كتاب عربي 21

ما وراء تحريض نتنياهو على أردوغان؟

سعيد الحاج
"ما يضع تصريحات نتنياهو في إطار التحريض على الرئيس التركي؛ ورودها خلال زيارة روبيو لدولة الاحتلال"- الأناضول
"ما يضع تصريحات نتنياهو في إطار التحريض على الرئيس التركي؛ ورودها خلال زيارة روبيو لدولة الاحتلال"- الأناضول
هاجم رئيسُ وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو الرئيسَ التركي رجب طيب أردوغان مجددا، موجها له خطابا حادا يتعلق بمدينة القدس التي قال "هي مدينتنا، ليست مدينتك ولن تكون". تصريحات نتنياهو التي جاءت خلال زيارة وزير الخارجية الأمريكية ماركو روبيو حملت لهجة تحريضية ضد أردوغان بشخصه، وردَّ عليها أكثر من مسؤول تركي.

فقد عدَّها الناطق باسم حزب العدالة والتنمية عمر تشيليك "هلوسات"، وقال إنها "باطلة ولا قيمة لها"، محذرا من أن الإنسانية جمعاء باتت "تحت تهديد هذه العصابة". ووصفه أردوغان بأنه "قريب أيديولوجيا من الزعيم النازي هتلر"، مؤكدا على أنه سيلقى المصير نفسه. كما هاجمه رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو واصفا إياه بـ"الجاهل الذي لا يعرف التاريخ"، ومشيرا إلى أن الصراع مع الاحتلال ليس مجرد خلاف سياسي عابر بل "مواجهة بين قيم حضارية".

نتنياهو يحاول تحريض الإدارة الأمريكية على الرئيس التركي، قبيل مشاركة الأخير في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والقمة التي ستجمعه بنظيره الأمريكي، وبالنظر للتأثير الأمريكي الكبير في الملف السوري، ولا سيما بخصوص "قسد" ورفع العقوبات وجلب الاستثمارات

تشير التصريحات الأخيرة إلى حالة التوتر المتصاعدة بين الجانبين، والتي أتت ضمن سياقات ثلاثة متتالية ومترابطة:

الأول، سابق على طوفان الأقصى، ويرتبط بشكل رئيس بالمواقف التركية من "إسرائيل" وخصوصا في محطات العدوان على غزة، والعلاقات مع حركة حماس، وتصريحات أردوغان. وقد وصل الأمر ذروته حين وُضعت تركيا لأول مرة في قوائم تهديدات الأمن القومي "الإسرائيلي" عام 2021. ورغم أن الجانبين ذهبا لتطوير العلاقات بينهما في 2022، وحديث أردوغان عن "الفصل بين العلاقات مع إسرائيل والممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين"، إلا أن هذه الاعتبارات لم تختف تماما بل بقيت حاضرة في الخلفية.

الثاني، يرتبط بالموقف التركي من "إسرائيل" بسبب العدوان على غزة وتحديدا بعد بدء الحرب البرية وما شهدته من مجازر (بعد موقف أولي مضطرب)، حيث سمّت تركيا "إسرائيل" دولة إرهاب ونتنياهو مجرم حرب "أقفلنا صفحة التعامل معه بلا رجعة"، ورفضت تجريم حركة حماس كحركة إرهابية، وصولا لمرحلة العقوبات؛ مثل وقف التجارة معها والمشاركة في قضية الإبادة أمام محكمة العدل الدولية. ورغم أن بعض التقارير تتحدث عن أن وقف التعامل التجاري ليس كاملا وأن هناك بعض التحايل عليه عبر أطراف ثالثة، ورغم استمرار تدفق النفط الأذربيجاني لـ"إسرائيل" عبر الموانئ التركية، إلا أن الأخيرة ترى مواقف أنقرة عدوانية و"داعمة للإرهاب". كما أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان تفاخر أمام البرلمان بأن بلاده الوحيدة التي أقدمت على قرار وقف العلاقات التجارية.

وأما السياق الثالث فيتعلق بشكل مباشر بالملف السوري في مرحلة ما بعد الطوفان، إذ وضع سقوط نظام الأسد الجانبين في محورين متواجهين إثر تناقض المصالح بينهما، حيث تسعى "إسرائيل" لإضعاف سوريا بل وتقسيمها، بينما تعدُّ تركيا أكبر الداعمين لسوريا الجديدة في عدة مجالات، كما أن هذا التحول الكبير وضع الجانبين على حدود بعضهما البعض من الناحية العملية ومن زاوية "الحدود المرنة".

ما يضع تصريحات نتنياهو في إطار التحريض على الرئيس التركي؛ ورودها خلال زيارة روبيو لدولة الاحتلال أولا، وذكرُها على لسان نتنياهو بالإنكليزية وليس العبرية، ما يعني أنها موجهة للخارج وليس الداخل ثانيا، وثالثا تأطير أردوغان كعدو لـ"إسرائيل" ومانع لإثبات يهودية القدس وعائق أساسي أمام تطور العلاقات بين الجانبين، بمعنى نفي وجود أي مشكلة في سلوك "إسرائيل" وتصدير المشكلة نحو تركيا وأردوغان تحديدا.

يعني ذلك أن نتنياهو يحاول تحريض الإدارة الأمريكية على الرئيس التركي، قبيل مشاركة الأخير في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، والقمة التي ستجمعه بنظيره الأمريكي، وبالنظر للتأثير الأمريكي الكبير في الملف السوري، ولا سيما بخصوص "قسد" ورفع العقوبات وجلب الاستثمارات.

ولذلك فالسؤال الذي يطرح نفسه بخصوص المستقبل هو احتمال حصول مواجهة مباشرة بين الجانبين. ومما يعزز هذه الاحتمالاتِ التغيراتُ التي طرأت على "إسرائيل" والمنطقة عموما وفي مقدمتها سوريا في السنتين الأخيرتين.

فقد تحولت "إسرائيل" بعد السابع من أكتوبر 2023 من منطق الردع واحتواء التهديدات إلى مربع الحسم ووأد التهديدات في مكانها، حتى المحتملة منها. ومن هذه الرؤية الأمنية الجديدة أتت حرب الإبادة في غزة والعدوان على عدة دول عربية وإسلامية؛ كان آخرها استهداف وفض التفاوض في حركة حماس في الدوحة. وتمثل سوريا هنا مثالا نموذجيا لهذا التغير، إذ هاجمتها "إسرائيل" وعمّقت احتلال أراضيها بعد أن ألغت اتفاقية فض الاشتباك لعام 1974 من جانب واحد، ولا تخفي دعمها لأطياف سورية داخلية رغبة منها في دعم سيناريو التقسيم و/أو الإشغال الداخلي، رغم أن دمشق لا تملك النوايا ولا الإمكانات لتهديدها في المرحلة الحالية ولا في المستقبل المنظور.

ومن ضمن هذه الرؤية لم تكتف قوات الاحتلال بقصف وتدمير مقدرات الدولة السورية من قواعد عسكرية وأسلحة ومراكز بحث، بل تجاوزت ذلك لمنع مراكمة أي نوع من أنواع القوة واستهدفت كل مظاهر الاستقرار الأمني والعسكري، بما في ذلك قصف مقر الأركان وجوار القصر الرئاسي في دمشق. كما أعلنت أكثر من مرة استهداف مصالح تركية على الأراضي السورية، من قواعد عسكرية يُحتمل أن تتواجد فيها قوات تركية إلى ما سمتها أجهزة حساسة تركية للتجسس عليها، دون أن تغفل تحذير الرئيس السوري أحمد الشرع من مغبة التعاون مع أنقرة.

لن تتورع عن توجيه ضربات مباشرة للمصالح التركية، وتبدو الجغرافيا السورية مساحة "مثالية" بالنسبة لها. ولذلك فالمواجهة بين الجانبين قادمة، بغض النظر عن شكلها (مباشرة أم غير مباشرة) ومداها وسقفها

هذا التصعيد الكلامي تأخذه أنقرة على محمل الجد، كما كانت تعاملت بجدية بالغة في حرب الـ12 يوما بين إيران و"إسرائيل"، من منطق عملي مبني على فرضية استهداف الأخيرة لها وإن لم يُصرَّح بذلك رسميا وعلنا، ومن هنا أتى الاهتمام التركي بالجبهة الداخلية وبناء الملاجئ وتطوير الدفاعات الجوية والصواريخ الباليستية.

وعليه، ليس من المبالغة القول إن "إسرائيل" التي ترى أمامها فرصة تاريخية لإخضاع المنطقة بكاملها لنفوذها ومحو آثار عملية "طوفان الأقصى"؛ لن تتورع عن توجيه ضربات مباشرة للمصالح التركية، وتبدو الجغرافيا السورية مساحة "مثالية" بالنسبة لها. ولذلك فالمواجهة بين الجانبين قادمة، بغض النظر عن شكلها (مباشرة أم غير مباشرة) ومداها وسقفها.

ولذلك، فقد بدا رد الرئيس التركي على تصريحات نتنياهو وتحريضه غريبا شيئا ما، حيث ركز في رده على أحقية الشعب الفلسطيني ومن خلفه العالم العربي والإسلامي بالقدس الشرقية، متجنبا أي أبعاد أخرى أكثر شمولا.

ولئن كان واضحا لكل مراقب متبصر أن تركيا تتجنب أي مواجهة مباشرة حاليا مع "إسرائيل"، فلا نملك إلا أن نأمل بأن يكون ذلك جزءا من رؤية الإعداد كما تظهر خطوات تعزيز القدرات الذاتية، وليس ضمن محاولة تجنب ذلك بالكامل، وهي المحاولات التي لم تفد أحدا حتى اللحظة في المنطقة، حيث استهدفتهم "إسرائيل" تباعا وفق رؤيتها وتوقيتها والشكل الذي ارتأته، ما ترك لها يدا عليا إلى حد ما ولا سيما في بدايات العدوان على مختلف الأطراف.

x.com/saidelhaj
التعليقات (0)