كتاب عربي 21

غزة: الحكاية الأصل أو أصل الحكاية

أحمد عمر
"أبطلت غزة كيد الساحر، وأنصارها يتكاثرون"- جيتي
"أبطلت غزة كيد الساحر، وأنصارها يتكاثرون"- جيتي
القصة هي الركن الأول في أي دعوة دينية أو سياسية، الركنان الآخران هما: الأخلاق والعقيدة. لا بد من قصة أو رواية أو سردية؛ لا يقدم الإلحاد قصة، ويزعم أن قصة الحياة بدأت ببروتين هبط من كوكب بعيد، ثم انقسم إلى ذكر وأنثى، ثم تفرعت عنه الكائنات من الذبابة إلى الأخطبوط! القصة غير منطقية وخالية من الحبكة.

يقول فيلم "Silence" لمارتن سكورسيزي؛ إن سبب دخول المسيحية إلى اليابان هي قصة المسيح الجميلة بما فيها من فداء وتضحية وآلام، فقد خلت ديانة الشنتو من قصة. القصة هي جائزة الخروج من الجنة، هي مِنحتها ومحنتها.

قد نسمع قصيدة جميلة، لكن لن تكون بجمال قصيدة امرئ القيس، فسوى الريادة والقدم، كان قائلها ولي عهد، فقدَ مُلكه. ولن نسمع قصيدة مثل قصيدة "بانت سعاد"، فقد كان قائلها شاعرا من عائلة كلهم شعراء، وهجا النبيَّ عليه الصلاة والسلام، أو أوهم بذلك، فأهدر النبي دمه، ثم تاب وثاب، وقال تلك القصيدة التي نجا بها من الموت، وكسب أغلى كسوة في الأرض، وهي البردة النبوية التي ما زالت تهدى على المنابر إلى يومنا هذا، وسميت بها أشهر مجلة أزياء في العالم هي برادا (ثمة فيلم من جزأين باسم برادا).

واشتهر شاعر سوري شاب مات باكرا، كان يكتب ما يشبه المنشورات الفيسبوكية المبكرة والشذرات، اسمه رياض الصالح الحسين، ولم يكن ليشتهر لولا قصته، فهي قصة من قصص مصارع العشاق. وكذلك محمد الماغوط، لم يكن يكتب سوى مفارقات لفظية، لولا قصة الصوبيا، وهي قصة الصوبيا في الشتاء (اكتشاف النار)، وهي قصة انتهازية، وقصة حاجة، لكنهم رأوها لطيفة وأشهرته.

وقد ذكّرت غزة بـ"القصة الأولى"، بأشهر قصة منذ الحرب العالمية الثانية، قصة الهولوكوست التي حُصنت بقانون معاداة السامية، أمست النازية بعدها شرير الوجود والتكوين، وحائط المبكى هو حائط التوبة والغفران. لقد نُسجت عنها مئات الروايات والقصص، وحيكت عنها مئات الأفلام، كأنها قصة الخلق الثانية، حلَّ فيها ضحاياها محل المسيح المصلوب، واعتبر التشكيك بالقصة ردة دينية وحضارية تستوجب القصاص.

أمس شاهدت فيلما من أفلام التشويق اسمه "رجل الحقيبة"، تقول فيه المرأة التي زرعت لتضليل البطل عن غاياته، من غير مناسبة: أنا أحبُّ إسرائيل، (عكس ما أنشده شعبان عبد الرحيم في أغنيته الشهيرة)، فيقول البطل إنه أيضا يحبُ إسرائيل! في فيلم الويسترن "مليون طريقة للقتل" المثير، تقول بطلته الحسناء (تشارلز تيرون) من غير مناسبة إنها نصف يهودية!

خمس وسبعون سنة، والأفلام والقصص والروايات وفنون التشكيل وقصص الصحافة والجوائز تدور حول قصة الهولوكوست، أو اليهودي العظيم، الخارق، قصة أسست دولة لليهود، نذكر مثلا: "يوميات آنا فرانك"، "اختيار صوفيا"، ليلة"، "رجل يبحث عن معنى"، "قائمة شندلر"، "الحياة جميلة"، "البيانو"، "الطفل ذو البيجاما المخططة"، "الفتاة ذات المعطف الأزرق". وقد شاعت مداجاة اليهودي في عدد غير قليل من الروايات العربية مؤخرا سعيا وراء الجوائز.

ويمكن تذكر مصائر روجيه غارودي وغيره ممن ارتد وألحد في المسألة، فانظروا كيف كان عقاب، وسنّت قوانين تحرم التفكير بحقيقة الهولوكوست، واعتباره جريمة ضد الإنسانية بقانون غيسو فابيو الفرنسي، 1990. أمر أبعد من حد الردة في الإسلام، فالمرتد يمهل ويحاكم مددا قد تطول.

وقد استطاع كيان صغير، أصغر كيان سياسي معزول ومحاصر في كوكب الأرض؛ الثورة على القصة، التذكير بالقصة الحقيقية، وما استطاعوا إليه نقبا إلا بعد تضحيات جسام، 100 ألف شهيد، فصورة غزة ممنوعة في قصص الأخبار الرسمية الغربية، وإن ذُكرت تُقتطع الصور، أو تُدمر بتعليق مخالف من مذيع النشرة، فهي قصة ممنوعة، أو منقوصة، أو مشوهة، لكن وسائل التواصل، وهي مملوكة لأولياء إسرائيل؛ نشرت القصة. فلا بد للقصة أن تصل، لا بد من راوٍ يروي الحكاية. أمس سمعت باسم يوسف يذكر أمرا أمام المذيع البريطاني بيرس مورغان، وهي أن المسألة اليهودية مسألة غربية صدّرت إلينا. وهذه معجزة ما كان لها أن تقع لولا تضحيات غزة.

القصة مهمة، بل إن الأخبار أمست تروي أخبارها بلفظ القصص، وتقول في أول نشرتها: "توب ستوري"، الستوري أصلها عربي من السطر. فرضت إسرائيل أسطورتها على الإعلام، فأسطورتها هي ثمرة الحرب العالمية الثانية، وهي أن ستة ملايين يهودي أُحرقوا بالغاز، وأن التشكيك بالعدد كفر وتهمة محاسب عليها، وعقوبتها السجن والنبذ، وقد يعجز المتابع عن حصر الأفلام التي روت تضحيات اليهود وبطولاتهم ومحنتهم، فهي بالمئات. وقد أحيوا قصة عمرها ثلاثة آلاف سنة، وبرواية دينية، وينكرون رواية حديثة مضى عليها خمس وسبعون سنة، أو يرون قصة فلسطين مقلوبة، فهي تصفّر العداد من جهة، وتمد يدها إلى أعماق التاريخ من جهة أخرى، بل إن رئيس وزرائها بالأمس القريب نقض قصة ثلاثة مجوعين من غزة من أصل مئات الضحايا، فذكر أنهم كانوا مرضى، ولا تجويع، لكن لم يصدقه حتى أتباعه. الرجل يخسر القصة، أول الهزيمة هي خسارة القصة.

تقول إحصاءات حديثة إن إسرائيل تخسر عطف الناس، وقد اعترف ترامب بذلك مؤخرا! أجرت الإيكونوميست، بالتعاون مع مركز "YouGov"، استطلاعا للرأي في أمريكا، في كانون الأول/ ديسمبر 2023، فأجابت الفئة العمرية 18-29 عن سؤال حقيقة الهولوكست، وكانت الإجابات على هذا النحو: 20 في المئة قالوا إنها خرافة، 23 في المئة رأوا أنها قصة مبالغ فيها، وقال 26 في المئة إنهم لا يعرفون ما إذا كانت حقيقة أم قصة طالتها المبالغات. ورغم الحجب وعوائق الخوارزميات فإن القصة الحقيقية تتسرب في شقوق وسائل التواصل.

لا بد من قصة، الإنسان قصة أو قصص، وفي القصة يدفع المؤلف القصة إلى أقصاها، وقصتنا في غزة تزداد تعقيدا، وكذلك يفعل المؤلفان إسرائيل وأمريكا بدفع الحبكة إلى أقصاها.

ثمة حقيقية لا يعترفون بها: أن أهل غزة أبطال، وفيها آلاف القصص الصغيرة، وهي غير منتظمة في سلك في القصة الكبرى، وقد أجهزت السينما على القصص كلها، الخيالية والخرافية والخيال العلمي والخيال الحر. ووجدتُ أن قصة صوت هند وهي قصة لم نسمع منها صوتها، أذهلت العالم، وحضر سؤال: كيف يصبر هؤلاء، ويُقتلون جياعا، وغزة محاصرة، ليس فيها غابات أو جبال، أو كهوف، والعيش تحت الأرض ثلاثين مترا، وقد عاشوا سنتين وهم بلا أسلحة؟.. فلم تُحرم ثورة من صديق، إلا ثورة غزة، قصص غزة لم تُرو بعد.

الدراما في التعريف عند كاتب السطور، هي العاقبة، والجزاء، والفتنة، والبلاء، وقد خرج اليهود من الحرب العالمية الثانية أسطورة، والأسطورة في اللغة المعاصرة تعني العظيم، والكبير، والخارق، أسطورة ستة ملايين ضحية، معصومين من النقد.

يمكن نقد المسيح، بل وعمل أفلام ساخرة عنه، والتشكيك في أبوّته بنسبه إلى يوسف النجار، أما الهولوكوست فيمنع الاقتراب منه، بل إن زيارة متحف الهولوكوست شبه واجبة في أمريكا للضيوف الكبار، أما حائط المبكى فيجب زيارته في إسرائيل مكافأة عن المحرقة وتعويضا وتقديسا لها.

أبطلت غزة كيد الساحر، وأنصارها يتكاثرون، ليس آخرهم الممثل الأمريكي الشهير ريتشار غير، وحرَق أمريكي نفسه، وانتحر أرجنتيني..

قصة غزة هزمت القصص السينمائية الخيالية، أو الحقيقية، أو من المؤمل أن تهزمها، فهي حرب حصار وتجويع وقتل تجري على الهواء مباشرة.

x.com/OmarImaromar
التعليقات (0)