قضايا وآراء

مكاسب اللاهثين للركوع لإسرائيل!

نزار السهلي
"التوغل الإسرائيلي المتواصل في الجنوب السوري لم تردعه رسائل وتطمينات، يتحدث عنها من يرعى سياسات إسرائيل في المنطقة"- إكس
"التوغل الإسرائيلي المتواصل في الجنوب السوري لم تردعه رسائل وتطمينات، يتحدث عنها من يرعى سياسات إسرائيل في المنطقة"- إكس
شارك الخبر
التمدد المتدرج في العدوان الإسرائيلي على سوريا، بأسلوب ونهج وتكتيك يعتمد على إرهاب القوة في المنطقة، يمثل فرصة لإحياء أطماع إسرائيل في الجنوب السوري الممتد من هضبة الجولان إلى سهل حوران، حيث جندت المؤسسة الصهيونية بعد سقوط الأسد الأكاذيب والتبريرات لوقف العمل باتفاق فض الاشتباك لعام 1974، رغم الرسائل التي وجهتها السلطة الجديدة في دمشق، بأن سوريا لن تكون منطلقا لأي اعتداء على بلدان الجوار، بما فيها إسرائيل، التي تعتبر مجالها الحيوي والأمني يشمل عموم المنطقة العربية.

فالتوغل الإسرائيلي المتواصل في الجنوب السوري لم تردعه رسائل وتطمينات، يتحدث عنها من يرعى سياسات إسرائيل في المنطقة، والتي تفند كل رسائل الحديث عن سلام ومفاوضات وتطبيع مع إسرائيل. فاحتلال أراضٍ جديدة في سوريا وتهجير سكانها بعد ارتكاب مجازر بحقهم، يروي الولادة العسيرة لسوريا المستقبل التي هز أبناؤها المنطقة، بخلاصهم من الطاغية. والأغبياء وحدهم الذين فوجئوا بالتدخل الإسرائيلي المباشر في ملفات الداخل السوري، والأكثر غباء من يتوهم بأن العدوان الإسرائيلي على سوريا مرتبط بالذرائع والتبريرات التي تسوقها تل أبيب، متناسيا الأطماع في الصهيونية في سهل حوران، "باعتباره أجود حقول الاستيطان إذا اتصل مع منحدرات هضبة الجولان ومع الجليل الأعلى" بحسب رسائل حاييم وايزمان ومذكرات بن غوريون؛ التي تقول إن سهل حوران جزء من البلاد ويجب أن لا تسلخ عنها لأهمية المياه في تلك المنطقة لأرض إسرائيل.

خيارات السلطة الجديدة في سوريا، لمواجهة العدوان الإسرائيلي على السيادة السورية، هي من خيارات بقية النظام العربي بالتعامل مع تحديات العدوان الإسرائيلي المتسع، ليس في غزة والضفة والقدس، بل ما تواجهه سوريا من عدوان مباشر، وتدمير لمقدراتها العسكرية بعد سقوط نظام الأسد واحتلال أراض جديدة في الجنوب السوري

بكل الأحوال، أدبيات الأطماع الصهيونية بالأرض العربية طافحة، والحديث الصهيوني عن إسرائيل الكبرى لم يكن زلة لسان، وتصريحات وزير حرب الاحتلال يسرائيل كاتس، بعدم نية إسرائيل الانسحاب من سوريا، تصب بنفس الهدف الذي عبر عنه قادة الاستيطان في إسرائيل للمسارعة بإقامة بؤر استيطانية في الجنوب السوري.

خيارات السلطة الجديدة في سوريا، لمواجهة العدوان الإسرائيلي على السيادة السورية، هي من خيارات بقية النظام العربي بالتعامل مع تحديات العدوان الإسرائيلي المتسع، ليس في غزة والضفة والقدس، بل ما تواجهه سوريا من عدوان مباشر، وتدمير لمقدراتها العسكرية بعد سقوط نظام الأسد واحتلال أراض جديدة في الجنوب السوري.

وما يتعرض له لبنان بشكل يومي، وما تتعرض له غزة ومدن الضفة الفلسطينية المحتلة رغم الاحتفاء باتفاق وقف الطلاق النار في غزة برعاية أمريكية؛ يوضح المسارات والفواصل والحدود والتخوم، حتى باتت استراتيجية الطرف المعادي مقروءة لأبعد الحدود. فلم تتردد إسرائيل في التحرك والضغط والحشد، لاستثمار مكامن القوة والغطرسة لديها، والاستفادة من تشرذم الجبهة المعادية لها، ومن نقاط ضعف عربية، لفرض استراتيجية سلام القوة والهيمنة، بضغط ودعم أمريكي مباشر لهذه الاستراتيجية.

فكيف يُفهم الموقف الأمريكي "الداعم" للسلطة الجديدة في دمشق، برفع الحصار عن سوريا ودعم علاقاتها العربية، وفي نفس الوقت يصمت على عدوان إسرائيلي يهدف إلى هدم كل التطمينات للسوريين عن المستقبل وازدهاره، وهدم للمكاسب التي غنمها السوريون من الخلاص من الطاغية؟ بظننا أن الإجابة يعرفها السوريون والفلسطينيون والعرب عموما، إذا أحسنوا قراءة الواقع المأساوي والكارثي للموقف الأمريكي من الإرهاب الإسرائيلي المستمر، ومن جرائم الإبادة الجماعية في غزة وكل فلسطين، ففيهما يتلخص ويُكشف للمرة الألف عن وجه أمريكا القبيح، المعادي للعرب والمسلمين وتطلعاتهم العادلة. فتزايد الحديث عن إمكانية توقيع اتفاق أمنى بين سوريا وإسرائيل خلال الأشهر الماضية، وبرعاية أمريكية، وصولا لانخراط سوريا في اتفاقات سلام وتطبيع مع إسرائيل، اصطدم منذ البداية بالعقبة الإسرائيلية بعدم الانسحاب من الأراضي التي احتلتها بعد سقوط النظام، وبعدم الاعتراف بسورية الجولان المحتل التي اعترف ترامب بحق إسرائيل في السيادة عليها، وهذا ينسجم مع العناصر الإسرائيلية لمفهوم "السلام" المتبع مع الحقوق الفلسطينية والعربية بإخضاع الآخر بالقوة.

كل ذلك يوضح مدى القياسات المتناقضة التي تقيس سياسات عربية وعلاقتها بالاحتلال وبالإدارة الأمريكية، والتي توفر كل الأسباب لطرد الأوهام المعشعشة في رؤوس اللاهثين خلف الركوع لإسرائيل، فكل جرائمها فشلت في تقريب العرب من بعضهم، وتفشل في تقريب الفلسطينيين من أنفسهم واستخلاص الدروس والعبر

وما لم يرصّ السوريون صفوفهم، وما لم يتم استنهاض حالة شعبية وسياسية، فإن سياسة الاستهتار والإذلال ستستمر وتتواصل، فهل يستطيع السوريون وضع حد لهذه السياسة ولجم التوغل والعدوان؟ ربما يبدو الواقع كارثيا للبعض وقاسيا للكثيرين، لكنه وبالتدقيق الموضوعي، يفتح أمامهم العديد من الآفاق والفرص، واستثمارها يستدعي أولا وقبل كل شيء الإسراع في إعادة بناء العامل الذاتي بطريقة جديدة ومختلفة عما عهدناه، لا الاستغراق في التحسر على عوامل موضوعية مفقودة، والاسترسال في البكاء على أطلال مقولة نحن "دولة ضعيفة"، ففيها اجترار لشعار "التوازن الاستراتيجي" الذي استُخدم لعقود طويلة من نظام الأسد الساقط.

يمكن القول أخيرا، إنه من ثمار الصمت العربي المؤلم عن جرائم وإرهاب المؤسسة الصهيونية في فلسطين، وغياب الفعل المواجه له، وافتضاح العجز العربي منه، أن أصبح إرهاب الدولة متسيدا على المنطقة ودولها وشعوبها، وبذرائع يعتقد "الناجون" منها أنهم بعيدون عن الرضوخ لمفهوم الغطرسة الصهيونية، ولكن يبقى السؤال الذي يلح الآن: ما هي مكاسب المطبعين مع إسرائيل ومكاسب علاقتهم بأمريكا بالنسبة للأمن الوطني والقومي، التي ترتكب تحته جرائم إبادة وتطهير عرقي بحق الشعب الفلسطيني وشعوب عربية في فلسطين ولبنان وسوريا؟

هي مكاسب جزئية صغيرة، وهامشية، ولا تتعدى الاحتفاء بالصورة الملتقطة، من كامب ديفيد إلى أوسلو ووادي عربة، مرورا بالاتفاقات "الإبراهيمية" ومؤتمرات شرم الشيخ وغيرها. فالمسافة التي قطعها بعض العرب والفلسطينيين، في مسار التطبيع مع إسرائيل، ليست مسافة حقيقية فقط، بل نفسية أيضا؛ تنقلهم من استعداد إلى آخر، للتعاطي مع الأصل العدواني للطبيعة الصهيونية القائمة على المذابح، من بيت حانون الفلسطينية إلى بيت جن السورية مرورا بمدن وقرى عربية. فمن كان متفرجا على جرائم الإبادة في غزة، لن تستفزه مذبحة بيت جن السورية، ولن تستدعي عقابا عربيا رادعا لها، ولنفس الأسباب والذرائع ستستمر الجرائم ويتوسع الإرهاب الصهيوني الذي ينقلنا من مذبحة إلى أخرى.

ولعل كل ذلك يوضح مدى القياسات المتناقضة التي تقيس سياسات عربية وعلاقتها بالاحتلال وبالإدارة الأمريكية، والتي توفر كل الأسباب لطرد الأوهام المعشعشة في رؤوس اللاهثين خلف الركوع لإسرائيل، فكل جرائمها فشلت في تقريب العرب من بعضهم، وتفشل في تقريب الفلسطينيين من أنفسهم واستخلاص الدروس والعبر، لكنها نجحت في أمر ثابت لا يتزحزح، أن هذه الفاشية لا يمكن التعايش معها، ومقاومتها فطرية وأخلاقية وإنسانية ووطنية، لا تبدلها الظروف والمحن.

x.com/nizar_sahli
التعليقات (0)