قضايا وآراء

هل اقتربت لحظة السلام في المنطقة؟

"إدراك إدارة ترامب أن أوهام نتنياهو لا يمكن على أساسها بناء نظام إقليمي قابل للحياة"- جيتي
صمت هدير الطائرات والصواريخ في سماء الشرق الأوسط، انتهت الحرب في اليوم الثاني عشر، لم يسقط نظام إيران، ولم تتم إزالة إسرائيل، لكن شأن أي حرب، الأمر لن ينتهي عند هذا الحدث، ثمة تفاعلات كثيرة ستولد ديناميكيات وتنشئ تحولات وتصنع مسارات عندما تبرد الجروح وتهدأ مرحلة هيجان المشاعر.

هل كان ممكنا للحرب أن تستمر أكثر من ذلك؟ الجواب لا، فقد وصل الطرفان إلى درجة عالية من الاستنزاف، بعكس ما صدراه من خطابات سياسية وتصريحات عسكرية عن قوّة خارقة، ومشاريع تغييرية على مستوى البنية الإقليمية وقدراتهما التأثيرية الخارقة، وقد جاءت مبادرة ترامب، إعلان وقف الحرب إنقاذا لإحراجهما الذي كان سيبرز على السطح بدءا من اليوم الثالث عشر للحرب، بعد أن اكتشفا خدعة تقديراتهما ورضوخهما لمعطى نفاد الأسلحة الاستراتيجية اللازمة لتشغيل الحرب واستمرارها، وهو ما كان يعرفه ترامب جيدا، وبنى عليه لغته الآمرة.. أوقفوا الحرب الآن.

تكاد اللحظة الإقليمية والدولية الراهنة تشبه إلى حد بعيد فترة ما بعد الحرب الأمريكية على العراق في بداية تسعينيات القرن الماضي، حيث الولايات المتحدة هي الطرف الأكثر تأثيرا وفعالية، وتراجع أدوار الفاعلين الدوليين

في النتائج على المستوى الإقليمي، تكاد اللحظة الإقليمية والدولية الراهنة تشبه إلى حد بعيد فترة ما بعد الحرب الأمريكية على العراق في بداية تسعينيات القرن الماضي، حيث الولايات المتحدة هي الطرف الأكثر تأثيرا وفعالية، وتراجع أدوار الفاعلين الدوليين (الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين)، إلى حد بعيد، ما يؤهل واشنطن للقيام بدور تقريري وازن في صناعة مسارات جديدة في المنطقة، ولا سيما إمكانية رعاية مفاوضات سلام جديدة بين اسرائيل وبعض الاطراف العربية، وإعادة ترميم علاقات إسرائيل بتركيا في هذا السياق.

ويبدو أن الماكينة الدبلوماسية الأمريكية قد بدأت بالفعل العمل على هذا المسار، وهو ما أكده مبعوث واشنطن الخاص للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، من أن هناك تحركات دبلوماسية واعدة على أكثر من صعيد في الشرق الأوسط، مشيرا إلى اقتراب صدور إعلانات كبرى تتعلق بانضمام دول جديدة إلى اتفاقات أبراهام، كما أن هناك قابلية واستعداد لدى إيران نفسها لعقد اتفاق سلام شامل، حسب تأكيدات ويتكوف، ربما في مرحلة ثانية من انطلاق عملية السلام في المنطقة.

هل هذه التقديرات ممكنة أم هي مجرد دعاية لـ"اللحظة الترامبية" المتغيرة المزاج، وبالتالي لا يمكن البناء عليها في تقدير طبيعة المسارات التي ستشهدها المنطقة في المرحلة المقبلة؟ ثمة تحولات عديدة أنتجتها المرحلة الماضية في المنطقة، من حروب استنزاف مديدة ونشوء ديناميكيات داخلية، ستفرض نفسها بشكل جلي في الترجمات السياسية للتموضعات الداخلية وعلى المستوى الإقليمي، ولن يتكمن صنّاع القرار والنخب الحاكمة في المنطقة تجاوزها وطيّها بسهولة، وسيضطرون للتكيّف مع مقتضياتها عبر إدارة للأوضاع تراعي هذه المتغيّرات، أو مواجهة تحديات قاسية ومخاطر ستطال البنى الحاكمة وتحالفاتها وعقودها الاجتماعية.

لعل أول تلك التحديات التي تواجهها أطراف اللعبة، أن الإقليم وصل إلى معادلة توازن قوى هشّة الى أبعد الحدود، بعد سقوط معادلات الردع على جانبيه، وثبوت وهْم قدرة كل من إيران واسرائيل على إعادة تشكيل خرائط النفوذ السياسي والأمني في المنطقة، في مقابل صعود قوى (الخليج وتركيا) لديها منطق جديد للاشتباك مع الواقع عبر سياسات ناعمة ذات مفعول تأثيري مهم في صناعة توجهات المرحلة المقبلة، وتستند في ذلك إلى رأي عام في المنطقة يؤيدها بدرجة كبيرة، تحركه الرغبة في الخروج من عنق زجاجة الأزمات المنهكة.

تبدو المنطقة مهيأة بشكل كبير لحدوث تحوّلات مهمة على صعيد الانتقال من الحرب الى السلام، الواقع يدفع بهذا الاتجاه، لكن شكل السلام ونطاقه وقدرته على الصمود، فتلك مسائل من المؤكد أنه ستقررها الأوراق التفاوضية لدى اللاعبين ومدى صلاحيتها، والديناميكيات الاجتماعية والسياسية الصاعدة في الإقليم، والأهم من كل ذلك ما إذا كان لدى إدارة ترامب رؤية واضحة لإدارة التحولات في المنطقة

ثاني تلك التحديات، أن الفاعلين اللذين ساهما بدرجة كبيرة في صناعة المشهد الحالي، اسرائيل وإيران، باتا يقفان على عتبة انفجارات داخلية وانقسامات بدأت تظهر بوادرها، ولا سيما في المقلب الإسرائيلي المتوقع ان يشهد في المرحلة المقبلة، بعد الخروج من الملاجئ، صراعات سياسية ساخنة جدا، فيما تشير التقديرات إلى أن إيران لن تكون بعيدة عن هذا المسار، حيث بدأت تتهيأ أسئلة كثيرة للتبلور على شكل احتجاجات واعتراضات عن الاستثمارات المضيعة في الأسلحة والنفوذ الإقليمي والقدرة الخارقة على المواجهة، بل عن مصير المشروع النووي الذي أرهق إيران وجوّعها.

لكن هذه التحديات، أو التحوّلات، لا تكفي وحدها لصناعة مسارات جديدة في السياق الإقليمي، فالشرق الأوسط طالما عاند الوقائع والمتغيرات، وخاض في مسارات غير مضمونة، بناء على تقديرات خاصة عن الوزن والتأثير والفعالية لكل طرف من أطرافه، وبالتالي فإن بلورة مسارات جديدة سيكون مرهونا بقدرة الدفع الأمريكية وجدية الفاعل الأمريكي، الذي يبدو حتى اللحظة لديه الحماس لإعادة هندسة المنطقة، لكن ليس على مقاسات أطرافها الفاعلة، ولا سيما إسرائيل، لإدراك إدارة ترامب أن أوهام نتنياهو لا يمكن على أساسها بناء نظام إقليمي قابل للحياة، كما أن مقاسات دول الخليج وتركيا مثالية إلى حد لا تتوافق مع جسد المنطقة المُبتلى بندوب وتشوهات كثيرة، وترامب مستعجل لتحقيق الإنجازات ولا يريد الخوض في جولات تفاوضية كيسنجرية.

من حيث الشكل، تبدو المنطقة مهيأة بشكل كبير لحدوث تحوّلات مهمة على صعيد الانتقال من الحرب الى السلام، الواقع يدفع بهذا الاتجاه، لكن شكل السلام ونطاقه وقدرته على الصمود، فتلك مسائل من المؤكد أنه ستقررها الأوراق التفاوضية لدى اللاعبين ومدى صلاحيتها، والديناميكيات الاجتماعية والسياسية الصاعدة في الإقليم، والأهم من كل ذلك ما إذا كان لدى إدارة ترامب رؤية واضحة لإدارة التحولات في المنطقة.

x.com/ghazidahman1