كتاب عربي 21

عن تشابك والتباس الموقف المصري من غزة (2-2)

شريف أيمن
"تواجد الكيان في محور صلاح الدين سيقطع الحدود المصرية الفلسطينية، ما يعني تقليل أهمية الدور المصري في القضية الفلسطينية"- إكس
"تواجد الكيان في محور صلاح الدين سيقطع الحدود المصرية الفلسطينية، ما يعني تقليل أهمية الدور المصري في القضية الفلسطينية"- إكس
شارك الخبر
استكمالا للمقال السابق، الذي يحاول فهم السلوك المصري فيما يخص القضية الفلسطينية، ما بين مواقف تبدو متصلبة، أو متواطئة، نرصد هنا -على خلاف المقال الأول- سلوك نظام السيسي المتصل بعملية طوفان الأقصى، ولا بد من التأكيد أن الشارع المصري، ومعظم أفراد المؤسسات الأمنية والعسكرية المصرية يختلفون مع هذا الموقف، الذي يتحمل السيسي تبعاته، قبل أركان نظامه، ولا تتحمله مؤسسات الدولة الوطنية في معظم توجهاتها الخاصة بفلسطين، وربما بعض تفاصيل الوضع الداخلي كذلك.

هذا النقاش الخاص بدور السيسي، لا يمكن معه إغفال التحذير المصري لكيان الاحتلال من الترتيبات العسكرية في قطاع غزة، قبيل طوفان الأقصى، وهو التحذير الذي قيل في بداية العدوان، ثم جددت صحيفة "إسرائيل هيوم" ذِكْره في تحقيق منشور قالت إنه استمر لعدة أشهر، "مع عدد كبير من كبار المصادر ممن كشفوا أمامنا معلومات جديدة ومقلقة تتركز في الأسبوعين ما قبل وقوع الكارثة"، أحد هذه المصادر وصفته الصحيفة بأنه "مصدر مصري كبير" التقت به في وسط فلسطين المحتلة.

النقاش الخاص بدور السيسي، لا يمكن معه إغفال التحذير المصري لكيان الاحتلال من الترتيبات العسكرية في قطاع غزة، قبيل طوفان الأقصى، وهو التحذير الذي قيل في بداية العدوان

نقلت الصحيفة عن هذا المصدر أن وفدا مصريّا وصل إلى وزارة خارجية الاحتلال قبل أسبوعين من 7 تشرين الأول/أكتوبر، ليلتقي بنظرائه من الطاقم الدبلوماسي، وحذَّر من أن "الوضع في غزة قابل للانفجار". لكن هذه الشهادة ليست مهمة بقدر الموقف التالي الذي ذكرته الصحيفة:

- في 26 أيلول/سبتمبر 2023، حين اجتمعت قيادة الدولة في طقوس احتفالية إحياء ذكرى خمسين سنة على حرب يوم الغفران [يوم نصر أكتوبر 1973]، وقَعَ حدث يُخيَّل وكأنه أُخِذ من صفحات رواية جاسوسية. طائرة ترتبط بالمخابرات المصرية هبطت في منطقة منعزلة في مطار بن غوريون بقيت على المسار لساعة فقط، وأقلعت عائدة إلى القاهرة.

- تغيَّب عن الاحتفال رئيس هيئة الأمن القومي تساحي هنغبي؛ الرجل الذي يُفترض أن يكون على اتصال متواصل مع من كان رئيس المخابرات المصرية؛ عباس كامل. فهل كان في الساعة إياها منشغلا بالحرب التالية؟

- بعد يوم من ذلك، أُقرت في غرفة رئيس الوزراء نتنياهو تسهيلات وخطوات تسوية لقطاع غزة، مثلما أكد لنا مصدر كان حاضرا في الغرفة. وقيل إن مصدرا مصريّا نقل إلى هيئة الأمن القومي إخطارا مركّزا. كان التحذير عن "شيء ما كبير" سيحصل، وفقا لما نقلته الصحيفة عن عدة مصادر.

هذا هو موقف السيسي وعباس كامل قبيل عملية الطوفان، فهل تغيَّر الموقف من القضية الفلسطينية بعد الطوفان؟

في تعبيراته الأولى عقب العدوان الصهيوني على القطاع، لم يُخفِ السيسي عداوته للمقاومة الفلسطينية وانحيازه للجانب الصهيوني، فقال للمستشار الألماني أولاف شولتز يوم 18 تشرين الأول/أكتوبر 2023؛ إنه لو كانت هناك فكرة للتهجير، فهناك صحراء النقب في إسرائيل (..) يتم نقل الفلسطينيين هناك حتى تنتهي إسرائيل من مهمتها المعلنة في تصفية المقاومة أو الجماعات المسلحة مثل حماس والجهاد في القطاع، وتتم إعادة السكان بعد ذلك مجددا إذا شاءت. لاحظ تعبير "إذا شاءت".

أما على مدار أشهر العدوان الوحشي فقد فعل السيسي الآتي:

- لم يُدخل أي شيء إلى القطاع إلا بموافقة صهيونية، وبتفتيشٍ من قبل العدو.

- لم يَخرج شخص من القطاع إلا بموافقة صهيونية، مهما كانت خطورة الحالة الصحية.

- فُرضت على الفلسطينيين مبالغ طائلة للخروج من القطاع عبر مصر، وصلت في حالات إلى 8 آلاف دولار، من ما تُسمى بـ"التنسيقيات الأمنية"، دون أي اكتراث بمعاناة الفلسطينيين الصحية والإنسانية.

- كما فُرضت مبالغ أخرى لإدخال المساعدات. وترتبط التنسيقيات الخاصة بالأشخاص أو البضائع بالعرجاني الذي يمثِّل واجهة مدنية لنظام السيسي.

- منع السيسي مظاهر الاحتجاج المصري في الداخل، وسمح بتظاهرات ممسوخة ترتبها الأجهزة الأمنية وتضع سقفا لها، وتؤيد السيسي أكثر مما تنتصر للفلسطينيين.

- اعتقل السيسي عشرات المصريين الذي احتجوا وانتفضوا لنصرة الفلسطينيين في القطاع، ولا يزال العشرات منهم في السجن، وبعضهم لا يزال مختفيا بشكل قسري.

- حافظ السيسي على علاقة دبلوماسية مع الكيان الصهيوني، وإن حدث تخفيض لها بعدم اعتماد أوراق ممثِّله الجديد، لكن العلاقات الدبلوماسية لم تنقطع.

- استمر التبادل التجاري، بل وقَّع السيسي اتفاقية غاز بعشرات المليارات من الدولارات، ليحوِّل لصوص الأرض والثروات إلى قوة إقليمية في مجال الطاقة، بغاز مسروق، فضلا عن غسل السمعة الدولية، وإيهام المجتمع الدولي أن العلاقات الثنائية ليست بالسوء الذي تبدو عليه في العلن.

- سمح السيسي بعبور قوارب حربية صهيونية من قناة السويس، وباتت الموانئ المصرية محطات لسفن السلاح الصهيوني أو القادم إلى كيان الاحتلال.

- جاع الغزِّيون طوال فترة العدوان، ثم تعرضوا لمجاعة لعدة أشهر نتيجة إغلاق جميع المعابر، عقب انقلاب العدو على اتفاق وقف إطلاق النار المُوَقَّع في كانون الثاني/يناير 2025، وظلّ الفلسطينيون من آذار/مارس حتى اتفاق وقف النار في تشرين الأول/أكتوبر الماضي في مجاعة حقيقية، واستُشهد المئات إما بسبب الجوع أو في أثناء تلقي المساعدات.

- لا يزال الغزيون يتساقطون نتيجة البرد القارس، ولا تدخل مساعدات كافية لهم، رغم أن مصر دولة ضامنة لبنود الاتفاق.

- أكثر ما يشغل السيسي، هو إعلان مؤتمر إعادة الإعمار الذي يشدد على أن تكون مصر طرفا أساسيّا في عملية الإعمار، باحثا عن مصدر جديد للمال، غير عابئ بجراح الفلسطينيين وظروفهم الحالكة.

هذه المواقف الرئيسة لنظام السيسي، تُقابَل بحديث عن ثلاثة مواقف للسيسي، أحدها أنه يرفض لقاء نتنياهو، ووَضَعَ قوات مصرية في سيناء.

لكن هذا الموقف بدأ يتفكك بمجرد موافقة العدو الصهيوني على اتفاقية الغاز رسميّا، ووفقا مسؤول مصري تحدث إلى قناة كان العبرية:

- صفقة الغاز تعد تطورا إيجابيّا يمكن أن يخفف من حدة التوتر الكبير في العلاقات مع "إسرائيل".

- لا يمكن استبعاد إمكانية عقد لقاء ثلاثي في نهاية الشهر بين ترامب ونتنياهو والرئيس السيسي، المهم هو أن يستمر السلام بين البلدين.

- من الضروري ترقية اتفاق السلام وتعزيز الوجود العسكري المصري في سيناء من أجل منع إعادة تعاظم قوة حماس.

وللقارئ أن يتخيل هذا المتفذلك وهو يقول: "من أجل منع إعادة تعاظم قوة حماس"، لا تعاظم قوة الاحتلال الذي يحوز أسلحة نووية ومصر مهدَّدَة بها!

أما الموقف الثاني؛ فهو رفْض البقاء الصهيوني في محور صلاح الدين. ويمكن ربط هذا الموقف بعدوانية محمودة أبدَتْها الأجهزة الأمنية إزاء هذا الوضع الجديد، لكن هذه العدوانية بدأت تخفت رويدا رويدا مع الوقت، وهذا مفهوم، إذ إن السيسي هو الذي سمح للطيران الصهيوني بدخول الأجواء المصرية وقصف مصريين، كما ذكرنا في المقال السابق، وبالتالي لا مانع لديه من ابتلاع الصهاينة لقطاع غزة كله، وقد سمح طُول مدة العدوان للسيسي بأن يعمل للوصول إلى تخفيف حدة الخطاب حول المحور، وربما استبعاد المنادين بموقف أكثر قوة من المشهد.

من جهة أخرى، هناك ثقافة -للأسف- داخل الأنظمة العربية ومنها الأجهزة الوطنية المصرية، تتعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها بوابة للزعامة العربية، وبالتالي يكون وجود دور لهذه الأنظمة في فلسطين أمرا لا غنى عنه لها، وهذا أحد أبرز أسباب هزائم عام 1948، عندما تنازعت مصر والأردن زعم السيادة على فلسطين، وهذا تفصيل ليس محله الآن، لكن الشاهد أن من ضمن القناعات الداخلية للأجهزة الوطنية، أن ارتباط مصر بدور داخل فلسطين يعد أحد أدوات القوة الإقليمية لمصر، ولا يمكن التنازل عن ذلك، وبالتالي فتواجد الكيان في محور صلاح الدين سيقطع الحدود المصرية الفلسطينية، ما يعني تقليل أهمية الدور المصري في القضية الفلسطينية.

المواقف المتواطئة ضد الفلسطينيين هي التي تحكم موقف السيسي من الصراع، وكذلك معظم الدول العربية، أمَّا المواقف الأكثر صلابة فإنها ترتبط بأمرين؛ أحدهما يتعلق بمصالح تلك الدول نفسها، خاصة في قضية التهجير التي طالت مصر والأردن والسعودية، والثاني، ترك مساحة للتنفيس الشعبي

صحيح أن الدور المصري وتأثيراته في فلسطين أصبح أقل منذ وصول السيسي إلى الحكم وانحيازه ضد حماس في ظل صراعه مع التنظيمات السياسية الإسلامية، وانتقل مركز الثقل إلى الدوحة، لكن العدوان الأخير أعاد مصر بقوة باعتبارها بوابة الدخول إلى غزة، وظلت قطر بوضعها الأقوى في مسار التفاوض، ثم نجحت تركيا في الدخول بقوة إلى القرار المتعلق بفلسطين، وهذه الأدوار -لا ريب- أفضل من دور السيسي، حتى مع وجود بعض الملاحظات عليها.

والموقف الثالث، رفْض تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر، وهو الموقف الذي فسَّره السيسي بنفسه، عندما قال في المؤتمر مع شولتز إن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء يعني أن "تتحول سيناء إلى قاعدة للانطلاق بعمليات إرهابية ضد إسرائيل، وتتحمل مصر المسؤولية في ذلك". نعم، وصف السيسي أفعال المقاومة بأنها "عمليات إرهابية".

قد يَعدُّ البعض التفسيرَ المكتوب عدائيّا تجاه السيسي دون مبرر، والحق أن تاريخه مع القضية الفلسطينية هو الذي أدى إلى استبعاد أي إمكانية تصرّف حَسَن منه، بخلاف مبارك مثلا الذي خاض حربا ضد الاحتلال، وله تاريخ من العداوة العسكرية وليس السياسية فقط، وبالتالي يمكن حمل بعض التصرفات الجيدة لمبارك وفقا لهذا الموروث، أما تاريخ السيسي فلا شفيع له فيه.

ومن جهة أخرى، يصعب على المرء أن يستسيغ مفهوم الثناء على شخص وفقا لموقف واحد من جملة مئات وآلاف المواقف، فهذا اضطراب ميزان، فالموازين تكون بين كفتين توجد فيهما ما يمكن أن يُلاحَظ، فإذا وضعنا كتلة فائقة الحجم في كفة وكتلة تزن غرامات في الأخرى، هل يمكن أن نقول إن وجود الكتلة الأقلّ في الكفة الأخرى صنعت وزنا ما؟! هذا هو وضع أعمال السيسي فيما يخص القضية الفلسطينية.

ما يمكن أن تخلص إليه هذه المعطيات، أن المواقف المتواطئة ضد الفلسطينيين هي التي تحكم موقف السيسي من الصراع، وكذلك معظم الدول العربية، أمَّا المواقف الأكثر صلابة فإنها ترتبط بأمرين؛ أحدهما يتعلق بمصالح تلك الدول نفسها، خاصة في قضية التهجير التي طالت مصر والأردن والسعودية، والثاني، ترك مساحة للتنفيس الشعبي كعدم قبول اعتماد أوراق سفير في مقابل علاقات دبلوماسية لم تتوقف، أو تصريحات عدائية في مقابل صفقات تجارية وتمرير شحنات أسلحة، ما يجعل المزاج الشعبي مرتبكا ويقول عن النظام "إن هناك مواقف جيدة وليست كلها سيئة"! فيرتبك في تقدير الموقف الكامل للنظام، وهو ما وجب التنويه إليه.
التعليقات (0)