته "تروث سوشال": "محامو حكومتنا لا يعتقدون أن لدينا السلطة القانونية لدفع أموال برنامج المساعدة الغذائية التكميلية من الأموال المتاحة لدينا حاليا، لكنني وجهت المحامين لطلب توجيه من المحكمة حول كيفية تمويل البرنامج بشكل قانوني في أسرع وقت ممكن".
وأضاف ترامب: "لن نسمح بأن يجوع الأمريكيون، وسأعمل على تأمين التمويل فور حصولنا على الموافقة القانونية".
لكن تقارير إعلامية أكدت أن صرف الأموال للمستفيدين سيستغرق أياما حتى لو لم تطعن الحكومة في القرار القضائي.
ولايات تتحرك لإنقاذ الفقراء
وفي مواجهة الغموض الفيدرالي، لجأت بعض الولايات الأمريكية إلى تغطية مؤقتة من ميزانياتها المحلية لضمان استمرار المساعدات الغذائية، في حين أعلنت ولايات أخرى أنها لن تستطيع تغطية العجز سوى لأيام معدودة.
ويحمل الديمقراطيون إدارة ترامب والجمهوريين مسؤولية الأزمة، مؤكدين أن البيت الأبيض ملزم قانونيا وأخلاقيا بضمان استمرار المساعدات، فيما يصر الجمهوريون على أن الحل يكمن في تمرير الميزانية أولا وإنهاء الإغلاق قبل مناقشة أي تمويل إضافي.
جذور البرنامج وتكلفته الضخمة
تعود جذور برنامج المساعدات الغذائية إلى ثلاثينيات القرن الماضي خلال الكساد الكبير، حين اشترت الحكومة الفيدرالية الفائض الزراعي لتوزيعه على الأسر الفقيرة. وأعيد إحياؤه في الستينيات، ليتحول إلى أحد أعمدة شبكة الأمان الاجتماعي الأمريكية.
ويكلف البرنامج الحكومة الفيدرالية نحو 100 مليار دولار سنويا، ويقدر المتوسط الشهري للمساعدة بـ 187 دولارا للفرد.
كما يحتفظ باحتياطي طوارئ بقيمة 5 مليارات دولار يمكن استخدامها لتغطية العجز المؤقت، وهو ما يطالب به مشرعون من الحزبين في ظل الأزمة الحالية.
الإغلاق يربك حركة الطيران
لكن تأثير الإغلاق لم يقتصر على المساعدات الغذائية، إذ امتد إلى قطاع الطيران المدني الذي بدأ يظهر مؤشرات خطيرة على الإجهاد التشغيلي.
وأشارت بيانات حديثة إلى أن آلاف الرحلات الجوية تأثرت بالتأخير أو الإلغاء في مطارات رئيسية مثل نيوارك ليبرتي قرب نيويورك، وبوسطن لوغان، وأوستن، وناشفيل، إضافة إلى اضطرابات مماثلة في مطارات جون كينيدي ودالاس فورت وورث وواشنطن.
وقالت إدارة الطيران الفيدرالية (FAA) إنها اضطرت إلى تعليق الهبوط مؤقتا في مطار أورلاندو بسبب نقص المراقبين الجويين، قبل أن تعزز فرقها بشكل مؤقت لتفادي التوقف الكامل.
وحذر وزير النقل شون دافي ونائب الرئيس جي دي فانس من أن استمرار الإغلاق قد يؤدي إلى شلل شبه كامل في حركة الطيران خلال موسم عيد الشكر، الذي يعد الأكثر ازدحاما في العام. وأوضح دافي أن نسبة التأخيرات قفزت من 5% إلى أكثر من 50% في بعض الأيام منذ بدء الإغلاق، ما يعكس الضغط غير المسبوق على النظام الجوي.
ويواصل نحو 13 ألف مراقب جوي وقرابة 50 ألف موظف في وكالة أمن النقل (TSA) العمل من دون أجر، فيما بدأ بعضهم البحث عن وظائف مؤقتة لتغطية نفقات أسرهم.
تبرع مجهول لتمويل الجيش
وفي تطور غير مسبوق، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاغون" في وقت سابق٬ أنها ستعتمد على تبرع بقيمة 130 مليون دولار لتغطية رواتب أفراد الجيش خلال فترة الإغلاق، ما أثار موجة انتقادات واسعة في الكونغرس.
وكشف ترامب أن التبرع قدمه "صديق من القطاع الخاص"، في حين أكد المتحدث باسم البنتاغون شون بارنيل أن الأموال قبلت بموجب "سلطة قبول الهدايا العامة" التابعة للوزارة.
لكن السيناتور الديمقراطي كريس كونز حذر من أن تمويل الجيش بأموال مجهولة المصدر "يثير مخاوف خطيرة بشأن إمكانية تعرض القوات المسلحة لتأثيرات خارجية غير مشروعة"، مؤكدا أن التبرع "يغطي بالكاد ثلث أجور يوم واحد للجيش"، في حين تبلغ تكلفة المدفوعات العسكرية اليومية نحو 400 مليون دولار.
معركة جديدة حول "أوباما كير"
وفي موازاة أزمة الغذاء والتمويل العسكري، تلوح أزمة جديدة تتعلق ببرنامج الرعاية الصحية الميسرة (أوباما كير)، إذ من المقرر أن تنتهي الإعانات الفيدرالية بنهاية العام، ما يهدد أكثر من 20 مليون أمريكي بارتفاع أقساط التأمين الصحي.
ويرفض الديمقراطيون إعادة فتح الحكومة دون اتفاق على تمديد تلك الإعانات، فيما يصر الجمهوريون على مناقشة الملف بعد استئناف عمل المؤسسات.
وقال رئيس مجلس النواب الجمهوري مايك جونسون إن "الديمقراطيين رفضوا التصويت على تمويل الحكومة 14 مرة، ما أوصل البلاد إلى حافة الانهيار"، مضيفا أن "أطفالا وأسرا حقيقية سيبدؤون المعاناة من الجوع بنهاية هذا الأسبوع".
كارثة اجتماعية تتسع يوما بعد يوم
تؤكد نقابة العمال الفيدرالية، وهي الأكبر في البلاد، أن أكثر من 670 ألف موظف فيدرالي أُرسلوا إلى منازلهم بلا أجر، بينما يعمل 730 ألفاً آخرون في قطاعات الأمن والنقل والرعاية الصحية دون رواتب. وطالبت النقابة الكونغرس بإقرار مشروع قانون مؤقت لإعادة تدفق الرواتب، معتبرة أن "الوضع الحالي غير إنساني".
وتحذر تقارير من أن برامج المساعدات الغذائية الأخرى، مثل برنامج دعم النساء الحوامل والأمهات الجدد (WIC)، قد تنهار خلال أيام، في حين تواجه مبادرات التعليم والتغذية المبكرة مثل "هيد ستارت" خطر الإغلاق بدءا من الأسبوع المقبل.
انقسام سياسي وشلل إداري
ويعتبر الإغلاق الحالي هو نتيجة مباشرة لعجز الحزبين الجمهوري والديمقراطي عن تمرير قانون تمويل مؤقت يضمن استمرار عمل الإدارات الفيدرالية.
ورغم سيطرة الجمهوريين على مجلسي الكونغرس، فشلوا في جمع 60 صوتا في مجلس الشيوخ لتمرير المشروع، ما يمنح الديمقراطيين نفوذا تفاوضيا حاسما في الأزمة.
وبينما يتبادل الحزبان الاتهامات، يدفع المواطنون الأمريكيون الثمن الأكبر، من موظفين بلا أجر إلى عائلات فقيرة محرومة من الغذاء والرعاية الصحية، في مشهد يعكس عمق الانقسام السياسي الأمريكي وفشل مؤسساته في حماية الفئات الأضعف في المجتمع.