قضايا وآراء

إدارة الجريمة.. أسئلة العدوان وأدوار الشياطين

محمود النجار
"الكيان المحتل لم يلتزم، ولو لمرة واحدة، بتعهداته"- جيتي
"الكيان المحتل لم يلتزم، ولو لمرة واحدة، بتعهداته"- جيتي
شارك الخبر
لم تعد مأساة غزة مجرد فصل جديد في سجل الصراع العربي الصهيوني، بل باتت اختبارا أخلاقيا وسياسيا صارخا للنظام الدولي برمّته، وفي القلب منه الولايات المتحدة الأمريكية، التي تصرّ على تقديم نفسها وسيطا نزيها، فيما تمارس على أرض الواقع دور الضامن الاستراتيجي لاستمرار الحرب، وحامي الإفلات من العقاب، ومهندس التوازن المزعوم الذي يُدار به الصراع.

لم يعد منطقيا أن نسأل: هل تنحاز واشنطن إلى الكيان المحتل؟ بل يجب أن يكون السؤال: كيف تُدار مأساة غزة من قلب البيت الأبيض؟ ولماذا تفشل كل وعود وقف إطلاق النار؟

الولايات المتحدة ليست ضامنا أو وسيطا سياسيا، بل طرف مباشر:

منذ اندلاع العدوان النازي الأخير على قطاع غزة، حرص الخطاب الأمريكي الرسمي على التمسك بثنائية مراوغة، تقوم على الدعوة إلى التهدئة من جهة، وتوفير الغطاء العسكري والسياسي الكامل للكيان من جهة أخرى.. هذه الازدواجية ليست طارئة، بل تمثل حقيقة الدور الأمريكي تاريخيا، غير أنها بلغت في هذه الحرب مستوى غير مسبوق من الانكشاف والافتضاح؛ فالولايات المتحدة لم تكتفِ بالدعم السياسي في المحافل الدولية، ولا باستخدام حق النقض (الفيتو) لإسقاط كل مشاريع مجلس الأمن لوقف إطلاق النار، بل ذهبت أبعد من ذلك عبر تسريع شحنات السلاح والذخائر، وتبرير استهداف المدنيين تحت ذريعة "حق الدفاع عن النفس"، ناهيك عن تعطيل كل القرارات الدولية التي تجرّم الكيان المحتل قانونيا، كما حدث في محكمة العدل الدولية التي هي الجهاز القضائي الرئيس للأمم المتحدة، حيث أنكرت واشنطن قرارات المحكمة، وفرضت عقوبات على قضاتها..!

الوقائع أثبتت أن هذه الضمانات كانت، في أفضل أحوالها، وعدا بلا إجراءات حقيقة، وفي أسوئها، غطاء دبلوماسيا لتمديد أمد العدوان

بهذا المعنى، لم تعد واشنطن راعية لمسار سياسي، بقدر ما هي شريك فعليّ في إدارة الحرب؛ إذ لا يمكن لمن يكتب بيان التهدئة صباحا، ويوقّع صفقة السلاح مساء، أن يدّعي الحياد؛ فهي الدولة الوحيدة التي تطلب وقف إطلاق النار، وتحرص في الوقت نفسه على ألا ينفد الرصاص..!!

ولطالما سوّقت الإدارة الأمريكية نفسها ضامنا لاتفاقات التهدئة ووقف إطلاق النار، غير أن الوقائع أثبتت أن هذه الضمانات كانت، في أفضل أحوالها، وعدا بلا إجراءات حقيقة، وفي أسوئها، غطاء دبلوماسيا لتمديد أمد العدوان.

إلى ذلك فإن الكيان المحتل لم يلتزم، ولو لمرة واحدة، بتعهداته المتعلقة بوقف القصف، أو إدخال المساعدات الإنسانية، أو حماية الممرات الإنسانية، ومع ذلك، لم تُفعِّل واشنطن أية آلية ضغط حقيقية، لا سياسية ولا اقتصادية ولا عسكرية.. هذا الفشل لا يمكن تفسيره بالعجز، بل بالاختيار؛ اختيار حماية التحالف الاستراتيجي مع الكيان حتى لو كان الثمن آلاف الضحايا من المدنيين..!!

الصمت العربي.. ضمانة إضافية للفشل:

إلى جانب الدور الأمريكي، يبرز موقف الدول العربية الضامنة أو المنخرطة في المسار السياسي بوصفه عاملا مكمّلا للخلل القائم؛ فالصمت، أو الاكتفاء ببيانات القلق، أو التعويل المستمر على واشنطن نفسها، جعل من هذه الدول شاهد زور عاجزا، أو شريكا سلبيا في إدارة الأزمة.

لقد كشف العدوان النازي على القطاع أن الرهان على الضغط الأمريكي عبر القنوات الدبلوماسية التقليدية رهان خاسر، وأن غياب أدوات عربية مستقلة للضغط جعل من أي ضمانات مشتركة مجرد حبر سياسي لا يحمي دما ولا يوقف نارا.

حماس ومأزق المطالبة بالالتزام:

في هذا السياق، تبدو مطالبات حركة حماس بالالتزام بوقف إطلاق النار، رغم مشروعيتها القانونية والأخلاقية، واهنة التأثير، لأنها تصطدم بواقع دولي لا يعترف إلا بموازين القوة.. وربما تدرك الحركة، ضمنيا، ألا أحد من الضامنين يستطيع الوفاء بما وعد به؛ فلا وقف دائما لإطلاق النار، ولا إدخال آمنا ومستداما للغذاء والدواء، ولا حماية للمدنيين، غير أن الإشكال لا يكمن في ضعف المطالبة، بل في انسداد أفق الضمان، حين يكون الضامن هو ذاته الحامي للطرف المعتدي؛ ما يذكرنا بقول المتنبي: "فيك الخصام وأنت الخصم والحكم"

هل الاستسلام خيار ممكن؟
غزة، في النهاية، ليست ضحية صاروخ فقط، بل ضحية نظام دولي قرر أن يجعل من المعاناة الفلسطينية مسألة قابلة للتفاوض، ومن العدالة شعارا مؤجلا

تُطرح أحيانا تساؤلات حول إمكانية تسليم حماس لسلاحها أو استسلامها كمدخل لإنهاء الحرب.. هذا السؤال في جوهره، يتجاهل السياق التاريخي والسياسي للصراع؛ إذ لم يكن السلاح يوما سبب الاحتلال، بل نتيجة له.. وقد ضمنت تشريعات الأمم المتحدة مقاومة المحتل، فالسلاح الذي تحمله حركات المقاومة سلاح مشروع، لا حق لأحد في افتكاكه. ونزعه لن يؤدي إلى سلام، بل إلى فراغ أمني، وإعادة إنتاج لجريمة الحرب بأشكال أكثر عنفا وضراوة..

وأخيرا، فقد أدرك العالم كله بأن الدور الأمريكي في مأساة غزة ليس دور الوسيط العاجز، بل دور الفاعل الممسك بخيوط اللعبة؛ فواشنطن تملك القدرة على وقف الحرب لو أرادت، لكنها تختار إنتاج الألم وإدارته بدل إنهائه.. وتكتفي بتنظيم إيقاع الموت؛ ففي المعايير الأمريكية لا تُقاس المأساة بعمقها الإنساني، بل بمدى قابليتها للإدارة السياسية؛ فواشنطن التي تملك مفاتيح وقف الحرب، تصرّ على استخدامها لإدارة الألم، لا لإغلاق بواباته..!

إن غزة، في النهاية، ليست ضحية صاروخ فقط، بل ضحية نظام دولي قرر أن يجعل من المعاناة الفلسطينية مسألة قابلة للتفاوض، ومن العدالة شعارا مؤجلا.. نظام دولي يتقن حساب عدد الشهداء والجرحى، ويعجز عن اتخاذ قرار باسم الحق والعدالة.

حين تتحول المعاناة إلى ملف، والعدالة إلى موعد مستحيل، فمن المؤسف أن يصبح الصمت حنكة سياسية، والتواطؤ نظاما..!!
التعليقات (0)