قضايا وآراء

قانون الهجرة البريطاني الجديد.. كيف سيعيد تشكيل سوق العمل والاقتصاد؟

سمير الخالدي
يمثل قانون الهجرة البريطاني الجديد لعام 2025 انتقالًا من نهج كمي يعتمد على استقدام أعداد كبيرة من العمالة إلى نهج انتقائي يركز على المهارات العالية..
يمثل قانون الهجرة البريطاني الجديد لعام 2025 انتقالًا من نهج كمي يعتمد على استقدام أعداد كبيرة من العمالة إلى نهج انتقائي يركز على المهارات العالية..
دخل قانون الهجرة البريطاني الجديد حيز التنفيذ في يوليو 2025، ليعيد رسم ملامح سياسة الهجرة في المملكة المتحدة في ظل نقص العمالة في قطاعات حيوية، وضغوط متزايدة على الخدمات العامة، وتحديات اقتصادية بعد البريكست وجائحة كورونا وارتفاع تكاليف المعيشة. يهدف القانون إلى توجيه الهجرة نحو العمالة عالية المهارة القادرة على تحقيق قيمة مضافة، مع ربط الاستقرار طويل الأمد بالمساهمة الاقتصادية والاندماج الفعلي في المجتمع. ويرتكز على ثلاثة محاور رئيسية: رفع مستوى المهارة والحد الأدنى للرواتب، إنشاء قائمة النقص المؤقت للوظائف الحيوية، وإعادة تنظيم مسار الإقامة الدائمة والهوية الرقمية، إلى جانب مناخ أكثر تشددًا في ما يخص اللجوء.

تسعى الحكومة من خلال هذه التغييرات إلى تقليل الاعتماد على العمالة الأجنبية منخفضة المهارة، وتشجيع الشركات على الاستثمار في العمالة المحلية والتقنيات الحديثة. وفي الوقت نفسه، تحاول الاستجابة لقلق جزء من الرأي العام الذي يرى أن ارتفاع أعداد المهاجرين واللاجئين يزيد الضغط على السكن والخدمات الصحية والتعليمية. لكنّ هذه السياسات تثير نقاشًا واسعًا حول تأثيرها الفعلي على القطاعات التي تعتمد تقليديًا على المهاجرين، مثل الرعاية الاجتماعية والمطاعم والنقل.

1 ـ رفع مستوى المهارة والحد الأدنى للرواتب

رفع القانون مستوى المهارة المطلوب لتأشيرة العامل الماهر (Skilled Worker) من RQF 3 (مهن متوسطة المهارة) إلى RQF 6، أي مستوى يعادل الدرجة الجامعية أو خبرة متقدمة. نتيجة ذلك خرجت عشرات المهن المتوسطة من دائرة التأهيل للتأشيرة، ما لم تُدرج لاحقًا ضمن قائمة النقص المؤقت.

يمثل قانون الهجرة البريطاني الجديد لعام 2025 انتقالًا من نهج كمي يعتمد على استقدام أعداد كبيرة من العمالة إلى نهج انتقائي يركز على المهارات العالية والاستقرار المشروط بالمساهمة الاقتصادية والاندماج.
كما رُفع الحد الأدنى للرواتب إلى 41,700 جنيه سنويًا بدلًا من حوالي 38,700 جنيه، مع فروق حسب القطاع والمنطقة. وترى الحكومة أن هذا الرفع يقلل استقدام عمالة بأجور منخفضة، ويدفع أصحاب الأعمال لتحسين الأجور وتدريب العمالة المحلية.

اقتصاديًا، يُتوقع أن يسهم هذا التوجه في تحسين متوسط المهارات وزيادة الإنتاجية في القطاعات التقنية والخدمية المتقدمة، مثل التكنولوجيا والقطاع المالي والهندسة. لكنه يزيد في المقابل الضغوط على الشركات الصغيرة والمتوسطة، خصوصًا في الرعاية والبناء والخدمات اللوجستية، التي تعتمد على عمالة أجنبية متوسطة المهارة وتواجه هامش ربح محدودًا، ما قد يدفعها إلى رفع الأسعار أو تقليص نشاطها.

2 ـ قائمة النقص المؤقت ومسارات الرعاية

لتفادي اختناقات حادة في سوق العمل، استحدثت الحكومة "قائمة النقص المؤقت" للوظائف الحيوية التي تحتاج إلى استقدام عاجل من الخارج، خصوصًا في الرعاية الاجتماعية وبعض التخصصات التقنية. تتيح هذه القائمة استقدام عمالة بشروط أقل تشددًا حتى نهاية 2026، مع تمديد خاص لبعض وظائف الرعاية حتى 2028، حتى لا تُترك دور الرعاية والمستشفيات ومراكز الخدمات الاجتماعية دون عدد كافٍ من الموظفين.

لكن هذه المسارات المؤقتة تأتي بقيود، أبرزها منع جلب أفراد الأسرة لمعظم العاملين في هذه الفئات، وتقليص بعض التسهيلات المالية والإجرائية. وهذا يقلل جاذبية بريطانيا لدى كثير من العاملين الذين يرغبون في الانتقال مع عائلاتهم. كما أن طبيعة العمل الشاقة والأجور المتوسطة مقارنة بتكاليف المعيشة تجعل إقناع العمال المحليين أو الأجانب بهذه الوظائف أمرًا صعبًا.

في المقابل، يمكن أن تدفع هذه السياسة الشركات إلى تحسين الأجور وشروط العمل لجذب مزيد من العمالة المحلية، والاستثمار أكثر في التدريب والتأهيل المهني، وربما التوجه نحو الأتمتة والرقمنة لتقليل الاعتماد على العمالة في بعض المهام.

 3 ـ الإقامة الدائمة والهوية الرقمية.. ربط الاستقرار بالمساهمة الاقتصادية

على مستوى الاستقرار القانوني، عدّل القانون مسار الإقامة الدائمة (ILR) برفع مدة الإقامة المطلوبة لمعظم العمال المهاجرين من 5 إلى 10 سنوات، مع اشتراط سجل مستمر من العمل النظامي ودفع الضرائب والالتزام بالقوانين. بهذا يصبح الاستقرار طويل الأمد مرتبطًا بمسار زمني أطول ومعايير أكثر انتقائية، ما قد يثني جزءًا من العمال عن اختيار المملكة المتحدة كوجهة دائمة، ويدفعهم إلى دول تمنح مسارًا أسرع للإقامة الدائمة.

في الوقت نفسه، يعتمد القانون نظام الهوية الرقمية لربط التأشيرات بهوية إلكترونية موحدة تُستخدم للتحقق من حق العمل والولوج إلى الخدمات وتتبع حالة المقيم. يوفر هذا النظام بيانات أدق لتخطيط سياسات العمل والإسكان والتعليم والصحة، ويسمح برقابة أكبر على بقاء الأشخاص بعد انتهاء تأشيرتهم. لكنه يثير أيضًا تساؤلات جادة حول حماية الخصوصية وأمن البيانات وإمكانية إساءة استخدامها.

رغم أن نظام اللجوء يخضع لاتفاقيات دولية، فإن البيئة التشريعية التي رافقت القانون الجديد تعكس توجهًا أوضح نحو تشديد الرقابة وربط الإقامة طويلة الأمد بالاندماج والمساهمة. تعمل الحكومة على تسريع البت في طلبات اللجوء المتراكمة، مع ترتيب الأولويات حسب الدول والمناطق الأكثر خطورة إنسانيًا وأمنيًا، وربط بعض المزايا بمتطلبات مثل تعلم اللغة والمشاركة في برامج التدريب أو التعليم.
اقتصاديًا، قد يساعد وضوح القواعد وطول المسار على تشجيع بعض العمالة الماهرة على بناء خطط طويلة الأمد في بريطانيا، مثل شراء المنازل أو تأسيس أعمال صغيرة، لكنه قد يدفع كفاءات أخرى إلى تفضيل دول مثل كندا أو أستراليا حيث شروط الاستقرار أوضح وأسرع.

4 ـ  تغييرات قوانين اللجوء.. من الحماية الإنسانية إلى الضبط والانتقائية

رغم أن نظام اللجوء يخضع لاتفاقيات دولية، فإن البيئة التشريعية التي رافقت القانون الجديد تعكس توجهًا أوضح نحو تشديد الرقابة وربط الإقامة طويلة الأمد بالاندماج والمساهمة. تعمل الحكومة على تسريع البت في طلبات اللجوء المتراكمة، مع ترتيب الأولويات حسب الدول والمناطق الأكثر خطورة إنسانيًا وأمنيًا، وربط بعض المزايا بمتطلبات مثل تعلم اللغة والمشاركة في برامج التدريب أو التعليم.

من جهة أخرى، يؤدي تشديد شروط الإقامة الدائمة للعمال المهاجرين إلى أثر مشابه على اللاجئين، إذ تصبح مسارات الانتقال من الحماية المؤقتة إلى الاستقرار الدائم أكثر ارتباطًا بعوامل اقتصادية وسلوكية. وتعبّر منظمات حقوقية عن قلقها من أن هذا التوجه قد يهمش الفئات الأضعف التي يصعب عليها الاندماج السريع، مثل كبار السن وذوي الإعاقة والأسر التي تعيلها امرأة بمفردها. في المقابل، يرى مؤيدو هذه السياسات أن ربط اللجوء بالاندماج والعمل قد يحسن قبول المجتمع للاجئين، عندما تُبرز مساهماتهم بدل تصويرهم كعبء دائم.

يمثل قانون الهجرة البريطاني الجديد لعام 2025 انتقالًا من نهج كمي يعتمد على استقدام أعداد كبيرة من العمالة إلى نهج انتقائي يركز على المهارات العالية والاستقرار المشروط بالمساهمة الاقتصادية والاندماج. ورغم ما يحمله من وعود برفع الإنتاجية وتحسين جودة العمالة المهاجرة وتوفير بيانات أدق لتخطيط سوق العمل، فإنه يطرح تحديات جدية تتعلق بسد النقص في الوظائف متوسطة المهارة، وحماية الفئات الهشة من المهاجرين واللاجئين، والحفاظ على التوازن بين منطق المصلحة الاقتصادية والالتزامات الإنسانية والقانونية للمملكة المتحدة. نجاح هذه السياسات سيتوقف على قدرة الحكومة على تحقيق هذا التوازن دون الإضرار بالنسيج الاجتماعي وقيم العدالة والإنصاف.
التعليقات (0)