قضايا وآراء

منخفض أخلاقي يضرب المتفرجين

نزار السهلي
"الذي يعرف أكثر من الجميع أبعاد ومعاني الخذلان، هم أهل غزة، نظرا لأهوال الإبادة التي عصفت بهم، وقبل غرقهم في خيامهم وفي وحل أتربة منازلهم وشوارعهم المدمرة"- الأناضول
"الذي يعرف أكثر من الجميع أبعاد ومعاني الخذلان، هم أهل غزة، نظرا لأهوال الإبادة التي عصفت بهم، وقبل غرقهم في خيامهم وفي وحل أتربة منازلهم وشوارعهم المدمرة"- الأناضول
شارك الخبر
كل شيء يطول في حياة الشعب الفلسطيني؛ احتلال أرضهم ونكبتهم، والعدوان عليهم، والبؤس والفقر والمجاعة والبرد والغرق في الخيام والوحل في غزة، والموت بسببها ونتيجة لجرائم الحرب والإبادة.. وخذلان الفلسطينيين في غزة من الأسباب والنتائج التي دهورت بشكل مباشر حياة مليوني إنسان يعيشون فاجعة كبيرة، وحالة صعبة من الإرباك حولت جموع البشر لهائمين على وجوههم في مساحة ضيقة، تجتمع فيها كل وسائل الضغط والسحق التام للحياة.

ولم يعد خافيا، أن الصمت والعجز الذي استمر طيلة عامي جرائم الإبادة الإسرائيلية وتساقط آلاف الأطنان من المتفجرات والقنابل والرصاص على سكان غزة وبيوتها وأرضها، لن تصدمه وتدهشه مشاهد الواقع الهزيل لخيام الناجين من الإبادة بعد تساقط الأمطار واقتلاع الرياح لما تبقى من "خِرق" ممزقة ظن المرتجفون تحتها أن درء البرد والمطر سيكون أسهل من التصدي للقنابل.

بعد أكثر من شهرين على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، سيبقى هاجس إنقاذ ما تبقى فيها يلاحق ضمائر زعماء العرب وسياساتهم التي ظلت ترمز للتقزيم والتقاعس والتآمر على غزة وعموم القضية الفلسطينية

لا أحد، لا أحد على الإطلاق، قدّر أو يقدر الظروف التي يمر بها أهل غزة، حتى لو تناقلت الشاشات صورهم، ونقلت أحاديث غضبهم واستصراخهم ضمائر العالم، ومع ذلك يُطلب منهم تقدير ظروف التخاذل والعجز والصمت والتآمر، وهناك من يثني على معالجتهم أمور حياة الخيمة والغرق والتصدي لعدوان المحتل ولقسوة الطبيعة بالأناة والصبر والحكمة والتبصر والتعقل في تدبر أمور الكارثة، آه.. ما أطول الليالي والأيام والوقت في غزة، وما أثقلها مطالب وقف معاناتهم، ولجم العدوان عليهم، فلم يعد الحديث عن الفشل الأخلاقي والسياسي والقانوني حديثا مثيرا، ولا خبرا يدعو للتأثر في غياب الفعل.

المنخفض الجوي الذي ضرب غزة مؤخرا، سبقته ضربات منخفضة الأخلاق والضمير أصابت معظم السياسة العربية أولا، والتي تأثرت بها معظم أجواء السياسة الغربية والأمريكية بالتعامل مع الجرائم الإسرائيلية، فهناك تفهم "ضمني" للإجراءات والسياسات العقابية الإسرائيلية المفروضة على غزة منذ 18 عاما وقبل السابع من أكتوبر 2023، الذي اتخذته الحكومة الاسرائيلية ذريعة لانتقام جماعي تستكمل به خطط السيطرة والضم والاستيطان والتهجير في عموم الأرض الفلسطينية المحتلة. وعليه، استطاع العالم مع سياسة عربية تحمل وهضم الرعونة والصفاقة والتحدي الذي ميز حكومة إسرائيلية بالغة التغول في الفاشية والعنصرية والإرهاب، فبعد أكثر من شهرين على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، سيبقى هاجس إنقاذ ما تبقى فيها يلاحق ضمائر زعماء العرب وسياساتهم التي ظلت ترمز للتقزيم والتقاعس والتآمر على غزة وعموم القضية الفلسطينية.

الذي يعرف أكثر من الجميع أبعاد ومعاني الخذلان، هم أهل غزة، نظرا لأهوال الإبادة التي عصفت بهم، وقبل غرقهم في خيامهم وفي وحل أتربة منازلهم وشوارعهم المدمرة. كان الفصل التمهيدي للفاشية الصهيونية عليهم الأشد والأشرس في معركة إلحاق الهزيمة بالكل الفلسطيني، لهذا لا يغرق الفلسطينيون عموما في التفاؤل والوعود والكلام والشعارات الطويلة عن الدعم والوقوف الدبلوماسي والمعنوي بجانبهم، بدون زخم وصلابة تكسبها الجوهر والقدرة، فمن عاش الذل والهوان والهزائم كلها في فلسطين، وينام ويصحو على مرارة مواجهة سياسات وتهديدات بن غفير وسموتريتش ونتنياهو للقضاء على وجوده الأزلي فوق أرضه، لم يعد يكترث للتبشير العربي الأمريكي الإسرائيلي بقدوم الحلم الموعود لـ"بناء السلام" المشروط بهزيمة حقوقه وطرده واقتلاعه من وطنه.

سخونة جرائم الإبادة الإسرائيلية لن تبردها مياه الأمطار، ولن تجرف أدلتها الدامغة السيول الجارفة، ولا الطلب الأمريكي من إسرائيل إزالة أطنان ركام البيوت المدمرة في غزة، ليكون لها فعل التسامح عن الجرائم التي يعتقد الأمريكي أنها ستمر سريعا، كما يراد لها على الجانب الممعن في إهمال كل أدوات عقاب المجرم، لهذا ستبقى غزة اختبارا لكل الأشياء القيمة في عالمٍ سحقه انخفاض هذه القيم والدوس عليها،
المثير، ليس اكتشاف الرابط الاستعماري الغربي مع المؤسسة الصهيونية الذي يعرفه العرب والفلسطينيين منذ قرن، بل في عدم العثور على رابط رسمي عربي، يدل على ما تنافخت به العرب قديما عن المروءة والإخوة والشهامة وصلات الدم واللغة والعروبة ثم الإسلام، ليس في صد الغزوات، بل في إنقاذ أرواح عربية تتساقط
وكما كانت واضحة دواعي الصمت الغربي الأمريكي عن جرائم الإبادة والحرب وضد الإنسانية في غزة وتبريرها ودعمها، فإنها قدمت الدليل الدامغ لحقيقة إسرائيل وجوهرها الفاشي بإيجاد الرابط بينها وبين مشاريع استعمارية غربية في المنطقة.

لكن المثير، ليس اكتشاف الرابط الاستعماري الغربي مع المؤسسة الصهيونية الذي يعرفه العرب والفلسطينيين منذ قرن، بل في عدم العثور على رابط رسمي عربي، يدل على ما تنافخت به العرب قديما عن المروءة والإخوة والشهامة وصلات الدم واللغة والعروبة ثم الإسلام، ليس في صد الغزوات، بل في إنقاذ أرواح عربية تتساقط بفعل التقاعس والتخاذل والفرجة عليها. ومن هنا يمكننا القول إن تعامل العقل الرسمي العربي مع الفاشية الصهيونية في غزة وبقية فلسطين ونتائجها على الأرض، تحكمه وتتحكم به خلفية ثمانية عقود من العجز المنحدر أكثر فأكثر، إلى أن أذهلته مفاجأة عدم استسلام شعبٍ تحت الاحتلال، واستمرار مقاومته، فالعقل الرسمي العربي والفلسطيني أصبح بارعا فقط في توظيف الاستسلام والخنوع والهزيمة، والتعامل معها كأمرٍ واقع وتبريرها وفلسفتها، وهو المنخفض الذي يضرب ويعصف بحال الفلسطينيين والعرب عامة.

أخيرا، المتاجرة والمناورة بهزيمة الشعب الفلسطيني، وبطول ليلهم وقساوة شتائهم وقيظ صيفهم، لن يفتح أبواب السلام في المنطقة، ولن يُكسب أي مبادرة أمريكية وغربية بعيدة عن حقوقهم أية مصداقية، فالوقوع المتكرر في حبائل المؤامرة والتواطؤ والسمسرة، هي من ديدن نظام عربي منهمك في تلاوة يومية لبيان هزيمته على شارع عربي سيكتب بيانه الأول، مهما اشتدت قبضة الاستبداد ومهما علت غطرسة المحتل، فنحن بانتظار ربيع عربي آخر يزيح هذا المنخفض، ويقصر ليل المعتقلين والمعذبين والمنكوبين، وهو آت لا محال.

x.com/nizar_sahli
التعليقات (0)

خبر عاجل