كتاب عربي 21

"تونس الممكنة".. بين اليأس والرجاء!

سليم عزوز
"مثل هذه المراجعات وتأملها كان يمكن أن يحمي الثورة المصرية"- جيتي
"مثل هذه المراجعات وتأملها كان يمكن أن يحمي الثورة المصرية"- جيتي
شارك الخبر
هذا كتاب يفسده التلخيص، وإن كانت الحكمة التي يخلص بها المرء بعد قراءته، هي أن من نظر إلى بلوى غيره هانت عليه بلواه؛ حكمة بالغة فما تُغني النذر!

الكتاب هو "تونس الممكنة"، الذي صدر مؤخرا، والكاتب هو عماد الدائمي؛ مدير ديوان الرئاسة في فترة حكم الدكتور المنصف المرزوقي، والسياسي والبرلماني التونسي المعروف، والذي تقدم للترشيح للانتخابات الرئاسية الأخيرة، منافسا للرئيس قيس سعيد، ولم يمكّن من ذلك، وتم التعامل مع المنافسة منه ومن غيره على أنها عمل إجرامي يعاقب عليه القانون، قانون قيس المذكور، الذي هو في "الراس وليس في الكراس"!

أما أنه يفسده التلخيص، فلأنه يرصد أزمة الدولة التونسية منذ النشأة والتكوين للمرحلة الحالية، وهو يمثل مراجعات لرجل عُرف بها، ويعترف بالأخطاء التي ارتكبت من جانب التيارات السياسية التي تمكنت من الحكم بعد الثورة، وأوردتها مورد التهلكة، ويعترف بنصيبه من هذه الأخطاء. وهي شجاعة يفتقدها كثيرون، ويشعر بها الذين شاهدوا المآسي على مر التاريخ، مع الهروب من التقييم لها، فكان من الطبيعي أن تتكرر، مع أن مثل هذه المراجعات وتأملها كان يمكن أن يحمي الثورة المصرية مما جرى بعد ذلك!

مراجعات الدائمي
شجاعة يفتقدها كثيرون، ويشعر بها الذين شاهدوا المآسي على مر التاريخ، مع الهروب من التقييم لها، فكان من الطبيعي أن تتكرر، مع أن مثل هذه المراجعات وتأملها كان يمكن أن يحمي الثورة المصرية مما جرى بعد ذلك!

عندما اشتد الوطيس في السنة الأولى للانقلاب في مصر، رأيت من المناسب الهروب قليلا من هذه الدوامة، ولأن الشيخ يوسف القرضاوي كان أهداني مؤلفاته عن سيرة حياته، فقد استبعدت الجزء الأول والثاني لوقت لاحق، وهو ما يتحدث فيهما عن طفولته وشبابه، فإذا بي أجد وكأنني هربت من الهم القائم إليه، فقد كان يعرض محنة 1965 بين الإخوان والحكم العسكري، فإذا بها -يا إلهي- حديثا عن الواقع الذي تكرر أمام ناظرينا مرة أخرى، وقد مر القوم بكل هذه التجربة الأليمة، فكيف بهم يثقون مرة أخرى في العسكر؛ هذه الثقة العمياء؟!

عماد الدائمي أهلٌ لهذه المراجعات، فقد شهدت حياته على المستوى الشخصي مثلها، فغادر حركة النهضة، وفكر الإسلام السياسي، وانتمى للفكر الديمقراطي، وإن لم يغير موقعه السياسي كمعارض. وجاءت الثورة التونسية على قدر، لتتصدر المشهد قوى سياسية كانت مطاردة، وجدت الطريق ممهدا إلى قصر قرطاج، لكن الأمور لم تكن بسيطة كما تصورها هؤلاء البسطاء، فأهدروا ببساطتهم السياسية التجربة، فلم يكن لديهم التصور الكامل للدولة وتعقيداتها، والتجارب لا تنتصر بحسن النية وسلامة الطوية.

لقد كانت مرحلة وصفها الدائمي بقوله: "الانتظارات الكبيرة والنتائج الهزيلة"، إذ انشغل السياسيون بما يخصهم، وتجاهلوا مشاكل الشعب وآماله، وربما تعالوا عليها. فـ"مع سقوط النظام عمت تونس موجة أمل جارفة، كما يحدث في كل ثورة تتطلع إلى العدالة والانعتاق".

ورصد صاحبنا آمال المواطنين: "كل مواطن يتخيل أن الثورة ستغير واقعه جذريا، فتحسن دخله، وتوفر عملا كريما، وتعيد إليه الشعور بالأمان والكرامة، ساد شعور بأن التهميش سينتهي، وأن الدولة الجديدة ستنحاز للفئات الضعيفة وتكافئ التضحيات"، بينما "انغمست النخب السياسية في ترتيب ملفات المرحلة الانتقالية، من كتابة الدستور إلى تنظيم الانتخابات إلى تنزيل العدالة الانتقالية، وهي قضايا تهم النخبة بالأساس، دون أن تنعكس بشكل مباشر على حياة المواطنين، في المقابل كان الناس في تونس كما في سائر المجتمعات، يبحثون عن شيئين اثنين لا غنى عنهما: رزق مضمون وأمن مستقر".

انقسام النخبة

ولعل المشكلة الأكبر التي عانت منها الثورة التونسية هي ما وصفها عماد الدائمي بانقسام النخب وعودة الاستقطاب: "فما إن بدأت المرحلة الانتقالية، حتى دخلت النخبة السياسية في حالة الاستقطاب الأيديولوجي الحاد، تغذيه الحسابات الحزبية الضيقة، وهوس التموضع داخل مشهد سياسي ناشئ دون أرضية مشتركة أو قواعد واضحة للعب الديمقراطي".

إنها ذاتها المشكلة التي عانينا منها في مصر وبمكر مبكر، فقد كان الثوار في ميدان التحرير أمة واحدة، فما أن أعلن مبارك التنحي حتى ترك الرماة مواقعهم، وظنوا أن الثورة انتصرت، وأنه جاء وقت جمع الغنائم. وكنا نعاني مراهقة سياسية، كتلك التي عانت منها الثورة التونسية، ورصدها عماد الدائمي في كتابه "تونس الممكنة"!

ولم يكن الوافدون على قصور الحكم يمتلكون أي خبرة تذكر في التعامل مع الموقف، وهي واحدة من مشكلات الربيع العربي؛ فوطأة الديكتاتوريات لم تترك لأحد حرية الخيال، الذي به يمكن للإنسان الطبيعي أن يفكر في سقوطها، ثم يدفع به خياله في تصور نفسه في التجربة الجديدة.

أمام إشكالية بين حديث الكاتب عن الدولة العميقة، والبراءة الثورية في رفض كل من كانت له صلة بالنظام السابق، فهل ينحاز لفكرة استمالتها، أم رفضها وتفكيكها؟

وقد أنتج الاستبداد على مدى التاريخ ثقافته الدينية الخاصة، والتواضع الصوري، الذي يندمج مع الحالة، مع تجاهل كامل لموقف سيدنا يوسف الذي قال: "اجعلني على خزائن الأرض"، مؤكدا امتلاكه لمقومات الوظيفة: "إني حفيظ عليم". فلما جاءت الفرصة، كان من اقتنصها من يفتقدون للخبرة في إدارة شؤون دولة معقدة بطبيعتها، مع افتقادهم للخيال كذلك، وسيطرة وهْم الانتصار الكامل عليهم، فاندفعوا في معارك جذرية مع الدولة السابقة، من خلال رفع شعارات مقاومة الفساد، واستئصال كل من ينتمي للدولة السابقة دون رحمة، ودون استمالة من لديهم استعداد لذلك، فابتعلتهم الدولة العميقة.

دولة تونس العميقة

ومع أن الدولة المصرية قديمة، إلا أنها ليست بتعقيدات الدولة التونسية كما وقفت عليها من كتاب عماد الدائمي، عندما تحدث عن الدولة العميقة في الخضراء؛ فما عندنا أكثر بساطة من الحالة التونسية.

ومع الشعارات البريئة عن ضرورة استئصال كل من يرتبط بالنظام السابق بصلة، حتى من أبدى مرونة مع الوضع الراهن، فقد كانت هناك اختراقات للمشهد الثوري بالرضا الكامل من أطرافه. فهناك تمويل من جانب رجال الأعمال لحملة حركة النهضة الانتخابية، وفي الوقت ذاته لحركات مناهضة لها، وهو أمر كاشف عن ذكاء خطير لهؤلاء الناس، ربما أنتجه الجبن، ورأس المال جبان بطبيعة الحال!

لقد وجدتني بعد قراءة كتاب "تونس الممكنة"، أمام إشكالية بين حديث الكاتب عن الدولة العميقة، والبراءة الثورية في رفض كل من كانت له صلة بالنظام السابق، فهل ينحاز لفكرة استمالتها، أم رفضها وتفكيكها؟

عموما، فرغم أنه كتاب أزمة، إلا أن الدائمي لا يفقد الأمل في أن الحاصل الآن -على بؤسه- مرحلة عارضة، وأن الكتاب قد يصلح مانيفستو لمرحلة ما بعد قيس سعيد، ولتدارك الأخطاء التي وقعت فيها النخبة التونسية بعد الثورة.

إنه كتاب يفسده التلخيص!

x.com/selimazouz1
التعليقات (0)