منذ أكثر من عقد، تعيش
سوريا تحت حصار
اقتصادي خانق، جرى تسويقه دوليًا باعتباره أداة أخلاقية للضغط على النظام، ودفعه
نحو التغيير. وفي المقابل، تعيش غزة تحت احتلال عسكري مباشر منذ عقود، تتعرض فيه
لحروب دورية مدمّرة، دون أن يقابل ذلك أي حصار حقيقي على الاحتلال الإسرائيلي، بل
على العكس، يُكافأ بعد كل حرب بحزم دعم سياسي وعسكري واقتصادي. هذه المفارقة
الصارخة لا يمكن فهمها إلا بوصفها تعبيرًا فجًّا عن ازدواجية المعايير في النظام
الدولي.
في الحالة السورية، فُرضت العقوبات تحت شعار
حماية المدنيين ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات. لكن النتيجة العملية كانت معاقبة
المجتمع بأكمله: انهيار العملة، تدهور مستوى المعيشة، تفكك البنية الصحية
والتعليمية، وتهجير إضافي بفعل الفقر لا بفعل السلاح. لقد تحوّل الحصار من وسيلة
ضغط سياسية إلى أداة إنهاك إنساني، دون أن ينجح في تحقيق هدفه المعلن. النظام بقي،
بينما تآكل المجتمع.
تاريخيًا، لم يُسجّل أن العقوبات الاقتصادية أسقطت أنظمة استبدادية بقدر ما أسقطت مجتمعات في الفقر واليأس. وفي المقابل، لم يُسجّل أن الإفلات من العقاب أنتج سلامًا أو استقرارًا. ما يجري مع غزة هو نموذج لإدارة العنف لا إنهائه: حرب تلو حرب، دمار يُرمّم، ثم دمار جديد، دون أي رادع حقيقي يفرض كلفة سياسية أو قانونية على الاحتلال.
أما في الحالة
الفلسطينية، وتحديدًا في غزة،
فنحن أمام احتلال عسكري واضح، موثّق، ومستمر منذ أكثر من خمسين عامًا. غزة تُقصف،
تُدمَّر، يُقتل أطفالها، وتُهدم بناها التحتية، ثم يُعاد إعمار ما دمّره الاحتلال،
ليس كتعويض عن جريمة، بل كجزء من إدارة الصراع. الأسوأ من ذلك أن الاحتلال لا
يواجه عقوبات، بل يُمنح غطاءً سياسيًا ودعمًا عسكريًا متواصلًا، وكأن تدمير المدن
وقتل المدنيين بات سلوكًا مشروعًا إذا كان الفاعل حليفًا استراتيجيًا للغرب.
إن المقارنة هنا ليست تبريرًا لانتهاكات أو
دفاعًا عن أنظمة، بل هي سؤال أخلاقي قبل أن يكون سياسيًا: لماذا يُنظر إلى
العقوبات على سوريا بوصفها "ضرورة أخلاقية"، بينما يُنظر إلى معاقبة
الاحتلال الإسرائيلي بوصفها "تهديدًا للاستقرار"؟ لماذا يصبح الحصار
أداة مشروعة حين يُمارَس على شعب عربي، وغير وارد حين يتعلق الأمر بقوة احتلال
تنتهك القانون الدولي علنًا؟
تاريخيًا، لم يُسجّل أن العقوبات الاقتصادية
أسقطت أنظمة استبدادية بقدر ما أسقطت مجتمعات في الفقر واليأس. وفي المقابل، لم
يُسجّل أن الإفلات من العقاب أنتج سلامًا أو استقرارًا. ما يجري مع غزة هو نموذج
لإدارة العنف لا إنهائه: حرب تلو حرب، دمار يُرمّم، ثم دمار جديد، دون أي رادع
حقيقي يفرض كلفة سياسية أو قانونية على الاحتلال.
استراتيجيًا، هذه الازدواجية لا تُضعف فقط
ثقة الشعوب العربية بالنظام الدولي، بل تُغذّي التطرف، وتُقوّض أي خطاب عن
"القيم العالمية" أو "النظام القائم على القواعد". كيف يمكن
إقناع شاب عربي بعدالة العالم، وهو يرى شعبًا يُحاصر لأنه "مشكلة
سياسية"، وشعبًا آخر يُقتل لأنه "تفصيل أمني"؟ وكيف يمكن الحديث عن
السلام، بينما يُكافأ العنف حين يصدر عن طرف محمي سياسيًا؟
إن معالجة الملف السوري اقتصاديًا اليوم،
بعد سنوات من الحصار، يجب ألا تُقرأ بوصفها صحوة إنسانية مفاجئة، بل باعتراف متأخر
بفشل سياسة العقاب الجماعي. لكن هذا الاعتراف يبقى منقوصًا، بل فاقدًا للمصداقية،
ما لم يُقابله تحول حقيقي في التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي، بوصفه أصلًا من أصول
عدم الاستقرار في المنطقة.
في النهاية، لا يمكن بناء نظام إقليمي أو
دولي مستقر على أساس معايير مزدوجة. العدالة ليست انتقائية، والإنسان لا تُقاس
قيمته بجنسيته أو موقعه الجغرافي. إما أن تكون حماية المدنيين مبدأً عامًا، أو
تتحول إلى شعار سياسي أجوف. والتاريخ، مرة أخرى، لن يحاكم الخطابات، بل سيحاكم هذا
الصمت الطويل أمام احتلال يُدمّر ويُكافَأ، وشعوب تُعاقَب باسم الأخلاق.
إذا كان العالم قد بدأ يراجع أدواته في سوريا، فإن المعيار الحقيقي لصدقية هذا التحول يكمن في قدرته على الانتقال من إدارة الصراعات إلى معالجتها، ومن الكيل بمكيالين إلى الاحتكام الصادق للقانون، حمايةً للإنسان، وصونًا للسلم، واحترامًا لكرامة الشعوب كافة.
ومع ذلك، ومن موقع المسؤولية السياسية والقانونية والإنسانية، لا بد من
القول بوضوح: إن الترحيب بإلغاء أو تخفيف الحصار الاقتصادي عن سوريا هو موقف مبدئي
قبل أن يكون سياسيًا. فرفع العقوبات التي ثبت عمليًا أنها ألحقت أذى بالغًا
بالمجتمع، ولم تُحقق عدالة ولا تغييرًا، يُعد خطوة في الطريق الصحيح، متى ما
اقترنت بمسار واضح يحمي المدنيين، ويُعيد الاعتبار للقانون الدولي الإنساني، ويمنع
توظيف الاقتصاد كأداة للعقاب الجماعي. إن كسر منطق الحصار، أيًّا كانت الملاحظات
عليه، يفتح نافذة أمل لشعب أنهكته الحرب والفقر، ويعيد التذكير بأن الإنسان يجب أن
يبقى غاية السياسات لا ضحيتها.
غير أن قيمة هذا القرار تظل ناقصة ما لم
يتحوّل إلى قاعدة عامة لا استثناء انتقائيا، وما لم يُستكمل بموقف دولي شجاع يضع
حدًا للإفلات من العقاب، وعلى رأسه الاحتلال الإسرائيلي وسياساته القائمة على
القوة المجردة. فالعدالة لا تتجزأ، والشرعية لا تُمنح لطرف وتُحجب عن آخر. وإذا
كان العالم قد بدأ يراجع أدواته في سوريا، فإن المعيار الحقيقي لصدقية هذا التحول
يكمن في قدرته على الانتقال من إدارة الصراعات إلى معالجتها، ومن الكيل بمكيالين
إلى الاحتكام الصادق للقانون، حمايةً للإنسان، وصونًا للسلم، واحترامًا لكرامة
الشعوب كافة.
ويتعزز هذا الخلل البنيوي في العدالة
الدولية عند النظر إلى مسار مجلس الأمن، حيث أُجهِضت مرارًا مشاريع قرارات تتعلق
بحماية المدنيين في غزة، أو بإنهاء الحصار والعمليات العسكرية، وكذلك مشاريع أخرى
تخصّ سوريا، عبر استخدام حق النقض (الفيتو)، بما حوّل المجلس من أداة لحفظ السلم
والأمن الدوليين إلى ساحة تعطيل سياسي انتقائي.
ولم يكن حال القضاء الدولي أفضل؛ إذ قوبلت
قرارات محكمة العدل الدولية المتعلقة بالالتزامات القانونية تجاه المدنيين في غزة،
كما قوبلت مساعي المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبة المسؤولين عن جرائم حرب، بحملات
تشكيك وضغوط سياسية وعداء صريح لفكرة المساءلة ذاتها. وهكذا، حين يطال القانون
طرفًا محميًا، يُجرَّد من فعاليته، وحين يطال طرفًا ضعيفًا، يُرفَع إلى مستوى
العقوبة القصوى، في تجسيد صارخ لازدواجية المعايير في النظام الدولي.