قضايا وآراء

الفلسطينيون السوريون.. ذاكرة النزوح ومأساة الإخفاء القسري

ظاهر صالح
"ذاقوا مرارة النزوح واللجوء مرتين"- جيتي
"ذاقوا مرارة النزوح واللجوء مرتين"- جيتي
بعد سقوط النظام السابق في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، واجهت سوريا الجديدة مشهدا معقدا تتشابك فيه الأزمات، وتبرز من بين هذه الأزمات مأساة مضاعفة تلاحق الفلسطينيين السوريين، الذين حوّلهم القتل والإخفاء القسري إلى جزء أصيل ومؤلم من الذاكرة السورية المعاصرة، هؤلاء الضحايا، الذين ذاقوا مرارة النزوح واللجوء مرتين؛ مرة من فلسطين، ومرة أخرى داخل سوريا أو في المنافي، أصبحوا اليوم ضحايا لجريمة كبرى متمثلة في الإخفاء القسري والدفن في أماكن مجهولة.

ذاكرة مثقلة بالفقد المشترك والمضاعف

خلف الفقد المشترك والمضاعف مئات الآلاف من الضحايا وعشرات الآلاف من المفقودين، تاركا وراءه ذاكرة مثقلة، وأجيالا لا تزال تبحث عن العدالة ومصير أحبائها المجهول. وبالنسبة للفلسطينيين السوريين، تحمل هذه الذاكرة وزنا إضافيا، فهم ذاقوا مرارة النزوح واللجوء مرتين، ليصبحوا ضحايا لصراع هو في جوهره صراع "الدولة المضيفة". وعلى الرغم من أنهم يمثلون شريحة فرعية من ضحايا الحرب، فإن إخفاءهم القسري في مقابر مجهولة يمثل استمرارا لحالة التهميش التاريخي التي طالت مأساتهم الممتدة.

جثثٌ بلا هوية.. والفلسطينيون أيضا
على الرغم من أنهم يمثلون شريحة فرعية من ضحايا الحرب، فإن إخفاءهم القسري في مقابر مجهولة يمثل استمرارا لحالة التهميش التاريخي التي طالت مأساتهم الممتدة

منذ سقوط النظام السابق، بدأت عمليات البحث والكشف عن مصير عشرات آلاف المدنيين المفقودين، وقد شكّلت الحكومة الحالية لجنة مختصة لمتابعة هذا الملف المأساوي تحت اسم "الهيئة الوطنية للمفقودين"، ولا يكاد يمر يوم أو شهرٌ إلاّ ونسمع فيه خبرا عن العثور على مقبرة جماعية جديدة، أو رفات جثث تعود لمدنيين في أحد المنازل أو في الأراضي الزراعية. وتكمن المأساة في أن هؤلاء المجهولين قد يكون من بينهم المئات من الفلسطينيين الذين اعتُقلوا وأُخفوا قسرا من المخيمات والتجمعات الفلسطينية في سوريا، مثل مخيمي اليرموك والسبينة، ومناطق السيدة زينب ومفرق حجيرة وخان الشيح وغيرها، ليتم إعدامهم ودفنهم ضمن سياسة طمس الأدلة.

- آخر الكشوفات في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر: أعلنت الفرق المختصة عن العثور على رفاة بشرية تعود لأربعة أشخاص مجهولي الهوية في قرية أثرية بريف حماة الشرقي.

- كشوفات أخرى 26 تشرين الأول/ أكتوبر: وُجدت في قرية آبل بريف حمص الجنوبي رفاة عظمية تعود إلى 5 جثث مدنيين مجهولين "طفل، وامرأة وثلاثة رجال".

- كشوفات سابقة: أعلنت فرق الهيئة الوطنية للمفقودين العثور على مقبرة جماعية، تضم رفاة نحو 20 شخصا مجهولي الهوية، معظمهم من الأطفال والنساء، في أرضٍ زراعية قرب مدينة دوما بريف دمشق، وهي منطقة شهدت تهجيرا واختفاءات قسرية واسعة طالت أيضا اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات المجاورة.

مقابر جماعية لإدارة الجرائم المرتكبة

اتبع النظام البائد سياسة المقابر الجماعية المختلطة في محاولة منه لطمس جرائمه الدموية وإخفاء الأدلة، ولإدارة الأعداد الكبيرة للضحايا منذ بداية الثورة، وكما طالت هذه الجرائم غيرهم من السوريين، فإنها طالت الفلسطينيين السوريين بشكل ممنهج، سواء عبر القتل تحت التعذيب في المعتقلات أو الإعدامات الميدانية.

- عملية "نقل الأتربة": أجرى النظام البائد بين عامي 2019 و2021 عملية سرية أطلق عليها اسم نقل الأتربة، نُقل خلالها آلاف الجثث من مقبرة جماعية في القطيفة إلى موقع سري في صحراء الضمير شرقي دمشق، في محاولة لإخفاء جرائم التعذيب والإعدامات، ومن المرجح بشدة أن تضم هذه المقبرة السرية رفات عدد كبير من الفلسطينيين السوريين المعتقلين والمفقودين.

أساليب قتل وحشية وعائلات فلسطينية تنتظر..

كشفت تقارير طبية وقضائية حديثة عن تفاصيل مروعة لعمليات قتل جماعي، أظهرت نتائج فحوصاتها أن بعض الجثث تعرضت لإطلاق نار مباشر، انفجارات، حرق، وتعذيب، أو دفنت وأيادي أصحابها مكبّلة، وتشير هذه النتائج إلى أنّ الجناة استخدموا أساليب قتل متعددة ومنظمة، ما يعكس حجم الانتهاكات المرتكبة ضد الشعب الفلسطيني في سوريا.

رغم تشكيل الهيئة الوطنية للمفقودين وبدء عمليات الكشف، ما تزال عائلات المفقودين الفلسطينيين تطالب بخطوات أكثر جدية لضمان عدم ضياع مصير أبنائهم مرة أخرى، إذ تدعو الجمعيات والمنظمات الحقوقية إلى:
تحقيق العدالة لذوي الضحايا الفلسطينيين السوريين المدفونين في المقابر الجماعية ليست مجرد مسألة قانونية، بل هي جزء لا يتجزأ من إعادة بناء ذاكرتهم الوطنية والإنسانية التي تضررت مرتين

- إنشاء بنك وطني للحمض النووي (DNA): يتيح مطابقة العينات بين ذوي الضحايا والجثث المجهولة، مع إيلاء اهتمام خاص لملف المفقودين الفلسطينيين.

- العدالة والمحاسبة: مطالب بضرورة محاسبة المسؤولين عن جرائم الإخفاء القسري والقتل الجماعي، وفتح الأرشيفات الأمنية السابقة للكشف عن مصير أبنائهم المفقودين.

وتقدّر الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن آلاف الفلسطينيين ما زالوا مفقودين أو معتقلين قسريا في سجون النظام السوري السابق، والكثير منهم يُرجح أنهم قضوا تحت التعذيب ودفنوا في هذه المقابر الجماعية.

هل ينال ذوو الضحايا الفلسطينيون السوريون حقهم في العدالة؟

لا تتوقف مأساة المقابر الجماعية عند فقدان الحياة فحسب، بل تمتد لتترك أثرا نفسيا واجتماعيا عميقا على ذوي الضحايا الفلسطينيين السوريين والمجتمع بأسره، عشرات آلاف العائلات تعيش اليوم في حالة انتظار دائم لمعرفة مصير أبنائهم.

اكتشاف مقابر جديدة بين الحين والآخر يذكر الفلسطينيين والسوريين يوميا بعنف النظام السابق، وهذا يفرض تحديات ضخمة أمام إعادة بناء نسيج المجتمع، وهنا يبرز السؤال الذي يؤرق ذوي الضحايا: هل ستُكشف الحقيقة عن أبنائهم المفقودين، أم أنهم سيظلون ضحايا لـ"سوريا المفتوحة" التي ابتلعت أجيالا من لجوئهم؟

ختاما.. إن تحقيق العدالة لذوي الضحايا الفلسطينيين السوريين المدفونين في المقابر الجماعية ليست مجرد مسألة قانونية، بل هي جزء لا يتجزأ من إعادة بناء ذاكرتهم الوطنية والإنسانية التي تضررت مرتين. إن كشف مصير المفقودين والتعرف على رفاتهم عبر فحص الحمض النووي (DNA) ومحاسبة الجناة؛ يمثل الخطوة الأولى والأساسية نحو إغلاق هذا الفصل المأساوي وتأكيد حقهم في الكرامة والعدالة، إنهم يستحقون معرفة الحقيقة، وذاكرتهم يجب أن تُحفظ بإنصاف يليق بحجم تضحياتهم.
التعليقات (0)

خبر عاجل