مع اقتراب العدوان "
الإسرائيلي" على
غزة (والمنطقة) من إتمام عامه
الثاني، يبدو المشهد العام غارقا في السوداوية والتشاؤم. فالوضع الإنساني في غزة
يتعذر على الوصف فضلا عن الاحتمال، بين الأعداد الكبيرة من الشهداء والمصابين
والتهجير والتجويع والتدمير الممنهج، والذي خرج منذ مدة طويلة جدا عن أي أهداف عسكرية
وأمنية وسياسية للحرب ويبدو أقرب لمنطق السادية والدموية كهدف بحد ذاتها، للانتقام
ولكَيِّ الوعي ودفع الفلسطينيين -وغيرهم- للندم على لحظة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر
2023.
وكأنَّ كل ذلك لا يكفي، فبدأت قوات الاحتلال عملية برية واسعة في مدينة غزة
منتهجة التقدم المتدرج وسياسة الأرض المحروقة وتدمير الأبراج العالية، مع تصريحات
معلنة تدعو لتهجير سكان المدينة.
إقليميا، يبدو المشهد للوهلة الأولى سوداويا كذلك. فقد هاجمت
"إسرائيل" كلا من لبنان وسوريا وإيران، واغتالت رئيس وزراء حكومة صنعاء
مع عدة وزراء، وما زالت احتمالات جولات تصعيد إضافية ضد لبنان وإيران تحديدا
مرتفعة، بينما يستمر الاحتلال بالعدوان على سوريا احتلالا وقصفا واغتيالا واعتقالا.
مع الإقرار بكل ما سبق، وتحديدا عمق الأزمة الإنسانية وضرورة السعي بكل الأدوات والأوراق لوقف المذبحة المستمرة بدعم أمريكي، وعجز وصمت عربي وإسلامي، إلا أن ثمة فارقا كبيرا بين هذا الخطاب وبين الترويج للهزيمة وضرورة الاستسلام ورفع الراية البيضاء
اختصارا، فالقراءة الواقعية للأوضاع في غزة خصوصا والمنطقة عموما تقدم
مشهدا صعبا جدا: يد "إسرائيلية" مطلقة ودعم أمريكي غير مسبوق، ومفاوضات
مجمّدة بقرار "إسرائيلي" مع لوم الفلسطينيين وفق التصريحات الأمريكية،
إضافة لعدم دخول أي عناصر إضافية قادرة على الضغط على
نتنياهو والاحتلال.
والحال كذلك، ثمة أولوية قصوى لوقف العدوان وكسر الحصار وإغاثة سكان غزة
بلا أي تأخير، وهو ما يؤمن وينادي به الجميع وتريده المقاومة التي لا تفوت فرصة
للتعبير عن ذلك وتسعى له، بما فيه موافقتها السريعة وغير المشروطة على مقترح
الوسطاء الأخير، وهو المقترح الذي لم تردَّ عليه حكومة الاحتلال لا إيجابا ولا
سلبا ولا حتى تعقيبا.
مع الإقرار بكل ما سبق، وتحديدا عمق الأزمة الإنسانية وضرورة السعي بكل
الأدوات والأوراق لوقف المذبحة المستمرة بدعم أمريكي، وعجز وصمت عربي وإسلامي، إلا
أن ثمة فارقا كبيرا بين هذا الخطاب وبين الترويج للهزيمة وضرورة الاستسلام ورفع
الراية البيضاء. والتفريق هنا ضروري، ليس من باب الدخول في النوايا وتفسير
الدوافع، ولكن لأن ذلك ينعكس بشكل مباشر على الفعل وبالتالي بشكل مؤكد على
المآلات.
وبعيدا عن المنطق الرئيس بأن المعركة مستمرة ولم تنته وبالتالي يتعذر تقييم
نتائجها، وعن الفكرة الأساسية التي تفصل نسبيا بين خسائر الحروب ونتائجها مع عدم
التقليل من أهمية وخطورة، وكذلك قيمة الخسائر البشرية من شهداء ومصابين ومهجرين
ومجوّعين في المقام الأول، أقول بعيدا عن هذين المبدأين الأساسيين، ينبغي ألا
تدفعنا صعوبة اللحظة الراهنة لتقييم خاطئ بخصوص مسار الصراع مع العدو. فالتقييم
الاستراتيجي لأي معركة أو
حرب، ومنها طوفان الأقصى فضلا عن مجمل الصراع، لا يمكن
أن يجرى في اتجاه واحد فيحسب إنجازات الاحتلال وخسائرنا دون أن يلحظ الكفة الأخرى؛
أي خسائره وإنجازات الفلسطينيين مقاومة وشعبا.
وهنا تحضرني ثلاثة معانٍ مهمة؛ أولها أنه رغم الخلل الهائل في ميزان القوة وتخطي الاحتلال كل الحدود في حرب
الإبادة، ورغم الخسائر الكبيرة التي تكبدتها المقاومة في قياداتها وكوادرها
وعتادها فضلا عن أهلها وشعبها، ورغم طول الحرب مع الحصار وعدم القدرة على إدخال
السلاح، رغم كل ذلك فإن المقاومة ما زالت قائمة وقادرة على ضرب العدو والإثخان فيه
بعمليات نوعية؛ فيها من الرصد والتخطيط والتنفيذ والتوثيق ما يؤكد سلامة منظومة
القيادة والسيطرة إلى حد كبير. وهي مع ذلك ما زالت قادرة على الاحتفاظ بعدد من
الأسرى رغم الظروف القاسية، بما في ذلك هامش كبير في الحماية ونسبي في التحرك
والنقل، كما أكدت الرسالة الأخيرة التي شملت تحرك أحد الأسرى في مركبة في القطاع
فوق الأرض.
يعني ذلك أن الأهداف الكبيرة والعناوين العريضة التي رفعها الاحتلال لهذه
الحرب لم تتحقق بعد، ومن الصعب أن تتحقق إلا باستسلام المقاومة ورفعها الراية
البيضاء، وهو ما يُستبعد حدوثه حتى مع وحشية العمليات الأخيرة في مدينة غزة. ولا
ينبغي التقليل من آثار انهيار النظرية الأمنية "الإسرائيلية" في السابع
من أكتوبر وما تلاه على دولة الاحتلال على المدى البعيد، حيث أصبح قصفها واستهداف
"عاصمتها" ومطاراتها وقواعدها العسكرية خبرا مكررا، بعد أن كان من
المحرّمات وشبيه المستحيلات في زمن مضى.
أما المعنى الثاني فيرتبط بخسائر
دولة الاحتلال على المدى البعيد، أي معارك الصورة والسردية والمصداقية والمظلومية،
وهي أمور وإن لم تصل للتأثير المطلوب اليوم لوقف العدوان، لكن لا ينبغي التقليل من
شأنها على المدى البعيد لسببين؛ الأول أنها تضرب بشكل مباشر الأسس التي قام عليها
الكيان، والثاني أنها تؤدي إلى تآكل الرواية "الإسرائيلية" في العالم
الغربي تحديدا بشكل مستمر وإن كان بطيئا، وهو ما يمكن -إن استُثمر بالشكل الصحيح-
أن يتسبب لاحقا بتغييرات جوهرية على صعيد الدعم الخارجي المقدّم للاحتلال. وتآكل
الدعم الخارجي أمر لا يمكن التقليل منه أو الزهد فيه أو عدُّه شيئا هامشيا، لما
نعرفه سابقا وتأكد مع الحرب الحالية من محورية الدعم الخارجي لبقاء الكيان وليس
فقط لمجرد انتصاره في معركة. ولعل أسطول الصمود المتجه حاليا لغزة بعشرات السفن
ومئات الناشطين الدوليين مثال جيد للتعبير عن هذه الفكرة وضرورة البناء عليها،
والعمل لتسريعها وزيادة أثرها.
وأما المعنى الثالث فيتعلق بعدد
الجبهات التي فتحها الاحتلال على نفسه ولم يستطع غلقها حتى اللحظة، ولا نظنه
يستطيع. لقد حاولت معظم الدول والقوى في المنطقة أن تنأى بنفسها عن الانخراط
المباشر في الحرب أو الانخراط المنضبط، إلا أن حكومة نتنياهو أصرت على فتح معارك
كبرى مع كل من حزب الله في لبنان ثم إيران، مع توغل وتغول في سوريا وقصف مستمر
واستهدافات متصاعدة في اليمن.
اليوم، فتحت "إسرائيل" على نفسها -فضلا عن غزة وعموم فلسطين-
جبهات ساخنة في لبنان وسوريا واليمن وإيران، وتهدد تصريحا وتلميحا وضمنا دولا أخرى
مثل الأردن ومصر وتركيا. تشير التطورات إلى احتمال كبير لعودة التصعيد بين
"إسرائيل" وبين إيران وكذلك -وربما قبل ذلك- مع حزب الله في لبنان، وما
زال الحوثيون في اليمن يتوعدون برد قاسٍ على اغتيال وزراء حكومتهم. يتحدث حزب الله
عن تقدمه في مرحلة التعافي العسكري والأمني، وأقرَّ البرلمان الإيراني مشروعا
لتعزيز القدرات العسكرية في مواجهة "إسرائيل"، وتعمل حتى تركيا على
تعزيز قدراتها الدفاعية والهجومية بما في ذلك الصواريخ الباليستية والمنظومات
الدفاعية والملاجئ.
إن الدرس الأكبر للمعارك والحروب عبر التاريخ وحديثا أن من يشن الحرب ليس
هو بالضرورة من ينهيها فضلا عن أن يحدد نتائجها، بل إن غرور القوة كان في كثير من
الأحيان سبب توريط ثم استنزاف ثم فشل القوة الغازية. لقد كان الاعتماد على القوة
الغاشمة والتقدم السريع لفتح جبهات عديدة ومحاولة السيطرة على دول وجغرافيا أوسع
بكثير من قدرات الجيش؛ السبب الرئيس في هزيمة نابليون ثم هتلر في درس تاريخي
متكرر، رغم رجحان الكفة لصالحهما في ميزان القدرات المباشرة.
لا أعتقد أن "إسرائيل" تشذ هنا عن هذه القاعدة، حيث يقودها غرورها وفرط ثقتها في الدعم المقدم لها وتقاعس المنطقة في مواجهتها إلى فتح جبهات وبذر بذور توتر وتصعيد واستنزاف لعقود وليس فقط لسنوات قادمة
ولا أعتقد أن
"إسرائيل" تشذ هنا عن هذه القاعدة، حيث يقودها غرورها وفرط ثقتها في
الدعم المقدم لها وتقاعس المنطقة في مواجهتها إلى فتح جبهات وبذر بذور توتر وتصعيد
واستنزاف لعقود وليس فقط لسنوات قادمة.
إن المعاني الثلاثة التي أشرنا لها آنفا، ويمكن تعداد ما هو أكثر من ذلك في
السياق ذاته، تشير إلى خسائر استراتيجية لـ"إسرائيل" ومكاسب استراتيجية
للفلسطينيين والمنطقة، حتى إن تأثير بعضها ثابت بغض النظر حتى عن النتائج المباشرة
للحرب الحالية ومتى وكيف ستتوقف. إنها حرب طويلة من معارك وجولات عديدة لا يمكن حسمها
ميدانيا وفق المعطيات الحالية، فلا ينبغي أن يحسمها البعض اليوم في مخيلته ثم في
تنظيره وكتاباته، فما بالنا والمعركة الحالية نفسها لم تنته بعد. وحتى لو كنا في
مرحلة "العلوّ الإسرائيلي" حاليا في المنطقة، إلا أننا بالتأكيد في مسار
انحدار وتراجع للمشروع برمته على المدى البعيد.
وعليه، فواجب الوقت هو العمل، وإدامة الضغط على جميع الأطراف للقيام
بمسؤولياتها وتفعيل إمكاناتها لوقف المذبحة، واستخلاص الدروس التي تفيد في توجيه
دفة المعركة والحرب بعمومها نحو نتائج أكثر إيجابية وأقل سلبية، وليس في الجمود
عند نقاشات نظرية وافتراضية لا توقف عدوا ولا تحقن دما، وليس لها أي تأثير إيجابي
على سير المعركة.
x.com/saidelhaj