لم تكن عملية
اغتيال الرجل الثاني في الجناح العسكري لحركة
حماس، رائد
سعد، حدثا معزولا تحكمه اعتبارات ميدانية آنية، بل مثّلت لحظة كاشفة لطبيعة
إدارة إسرائيل للمرحلة الراهنة من مسار وقف إطلاق النار. إذ إن تزامن العملية مع
سياق سياسي بالغ الحساسية، وطريقة تبنّيها العلني، وما رافقها من خطاب تبريري،
يعكس جميعه نمطا مدروسا في توظيف القوة العسكرية ضمن مقاربة أوسع تجمع بين الضغط
الميداني وإدارة التفاوض.
ومن خلال قراءة متأنية لعناصر الحدث وسياقه السياسي والإقليمي، تتبدّى
مجموعة من الملاحظات الجوهرية التي تتجاوز الفعل الاغتيالي ذاته، وتلقي الضوء على
منطق القرار الإسرائيلي، وحدود التزامه بالاتفاق القائم، وكيفية استخدام العمليات
العسكرية كأداة لإعادة تشكيل ميزان القوة قبيل الانتقال إلى مراحل تفاوضية لاحقة،
وذلك على النحو الآتي:
أولا: تنتهج إسرائيل نمط الحرب
منخفضة الكثافة، بوصفه إطارا عملياتيا يهدف إلى ضمان حرية حركة الجيش الإسرائيلي
وتوسيع وتعميق بنك الأهداف الاستخبارية، بما يشكّل تمهيدا بنيويا وشرطا عمليا مسبقا
لتنفيذ سياسات الاغتيال الممنهج ضمن مقاربتها الأمنية الشاملة في
غزة.
يأتي هذا التأطير ضمن خطاب سياسي- أمني يهدف إلى نفي صفة المبادرة عن الفعل الإسرائيلي، وتقديمه باعتباره نتيجة حتمية لسلوك الطرف الآخر، وتحقيق مسألة عدم الرد الفلسطيني على عملية الاغتيال، وتحميل الجانب الفلسطيني مسؤولية تعطيل الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق
ثانيا: تميّزت العملية بسرعة استثنائية في إعلان المسؤولية، إذ بادرت
إسرائيل إلى الإقرار العلني بتنفيذ عملية الاغتيال فور وقوعها، في خروج نسبي عن
نمطها المعتاد في مثل هذه العمليات، حيث درجت عادة على انتهاج سياسة التريث أو
الامتناع عن التبنّي الرسمي، ولا سيما عندما تتسم العمليات بحساسية سياسية وأمنية
مرتفعة أو تأتي في توقيتات دقيقة. ويعكس هذا الإعلان المبكر يحمل في طياته رسائل
سياسية وأمنية لجميع الأطراف.
ثالثا: سعت إسرائيل إلى تأطير
الحدث بوصفه ردّا دفاعيا على خرق حماس لاتفاق وقف إطلاق النار، في محاولة منهجية
لنقل مسؤولية التصعيد إلى الطرف الفلسطيني. ويأتي هذا التأطير ضمن خطاب سياسي- أمني
يهدف إلى نفي صفة المبادرة عن الفعل الإسرائيلي، وتقديمه باعتباره نتيجة حتمية
لسلوك الطرف الآخر، وتحقيق مسألة عدم الرد الفلسطيني على عملية الاغتيال، وتحميل
الجانب الفلسطيني مسؤولية تعطيل الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق.
رابعا: قبل أيام، صرّح رئيس جهاز
الشاباك الأسبق رونين بار، بأن إسرائيل ستواصل ملاحقة من تبقّى ممن تصفهم بـمهندسي
هجوم السابع من أكتوبر، محددا عددهم بشخصين فقط. وتكمن أهمية هذا التصريح في
دلالته الواضحة على أن عملية الاغتيال لم تكن فعلا طارئا أو استجابة آنية لـ"خرقٍ"
من جانب حركة حماس، بل جاءت ضمن خطة مسبقة ومحددة الأهداف. وبذلك، يُسهم هذا
المعطى في نفي الرواية الإسرائيلية التي تحاول تصوير الاغتيال بوصفه ردّا مباشرا
على خرق اتفاق وقف إطلاق النار، ويكشف تناقضا في خطاب التبرير الرسمي، إذ إن الفعل
الاغتيالي، وفق هذا المنطق، يسبق الحدث المزعوم ويستند إلى قرار أمني مُتَّخذ سلفا،
لا إلى تصعيد ميداني مفاجئ.
خامسا: من الناحية السياسية، لا
يمكن اعتبار هذه العملية نسفا مباشرا للاتفاق القائم، إذ تحرص إسرائيل على إدارة
عملياتها الأمنية ضمن سقف محسوب لا يفضي إلى انهيار الاتفاق برمّته.
سادسا: تستثمر إسرائيل هذا الواقع
القائم في قطاع غزة، في ظل حالة من التباطؤ الدولي إزاء الانتقال إلى المرحلة
الثانية من الاتفاق، بما يخدم مصالحها السياسية والأمنية. ففي مقابل المماطلة في
تنفيذ الاستحقاقات المرتبطة بهذه المرحلة، تواصل تنفيذ عمليات اغتيال، وهدم للمنازل،
وتوسيعا لسيطرتها الميدانية داخل القطاع. وبهذا الأسلوب، تسعى إسرائيل إلى ترسيخ
معادلة مزدوجة تقوم على الظهور بمظهر الطرف المنضبط والملتزم شكليا بالاتفاق، في
حين تفاوض فعليا على شروط المرحلة المقبلة من سيطرة وقوة.
سابعا: لا تُنفَّذ عمليات من هذا
النوع دون مصادقة مسبقة من مكتب التنسيق الأمني في كريات غات، مهما حاولت الرواية
الإسرائيلية الإيحاء بأنها قرارات ميدانية معزولة أو طارئة. فحساسية هذه العمليات
وتشابك أبعادها الأمنية والسياسية يفرضان مرورها عبر مستويات تنسيق عليا، بما يؤكد
طابعها المؤسسي والمنظَّم، وينقض محاولات تصويرها خارج إطار القرار الإسرائيلي-
الأمريكي.