سنعود
إلى قول الرجل البرتقالي، الذي بات مثل الواد منصور "ما بيجمّعش"، رئيس
أمريكا دونالد
ترامب، لا فُضّ فوه، حين جمّع وقال: "الحرب على
غزة ألحقت
أضرارا بصورة
إسرائيل داخل أمريكا، وتضاءل نفوذها داخل الكونغرس والدوائر السياسية"!
قبل
الخوض في شرح هذا التصريح، يحسن بنا المرور على قصة أوسكار وايلد "
صورة
دوريان غراي"، وهي من كلاسيكيات الأدب الإنجليزي. فالقصة تقوم على فرضية نفسيّة
مفادها: أن ما يختلج في القلب يظهر على الوجه، وقد عبّر الشعراء عن ذلك، كما قال
طرفة بن العبد:
ومهما
تكن عند امرئ من خليقةٍ وإن خالها تخفى
على الناس تُعلَمِ
وروي
عن علي بن أبي طالب قوله: "مَا
أَضْمَرَ أَحَدٌ شَيْئا إِلَّا ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَصَفَحَاتِ
وَجْهِهِ".
ترامب يطلب من إسرائيل إنهاء الأمر بسرعة، لأن الصورة تتآكل وتتقبح. لكن غزة تصمد، والمقاومة مستمرة، والصورة تسوء كل يوم
وفي
السيرة النبوية ما يؤكد هذا المعنى، حيث ورد أن عبد الله بن سلام، وكان حَبْرا من
أحبار يهود بني قينقاع، قال عن النبي عليه الصلاة والسلام، لما قدم المدينة: "فلمّا
تأملت وجهه، واستثبته، علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب".
كما
جاء عن عثمان بن عفان أنه قال لرجل نظر إلى امرأة في السوق: "يدخل أحدكم
علينا وفي عينيه أثر الزنا؟"، فقيل له: أوَحيٌ بعد رسول الله؟ فقال: "لا،
ولكن برهان وفراسة".
وفي
قول الفضيل بن عياض: "إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي وامرأتي
وفأر بيتي".
نعود
إلى "دوريان غراي"، حيث يرسم رسام يُدعى بازِل صورة شاب وسيم نبيل يُدعى
دوريان، فيتمنى هذا الأخير أن تشيخ صورته بدلا منه، ليظل شابا إلى الأبد، ويمنح روحه
مقابل هذه الأمنية. توافق الأقدار على أمنيته: تكبر خطاياه، لكن صورته هي التي تتحمل
القبح والشيخوخة، في حين يظل هو شابا جميلا.
يُغوي
فتاة فقيرة تُدعى سيبيل، ثم يتركها بتحريض من اللورد هنري -ممثل الشيطان في
الرواية- فتنتحر، ويبدأ القبح بالظهور على الصورة. ثم يقتل الرسام، ويقتل شقيق
سيبيل الذي حاول الانتقام لأخته، وكلما ارتكب ذنبا، تشوّهت الصورة أكثر.. حتى
النهاية.
ترامب
في روايتنا السياسية هذه، هو "اللورد هنري" الذي يقول لبريطانيا والغرب
إن الصورة التي رسماها لإسرائيل كيانا مسالما وحضاريا قد تشوهت. أما
"سيبيل" فهي فلسطين، الضحية البريئة، التي تُغوى بوعود زائفة، ثم تُترك
لمصيرها، بينما يشاهد الأشقاء العرب -"أخوها"- بصمتٍ أو عجزٍ أو موتٍ.
ترامب
يطلب من إسرائيل إنهاء الأمر بسرعة، لأن الصورة تتآكل وتتقبح. لكن غزة تصمد،
والمقاومة مستمرة، والصورة تسوء كل يوم. في جامعة هارفارد، 60 في المئة من الطلبة
أظهروا نفورهم من إسرائيل. أُسطول نجدة أبحر من إيطاليا بأكثر من 50 سفينة. كل يوم
ينضم مؤثر جديد إلى "محبي غزة" و"مبغضي إسرائيل"، التي باتت
صورتها الحقيقية تتجلّى، بعد أن كانت مطلية بألوان زاهية وزائفة من الديمقراطية
والسلام.
لم
تعد صور أطفال غزة وهم يحملون أوعية بلاستيكية في انتظار حساء العدس المشاب بالماء،
أو عظامهم البارزة تحت الجلد، تحتاج إلى تفسير. هذه الصور تجوب العالم، وتهزُّ
الضمائر وتفطر القلوب، حتى لو أنكرها
نتنياهو ساخرا من المجاعة، مدّعيا أن ثلاث
حالات فقط ماتت، وهي -بحسبانه- ليست من الجوع، بل من المرض. وإن أهل غزة يعانون من
التخمة، وما تقوم به إسرائيل مجرد ألعاب نارية، وترغيب في الهجرة
"الطوعية".
مشهد
نتنياهو صار كوميديا، يذكّر بصورة تشارلي شابلن في الحرب: إنكار فجّ للواقع، وصورة
متآكلة يحاول إنقاذها ببطش آلته العسكرية. إنه يُحقق نبوءتين قديمتين في آن: واحدة
"إسرائيلية" تقول إن نهاية إسرائيل التي لم تعمر لثمانين سنة قط، تقترب،
وأخرى "إسلامية" وردت في سورة الإسراء تقول: "فإذا جاء وعد الآخرة
جئنا بكم لفيفا".. وقد جاؤوا.
موقع
"دروب سايت نيوز" كشف عن توقيع شركة غوغل عقدا بـ45 مليون دولار مع مكتب
نتنياهو، في محاولة يائسة لتلميع صورة إسرائيل عبر حملة دعائية رقمية تنكر المجاعة
وتسوّق أن "الطعام متوفر في غزة". لكن الحقيقة أقوى من الإعلان، فخوارزميات
الحجب لا تمنع التسرب، والناس ترى، وتشاهد، وتتألم، وتشارك.
إنها لوحة إسرائيل التي تشيخ، وتتشوه، وتُفْضح، ومع كل محاولة تلميع، يزيدها الطغاة قبحا. وكلما انتُزِعَت صورة طفل جائع، ازداد انكشاف الوجه الحقيقي
إنها
لوحة إسرائيل التي تشيخ، وتتشوه، وتُفْضح، ومع كل محاولة تلميع، يزيدها الطغاة قبحا.
وكلما انتُزِعَت صورة طفل جائع، ازداد انكشاف الوجه الحقيقي.
يحاول
دوريان أن يصلح نفسه، لكن عبثا، فاللوحة شاهدة على قبح روحه، ويداه الملطختان
بالدماء شاهدتان على قتل باسيل الرسام، وحتى لو أراد أن يعترف بقتل باسيل ويتطهر
فلن يصدقه أحد. تذكر دوريان وهو يتأمل صورته القبيحة السكين الذي قتل به الرسام،
فمدها ليطعن اللوحة، ترددت صدى صيحة في المنزل، فهرع الخدم ليتفقدوا سيدهم فرأوا رجلا
ميتا كريها قبيح الوجه قد انغرست سكين في صدره، لكنهم حين رأوا خاتمه في يده
عرفوه، لقد كان دوريان جراي الحقيقي.
الرواية
الشهيرة رواية جمال وقبح، جمال الظاهر وقبح الباطن، فليس كل ما يلمع ذهبا، والجمال
لا يجعل الباطل حقا، وقد رأينا أوروبا بشوارعها النظيفة ونسائها الجميلات وصناديق
انتخاباتها تبارك جرائم إسرائيل، أو تسكت عنها. والصورة التي اعترف ترامب بأنها
تضررت، هي صورة اشتغلت عليها آلاف القصص والدراما والإعلام والسينما مدة 75 سنة،
وقد ظهر أصحاب الصورة الديمقراطية، رعاة الكلاب والهررة، والشوارع النظيفة، على صورتهم
القبيحة التي حرصوا على إخفائها طويلا.
"وَاللَّهُ
مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ".
x.com/OmarImaromar