ما
يجري في
غزة ليس حدثا استثنائيا، بل ممارسة متقنة.. ليست حربا خرجت عن السيطرة، بل
سيطرة خرجت عن الإنسانية. هنا لا نعدّ الضحايا؛ لأن العدّ صار بديلا عن المحاسبة،
ولا ننتظر النهاية؛ لأن المشهد صُمّم ليكون بلا نهاية. غزة ليست مأساة تُبكى، بل
نظاما يُدار بدم بارد، وبذاكرة خبيثة، وبصمتٍ دولي أكثر إيلاما من
القتل..
منذ
أكثر من قرن، لم تُدر مسألة الاحتلال بوصفها قضية حق فلسطيني، بل بوصفها مسألة
قابلة لتكرار التأجيل والتسويف، على أمل النسيان.. تتغير المفردات والمصطلحات ويبقي
الفعل، من خلال محاولة نزعُ الإنسان من سياقه، وتحويل وجوده إلى تفاصيل قابلة
للنقاش..
هكذا
نجحت السياسة في أكبر خدعها؛ فهي لم تُلغِ الجريمة، بل غيّرت صيغة السؤال عنها..
لم يعد السؤال عن سبب قتل الفلسطيني؟ بل: انتقل السؤال ليصبح: هل بات قتل الفلسطينية
ضروريا؟
القتل
كونه إجراء إداريا
نجحت السياسة في أكبر خدعها؛ فهي لم تُلغِ الجريمة، بل غيّرت صيغة السؤال عنها.. لم يعد السؤال عن سبب قتل الفلسطيني؟ بل: انتقل السؤال ليصبح: هل بات قتل الفلسطينية ضروريا؟
في
غزة، لا يُقتل الناس لأنهم يشكلون خطرا على أحد، بل لأن موتهم لا يكلّف أحدا شيئا..
المستشفى لا يُقصف لأنه مستشفى، بل لأنه لا توجد عقوبة رادعة.. الطفل لا يُدفن
لأنه عمل غير صالح، بل لأنه فائض عن الحاجة في حسابات القوة، وكل شيء محسوب: عدد الصور
التي يستطيع العالم احتمالها.. عدد الجثث الكافية لصناعة بيان.. وعدد الأكفان
القادرة على إضفاء البياض على المشهد..!
هذه ليست فوضى حرب، بل مشهد كوميدي أسود، ينجح في تسويغ منح
القاتل فرصة لغمس أصابعه بدم الرُضّع، وهو يضحك بهستيريا، ثم يُطلب من الضحية أن
تموت بلياقة وأدب..!
العالم..
الشريك الذي يتقن التظاهر
الحديث
عن "عجز المجتمع الدولي" بات نكتة سمجة وثقيلة الدم؛ فالعالم يملك
الإرادة الكاملة لإيقاف الفيلم ومنع عرضه، لكنه يستخدم إرادته لإدارة الحزن والغضب
والنواح، لا لإيقاف الجريمة..
واشنطن
لا تبحث عن نهاية الحرب، بل عن سقفٍ لا يتجاوزه القاتل؛ كي لا يحرج وقاحتها، ولست أدري كم شهيدا هو العدد المطلوب كي
يرفع عنها الحرج؟!
أما أوروبا؛
فتفضّل لغة القلق المدروس، لأنها أقل كلفة من لغة القرار، وأما المنظمات الدولية، فتُحصي
الضحايا كما تُحصى الخسائر في التقارير السنوية، ولعلك تسمع مدير إحدى المنظمات
يصيح في وجه موظف نسي أن يضيف إلى سجلات الغدر 40 شهيدا من عائلة واحدة، سقطوا من
حسابات الموت.. إن
صمت المجتمع الدولي ليس سوء تقدير، بل خيارا واعيا، وموقفا
مدروسا..
الجوار
العربي.. بيان اتهام لا مرافعة دفاع
في
الحالة العربية لا يعود الصمت حيادا، بل يتحول إلى مشاركة غير معلنة، فغزة لا تبعد
عن مصر سوى أمتار، لكنها تُدار كما لو كانت في قارة أخرى. المعبر يُفتح حين يناسب
التوازنات، ويُغلق حين يتعارض مع الحسابات.
المأساة
ليست في الإغلاق وحده، بل في تحويل الحياة إلى ورقة ضغط، وفي التعامل مع الجوع بوصفه
ملفا أمنيا، لا عارا أخلاقيا؛ فحين تصبح النجدة مشروطة، تتحول الجغرافيا من نعمة
إلى أداة قهر وحصار مضاعف..
والأردن
الذي يقترف الخوف الذي تأنّق حتى صار سياسة جبانة.. الأردن يعرف حجم النار، ويخشى
أن تمتد، ويحاول منع الاشتعال، قبِل بأن يكون شاهدا صامتا، فالسياسة التي تُدار
بالخوف لا تحمي نفسها، بل تؤجل سقوطها. وحين يُقدَّم الصمت بوصفه حكمة، تصبح
الحكمة عنوانا آخر للعجز المُقنَّع الذي يتحول إلى خيانة..
غزة ليست اختبارا للقوة، بل فضيحة للأخلاق.. لم يعد السؤال: من المسؤول؟ بل: كم من الوقت سيستمر هذا العالم في التظاهر بأنه لا يرى، دون أن يشعر بالخجل؟
وما
بعد الجوار.. النظام العربي القابع في غرفة مغلقة، يمارس القابعون فيها الصمت ليس
عجزا، بل خوفا على مصالحهم، حين يصبح بعض الصمت دليلا صارخا على الجبن، وبعضه
تفاهم وتآمر، وبعضه الآخر قناعة بأن غزة عبءٌ زائد عن الحاجة!
النتيجة
واحدة: تُترك غزة لتدفع الثمن وحدها، بينما يُدار العجز ببلاغة رسمية، ويُجمَّل
التواطؤ بمفردات السيادة والاستقرار ومصلحة الوطن..
الكل يضحك،
ولكن من يضحك على من؟ إنه ضحك يشبه البكاء الذي فقد صوته..! القاتل يضحك لأنه يعرف حدود اللعبة.. المتفرج
يضحك لأنه أقنع نفسه بأن ما يحدث شأن معقّد، وليس عليه أن يحزن ويدفع ثمن حزنه
قلقا وفزعا، والمشارك يضحك لأنه يظن بأنه أرضى أسياده.. الضحية وحدها لا تضحك،
لأنها تدفع ثمن النكتة كاملة!!
غزة
ليست اختبارا للقوة، بل فضيحة للأخلاق.. لم يعد السؤال: من المسؤول؟ بل: كم من
الوقت سيستمر هذا العالم في التظاهر بأنه لا يرى، دون أن يشعر بالخجل؟
ما
يحدث هناك ليس صدفة قدرية، بل قرارا.. والأخطر من القتل أن يُدار القتل بهدوء، ويُبرَّر
بدم بارد، ويُترك ليستمر؛ لأن أحدا لم يقرّر بعد أن يقول: كفى! ما
يحدث في غزة ليس لغزا سياسيا، بل اختبارا أخلاقيا فشل فيه العالم علنا.
كذلك لم
يعد السؤال: من المخطئ؟ بل كم من الوقت يمكن أن يستمر هذا المشهد قبل أن يفقد
الجميع حقهم في الادّعاء؟
غزة
لا تطلب معجزة، ولا تبحث عن تعاطف عابر، بل تطلب فقط أن يتوقف هذا العالم عن
التظاهر بأنه لا يرى؛ لأن أسوأ ما في الجريمة ليس ارتكابها، بل القدرة على
مواصلتها دون ارتعاش.