مع نهاية 2025، تواجه
مصر "مخاطر استراتيجية" تاريخية مع محيط جغرافي مطوق بأزمات إقليمية وحدودية تمتد من غزة المنهكة بحرب دموية شرقا، إلى
السودان المهدد بالتمزق جنوبا، مرورا باضطراب أمني ليبي مزمن، غربا، وغياب للاستقرار بالمدخل الجنوبي للبحر الأحمر، في حصار "جيوسياسي" يمثل ضغوطا وجودية واقتصادية وتمس ثوابت الأمن القومي المصري.
وفي الأزمة السودانية، وخلال زيارة رئيس المجلس السيادي السوداني عبدالفتاح
البرهان، للقاهرة الخميس، واستقبال رئيس النظام المصري عبدالفتاح
السيسي، له رسميا بالعاصمة الجديدة، أصدرت مصر بيانا شديد اللهجة حمل 4 "خطوط حمراء"، أكدت القاهرة أنها "لن تسمح بتجاوزها أو التهاون بشأنها".
أولى الخطوط الحمراء، وفق بيان رئاسي: "وحدة السودان وسلامة أراضيه، وعدم العبث بمقدراته أو مقدرات الشعب السوداني"، فيما شددت مصر ثانيا، على "الرفض القاطع لأي محاولات لانفصال أي جزء من الأراضي السودانية".
ثالث الخطوط الحمراء المصرية تمثلت في: "الرفض التام لإنشاء أي كيانات موازية أو الاعتراف بها، باعتبار أن ذلك يمثل مساسا مباشرا بوحدة السودان وسيادته وسلامة أراضيه"، في حين أكد البيان المصري على "الحفاظ على مؤسسات الدولة السودانية ومنع المساس بهذه المؤسسات"، كخط أحمر مصري رابع لا يمكن تجاوزه.
وأكد البيان الرئاسي أن أي مساس بتلك الخطوط الأربعة: "يمس مباشرة الأمن القومي المصري، الذي يرتبط بالأمن القومي السوداني".
تتمحور المخاوف المصرية من حرب السودان منذ نيسان/ أبريل 2023، واحتمالات انقسامه، حول تهديد وجودي يمس عمق القاهرة الاستراتيجي وأمنها المائي؛ إذ تخشى تحول الجار الجنوبي لبؤرة دائمة للفوضى ومرتع للميليشيات تهدد حدودها، وتفتت السودان لكيانات هشة تهدد تدفقات مياه النيل، وتضغط على مصر المتأزمة اقتصاديا بملايين المهاجرين.
التدخل العسكري.. حدوده وقانونيته
جاءت أشد عبارات البيان المصري مشيرة إلى احتمال التدخل العسكري بالسودان، في إطار "حقها الكامل باتخاذ التدابير والإجراءات التي يكفلها القانون الدولي، واتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين"، ملمحة إلى اتفاقية وقعها الرئيس الراحل أنور السادات والرئيس جعفر نميري عام 1976.
يمنح تحديث لتلك الاتفاقية وتعزيزها ببروتوكولات تعاون عسكري في آذار/ مارس 2021، غطاء قانونيا وسياسيا للتدخل المصري بالأزمة السودانية، خاصة وأن القاهرة ترى "الجيش السوداني" الممثل الشرعي والوحيد للدولة، وقوات "الدعم السريع" كميليشيا متمردة.
يمكن للقاهرة التدخل لحماية الحدود حال اقتراب المعارك من حدودها وتهديد سيادتها، وتأمين المنشآت الاستراتيجية كطرق الملاحة ومنشآت الري وسدود نهر النيل، وتزويد جيش السودان بمعلومات استخباراتية وصور أقمار صناعية حول تحركات الدعم السريع، والدعم الفني واللوجستي وصيانة المعدات العسكرية، تفعيلا للاتفاقية.
ويرى مراقبون أنه بناء على التطورات الأخيرة، فإن تلويح مصر بـ"التدخل العسكري"، و"اتخاذ ما يلزم من إجراءات"، حال انهيار جيش السودان أو تقسيمه بما يمس أمنها القومي، يتوافق ونص (المادة 51) من ميثاق الأمم المتحدة (الفصل السابع)، الذي يعد مستندا قانونيا تشرعن به الدول تدخلاتها العسكرية لحماية أمنها وأمن حلفائها.
اظهار أخبار متعلقة
توقيت حاسم للخطوط المصرية
يتزامن بيان الخطوط الحمراء المصري وتفاقم عمليات الدعم السريع بولاية جنوب كردفان وبعد سيطرتها على إقليم دارفور، وعقب تشكيلها حكومة "نيالا" الموازية بجنوب دارفور والمدعومة من: تشاد وإفريقيا الوسطى، وجنوب السودان، وكينيا، إلى جانب حليف مصر والإمارات خليفة حفتر، بشرق ليبيا.
كذلك تأتي زيارة البرهان للقاهرة والإعلان المصري شديد اللهجة؛ عقب لقاء البرهان بولي العهد السعودي محمد بن سلمان بالرياض الاثنين الماضي، وذلك بعد لقاء الأمير السعودي للرئيس الإريتري أسياسي أفورقي، ما يؤشر بوجود ترتيبات بين تحالف ثلاثي يدعم الخرطوم.
تحسبا للسيناريو الليبي
نائب رئيس مركز "حريات للدراسات السياسية والاستراتيجية"، إسلام الغمري، وضع البيان المصري وخطوطه الحمراء، "ضمن إطار مركّب يجمع بين الرسائل السياسية، والحسابات الأمنية، وإدارة توازنات إقليمية دقيقة، أكثر من كونه إعلانا فوريا عن نية تدخل عسكري مباشر".
وأكد لـ"عربي21"، أن "البيان يعكس قلقا مصريا حقيقيا من استنساخ (السيناريو الليبي) بالسودان، الذي تنظر له مصر ليس فقط كجار جغرافي، بل كامتداد مباشر لأمنها القومي".
ويرى أن "الخطوط الحمراء التي رُسمت (رفض الانفصال، ورفض الكيانات الموازية) تشير بوضوح إلى أن القاهرة لن تقبل بفرض أمر واقع ينتهي بوجود حكومتين؛ واحدة بالشرق وأخرى بالغرب؛ فهذا السيناريو يمثل لمصر كابوسا أمنيا، يحول حدودها الجنوبية لبؤرة استنزاف دائم وساحة نفوذ لقوى معادية".
حدود التدخل العسكري
الغمري، لفت إلى أن "التلويح المصري باتفاقية الدفاع المشترك؛ أداة ردع استراتيجي، ويحمل دلالات عسكرية نوعية"، مبينا أن "استخدام لغة (الحق الكامل باتخاذ كل التدابير) لا يعني بالضرورة التورط باجتياح بري شامل أو حرب استنزاف طويلة، بل قد يعني، إذا لزم الأمر، تدخلا جراحيا نوعيا".
وأشار إلى احتمالات: "توفير غطاء جوي حاسم، أو دعم استخباراتي ولوجستي متقدم، أو تأمين مناطق حيوية، بما يرجح كفة الجيش السوداني ويمنع سقوط الدولة، دون الانجرار الكامل داخل المستنقع الميداني".
وعن توقيت البيان والتحركات (
السعودية- الإرترية)، فيشيران بحسب رؤية الباحث المصري، إلى تشكّل "حائط صد إقليمي"، مبينا أن "لقاء البرهان بولي العهد السعودي، ثم الحراك السعودي الإريتري، يوضحان وجود تنسيق ثلاثي لمحاصرة أي نفوذ إقليمي آخر قد يستثمر في تفتيت السودان لتهديد أمن البحر الأحمر أو الضغط بملفات أخرى (كسد النهضة الإثيوبي)".
ويعتقد أن "إريتريا تمثل هنا (كماشة) استراتيجية من الشرق، والسعودية ثقل سياسي واقتصادي، ومصر قوة عسكرية؛ وهذا التناغم يهدف لقطع الطريق على سيناريوهات التقسيم المدعومة من أطراف خارجية".
اظهار أخبار متعلقة
الإمارات والسعودية ومصر
من جانبه، أشار الباحث السياسي عبدالمجيد الجمال، أهمية توقيت البيان المصري، "في ظل هجوم للدعم السريع عُد بين أهم ما نفذه منذ اندلاع الحرب، ووسط تزايد انكشاف تورط الإمارات؛ وعلو أصوات دولية لفرض عقوبات على أبوظبي، وسحبت بعض الشركات استثماراتها مع دبي".
وتابع بحديثه لـ"عربي21": "كما حمل لقاء بن سلمان مع دونالد ترامب بالبيت الأبيض الشهر الماضي، طلبا بفرض عقوبات على أبوظبي لما ترتكبه من جرائم بحق الأبرياء بالسودان، ما مثل خطوة تحول بعلاقات السعودية والإمارات بملف السودان، يضاف لما بينهما من اختلاف بالملف السوري، والصراع على النفوذ حول مصر".
لفت الجمال إلى أن "التصريحات المصرية حملت الخطوط الحمراء دون الوقوف على ذكر اسم الإمارات ببيانها وفي ديباجيات الإعلام المصري، مع أن مصر تدرك خطر إقامة دولة مستقلة على حدودها مع السودان، وأن هذا ما يريده الكيان وتشرف عليه الإمارات".
حدود دوري القاهرة والرياض
وحول مدى جدية مصر في التدخل العسكري بالسودان، يرى أنها "لن تدخل في ظل سياسات الحكم الراهن، لأن حرب ضد مليشيا الدعم السريع تعني حربا ضد الإمارات"، مستدركا: "لكن السعودية تستطيع الدخول بقوة أكبر من مصر كداعمة للجيش السوداني، وهناك مقاربة أخرى، وحسابات دقيقة، فالتحرك السعودي جاء بعد دعم إماراتي لامحدود للمجلس الانتقالي اليمني والسيطرة على حضرموت ومناطق بالجنوب".
وأشار إلى أن "خطر توسع الدعم السريع بالسودان يعني تهديد الشواطئ السعودية المقابلة للسوادن، في نقطة يجب على السعودية تداركها مبكرا، لأن الدعم لن يُسكن خطره داخليا بل قد يتمدد خارجيا إن لم يجد رادعا"، ملمحا إلى أنه بينما "الإمارات تحارب نفوذ السعودية بجنوب اليمن، تندفع الرياض لدعم الجيش السوداني ضد الدعم السريع".
وعن الدور المصري، يرى الجمال أنه "لا يمكنه التحرك ضد الإمارات على أرض الواقع، إلا إذا سُحب البساط من الامارات، ودائما ما تأتي الترجمات والتحركات المصرية متأخرة، ليس لعدم ترجمة الواقع، وإنما للضغوطات الخارجية الخليجية الإماراتية عليها؛ لذلك لا ننتظر تحرك مصري إلا بعد انتهاء الملف واقعيا".
وبشأن امتلاك السعودية أدوات تغيير المعادلة بالسودان، يعتقد الباحث المصري، أن "لديها الكثير من الأدوات، أقلها دعم الجيش السوداني بالمسيرات التركية، واستغلال ضجيج المنظمات الحقوقية التي دفعت حكومات أوربية مؤخرا بتصريحات رسمية ضد المجاز المدعومة إماراتيا بالسودان، وكذلك تسليط الإعلام، ليجتمع للرياض الشرعية الدولية في: الدعم، والسلاح، وحقوق الإنسان، والإعلام".
الجمال، يعتقد باحتمال أن "تجمع السعودية حولها العديد دول الشرق الأوسط بهذا الملف، إن كانت تسعى حقيقة لتغيير المعادلة؛ ولكن ثمة قراءة أخرى، تتساءل: ماذا لو هدأت تحركات الإمارات بجنوب اليمن؟، هل ستنسحب السعودية من مشهد السودان؟"، خاتما بقوله: "هذا وارد ولكن القراءة الأولى الأقرب للمشهد".
اظهار أخبار متعلقة
حزام الأزمات واللعبة الخطيرة
وفي تقديره، لأثر الأزمة السودانية على مصر، قال الباحث والكاتب السوداني، عباس محمد صالح: "سيتعين على مصر مواجهة (حزام أزمات) سيعمل على تطويقها، وسيكون عليها اتخاذ تدابير لحماية أمنها القومي، حينها ستكون تكلفتها أكبر لو اتخذت هذه التدابير بشكل وقائي واستباقي".
وأضاف: لـ"عربي21": "رغم الحديث الشائع عن مصر بأنها داعم وحليف للجيش السوداني غير أن الحقيقة لم يكن هناك موقف مصري ثابت ومستقل تجاه الصراع بالسودان أو بما يتجاوز المواقف الخطابية عن دعم مؤسسات الدولة السودانية ورفض تقسيم البلاد".
وأعرب عن أسفه من أنه "منذ صدور بيان الرباعية 12 آذار/ مارس الماضي، بدا أن موقف القاهرة بات يتماهى مع بعض أطراف الرباعية وممارسة ضغوط وتهديدات على القيادة السودانية للرضوخ للشروط غير العادلة الواردة في البيان وتعمد تجاهل تصورات الداخل السوداني تجاه أي مبادرة تسعى للحل".
ويرى أن "مخطط تفكيك دول وتدمير جيوشها لمصلحة أطراف معادية وإحلال مليشيات إجرامية محلها وتزيد هذه المجموعات بقدرات تفوق قدرات دول، كما يجري في السودان، لعبة خطيرة جدا ستكون مصر في مواجهة العواقب والتداعيات في المستقبل المنظور".
وتوقع ألا "تصبح هذه الكيانات الجديدة الناشئة دول مستقرة حتى مع توفر الموارد والدعم الخارجي لها، بل ستكون مجرد كيانات وظيفية مصممة لخدمة مصالح الدوائر الخارجية التي تنطلق من غرور القوة وليس من إدراك لتعقيدات هذه المناطق الإقليمية ومخاطر التلاعب بالجغرافية السياسية في هذه المناطق الهشة والمضطربة".