لو قدر لحكمة البشر جميعا أن تستقر في عقل
فلسطيني عادي، فإنها تبقى عاجزة
عن إقناعه بتنحية التفكير في فصل سياسة واشنطن عن تل أبيب، والبحث فيما يمكن
أن تحققه سياستها المتعاقبة من تصورات عن السلام والأمن في فلسطين والمنطقة
العربية. جاءت جرائم الإبادة الجماعية في غزة، وما تبعها من مواقف غربية وأمريكية،
لتكرس هذه الحقيقة، وتكشف طبيعة المستعمر الصهيوني الوحشية، والذي تتنامى لديه
الرغبة بالانتقام من الجنس البشري الفلسطيني في غزة، بدعم أمريكي يدفع لتغذية
الحقد المتأصل في نفوس وعقول المستعمرين ويغذي أفكارهم الإبادية.
لذلك، لم يكن مفاجئا لجوء الإدارة الأمريكية لمنع قيادات السلطة الفلسطينية
من الحصول على تأشيرات دخول للولايات المتحدة، فبعد عامين من حرب الإبادة
الإسرائيلية
على غزة، ثم تجريم إسرائيل وقيادتها أمام محكمتي العدل والجنائية الدولية بتهم
ارتكاب جرائم الحرب وضد الإنسانية، وصدور مذكرات اعتقال بحقهم، أعلنت إدارة ترامب
عزمها على خوض المعركة ضد العالم والفلسطينيين نيابة عن إسرائيل، والدفاع عنها
بمهاجمة كل المؤسسات الدولية، ومعاقبة الدول التي قررت اتخاذ إجراءات عقابية ضد إسرائيل؛
من قطع العلاقات أو الانضمام للدعوى المقدمة أمام الجنائية الدولية ضد إسرائيل..
الخ.
كل مواقف السلطة الفلسطينية، وطيلة ثلاثة عقود من تجربة الاتكاء على الموقف الأمريكي كوسيط في ملف المفاوضات، وتمسك السلطة للالتزام غير المحدود بتلابيب وشروط التنسيق الأمني والتعهد بمتطلبات السلام، لم تغير من صورتها في العقل الأمريكي الإسرائيلي
ذريعة الخارجية الأمريكية، لتبرير منع صدار تأشيرات للسلطة الفلسطينية، أنها
"رد على خطوات الفلسطينيين باللجوء إلى المسارات القانونية والدولية التي
تتجاوز المفاوضات"، إضافة للمساعي الدولية للاعتراف بالدولة الفلسطينية. ودعت
الخارجية الأمريكية السلطة الفلسطينية للكف عن السعي للحصول على دولة فلسطينية، بالإضافة
لدعوة السلطة للتبرؤ مما وصفته الإرهاب.
المفاجئ هنا، أن كل مواقف السلطة الفلسطينية، وطيلة ثلاثة عقود من تجربة
الاتكاء على الموقف الأمريكي كوسيط في ملف المفاوضات، وتمسك السلطة للالتزام غير المحدود
بتلابيب وشروط التنسيق الأمني والتعهد بمتطلبات السلام، لم تغير من صورتها في
العقل الأمريكي الإسرائيلي، وطوال الوقت، وفي كل مراحل العمل السياسي للسلطة
الفلسطينية مع الإدارة الأمريكية، اقترنت مواقف الأخيرة بتبنٍ أعمى لكل ما تقوم به
إسرائيل، من جرائم وانتهاكات قوضت ما بني عليه من أوهام تتعلق بنزاهة التعويل على
أمريكا. فكل الضغط يمارس على الفلسطينيين للتخلي عن حقوقهم، والتبدل الجذري في هذا
الموقف مع وصول إدارة ترامب في ولايتيه الأولى والثانية، كان في صراحة الموقف من
القدس والمستوطنات، ومن ضم الأراضي إلى دعم جرائم التطهير العرقي في غزة، ودعم
عدوان عصابات المستوطنين في الضفة، إلى سعي واشنطن لتقديم دعم كامل لإسرائيل
ولإرهاب المستوطنين لضم الأراضي المحتلة.
ومن هنا ينبع موقف الخارجية الأمريكية بمنع إصدار تأشيرات للسلطة
الفلسطينية، لمنعها من مخاطبة المجتمع الدولي، ولمحاولة القضاء على السياسة
الفلسطينية أولا، ولمعاقبة الدول التي تنوي الاعتراف بالدولة الفلسطينية وجعل هذا
الاعتراف بلا معنى؛ من خلال دعم التوجه الإسرائيلي بفرض الأمر الواقع على الأرض،
الذي لا يعثر فيه على مكونات دولة بحسب تصريحات ائتلاف نتنياهو الفاشي؛ من بن غفير
وسموتريتش إلى عميحاي ونير بركات، وغيرهم من الذين أقروا وبصراحة، في مسعى ملموس
بالنسبة للفلسطينيين بشكل عام وللسلطة الفلسطينية على وجه الخصوص، بأن تدمير حل
الدولتين والسلطة نفسها هو الذي يتحقق، وأن السيادة الفلسطينية المزعومة على مناطق
وأراض في الضفة لم تعد موجودة.
فرغم وضوح موقف السلطة الفلسطينية بنبذ العنف (المقاومة)، وتكرار رئيس
السلطة في مناسبات لا حصر لها التنديد به، والعمل على ملاحقة واعتقال كل من يشتبه
بضلوعه بالمقاومة، واستخدام هراوة غليظة وبندقية قاتلة أحيانا، إلا أن كل ذلك لم
يشفع لها. وهذا يعيدنا لوقائع إسرائيلية وأمريكية بالتعاطي مع الرئيس الراحل ياسر
عرفات، ومع السلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني برمته، فالفلسطينيون والعرب ليسوا
بحاجة لقرائن تكشف جوهر الانحياز الأمريكي لإسرائيل، ولمشروعها الاستعماري
الاستعلائي في المنطقة، فحتى الدبلوماسية الفلسطينية وخطابها المعتدل، أصبح معيقا
للتطلعات الصهيونية من وجهة نظر الولايات المتحدة، ويتضح يوما بعد آخر كم هو بائس
وعقيم التفكير بأن الرهان الفلسطيني والعربي على الدور الأمريكي في "السلام"
بالمنطقة، وتحقيق التعايش مع مشروع صهيوني إجرامي، سيضع حدا لعداء تاريخي مع هذا
المشروع ويوقف مسلسل جرائمه البشرية.
وقف التهافت الفلسطيني خلف أوهام مطلوب من ورائها أن يقدم الشعب الفلسطيني ثمن تحمله للمحن والمذابح والمآسي التي نزلت به بتقديم استسلام صريح، فهل يمكن لمراجعة صريحة أن تعيد تصفية حساب الربح والخسارة، وبحكمة الواقع الفلسطيني الشعبي والرسمي؟
واستطرادا، يمكن القول إن عملية تصفية الحساب مع الوجود الفلسطيني كله، في
السلطة والضفة والقدس وغزة والداخل المحتل عام 48، يتم في سلة واحدة ولن يتوقف، سواء
خاطبت السلطة العالم من مقر الأمم المتحدة، أو من مقرها في رام الله؛ للأسباب
المذكورة أعلاه، ولسبب غياب مخاطبة الشعب الفلسطيني، وتفعيل الشارع الفلسطيني
لمواجهة المخاطر المحيطة به، خصوصا بعد فشل كل شيء راهنت عليه عقلية الخضوع للشروط
الإسرائيلية الأمريكية، وأفضت تلك العقلية إلى الانخراط في عملية تسوية فقدت أسسها
وحققت هدفا وحلما استراتيجيا صهيونيا بانتزاع اعتراف عربي بدولة "يهودية"
والاستعداد للتطبيع معها والاقرار باندماجها بالمنطقة؛ سيدة عليها بغطرسة القوة
والعدوان.
دروس وعبر كثيرة يمكن أن تستخلصها السلطة الفلسطينية، في معالجة الواقع
الفلسطيني نفسه، ومسؤوليتها في هذا الوقت بعدم تكرار خطاب التذلل الأممي الذي دأبت
على تكراره من على منبر الأمم المتحدة، ولا بمفردة شعار "احمونا"، ولا
بإحصاء أعداد ضحايا الإبادة، فالحماية الحقيقية تتأتى من وحدة الصف الفلسطيني أولا،
والشوارع الغربية حول العالم تخاطب الفلسطينيين وتقف بجانب عدالة قضيتهم، وذلك
يناقض حتمية الإيمان بالخضوع المطلق للإرادة الصهيونية الأمريكية، والتسليم بقدر
الانهيار العربي الشامل. فالاستعاضة عن كل ذلك، يكون بوقف التهافت الفلسطيني خلف
أوهام مطلوب من ورائها أن يقدم الشعب الفلسطيني ثمن تحمله للمحن والمذابح والمآسي
التي نزلت به بتقديم استسلام صريح، فهل يمكن لمراجعة صريحة أن تعيد تصفية حساب
الربح والخسارة، وبحكمة الواقع الفلسطيني الشعبي والرسمي؟
بظننا، أن الدوافع العربية التي يعتقد أنها داعمة للتوجه الفلسطيني الرسمي،
والتي تشكل الجزء الهام للدفع نحو الخضوع بكل ما تمليه تل أبيب وواشنطن على
المنطقة، لن تدعم أي مراجعة لخيارات بديلة، على العكس، الموقف الجلي للولايات
المتحدة بدعم إسرائيل ومعاقبة الفلسطينيين ومن يدعمهم في المؤسسات الدولية، وتغول
الاحتلال؛ يستند لمعرفة مطمئنة، شاهدها القاسي: الاستمرار بجريمة الإبادة الجماعية
في غزة، والصمت عن جرائم المستعمرين في الضفة، مع استمرار العلاقة العربية مع إسرائيل؛
بينما الاستعداد لاحتلال غزة وتطبيق التطهير العرقي يكتملان، فخسارة حصة مخاطبة
العالم فلسطينيا لن تكون أقسى من خسارة الأرض والبشر والتفرج عليهما.
x.com/nizar_sahli