تجد
تركيا نفسها، مع اقتراب نهاية عام 2025، أمام معادلة أمنية وسياسية شديدة التعقيد، تتقاطع فيها تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية مع ملفات دفاعية عالقة منذ سنوات مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
فمن جهة، يتصاعد التوتر في البحر الأسود على نحو يهدد مباشرة المصالح التركية، سواء عبر استهداف سفن تجارية مملوكة لجهات تركية، أو اختراقات متكررة للمجال الجوي، أو سقوط طائرات مسيّرة مجهولة الهوية داخل الأراضي التركية.
ومن جهة أخرى، تعود إلى الواجهة بقوة قضية منظومة الدفاع الجوي الروسية "أس400"، التي باتت تشكل عقدة مركزية في علاقات أنقرة بكل من موسكو وواشنطن، وتحديا استراتيجيا في مساعيها للعودة إلى برنامج مقاتلات "
أف35".
في هذا السياق، تتكثف المؤشرات على إعادة تموضع تركية بشكل مختلف٬ تحاول من خلاله أنقرة حماية أمنها القومي في البحر الأسود دون الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع
روسيا، وفي الوقت ذاته فتح نافذة تفاهم مع الولايات المتحدة قد تفضي إلى تسوية تاريخية لملف "أس400"، مقابل رفع العقوبات واستعادة الشراكة الدفاعية مع الغرب.
البحر الأسود.. ساحة التوتر المتصاعد
أعلنت تركيا رسميا اتخاذ تدابير أحادية لحماية منشآتها ذات الأهمية الاستراتيجية في البحر الأسود، في رسالة واضحة مفادها أن أمنها القومي غير قابل للمساومة أو الانتظار. ويأتي ذلك بعد استهداف عدد من السفن التركية٬ واختراق طائرات مسيرة المجال الجوي مؤخرا.
أكد وزير الدفاع التركي، يشار غولر، أن أنقرة لن تستشير أحدا في ما يخص حماية منشآتها الحيوية السطحية وتحت المائية، مشددا على أن سفن الحفر التركية في البحر الأسود تمثل أصولا استراتيجية بالغة الحساسية.
وأوضح غولر، خلال لقاء مع ممثلي وسائل الإعلام التركية لتقييم أداء وزارة الدفاع في عام 2025، أن الطائرات المسيرة والمركبات البحرية غير المأهولة باتت تستخدم بكثافة من قبل طرفي الحرب الروسية الأوكرانية، ما خلق بيئة أمنية شديدة الخطورة، لا تهدد فقط السفن العسكرية، بل السفن التجارية والطائرات المدنية أيضا.
وأشار إلى أن القوات المسلحة التركية وضعت ونفذت إجراءات دفاعية ضد أي مسيّرات تخرج عن السيطرة أو تنحرف عن مسارها، وكذلك ضد التهديدات التي قد تأتي من تحت سطح البحر، في إشارة إلى تنامي المخاوف من عمليات تخريب أو استهداف للبنية التحتية البحرية.
إسقاط المسيّرات.. رسائل متعددة الاتجاهات
في 15 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، أسقطت مقاتلات تركية طائرة مسيّرة “مجهولة حتى الآن” بعد دخولها المجال الجوي التركي فوق البحر الأسود. ووفقا لوزير الدفاع، فقد كان من الصعب رصد الطائرة بسبب الظروف الجوية، إلا أن الطائرات التركية تمكنت من تتبعها بدقة، وإصابتها بصاروخ جو–جو في موقع آمن بعيدا عن المناطق السكنية.
وأكد غولر أن الطائرة دمرت بالكامل، وأن عمليات البحث عن الحطام لا تزال مستمرة، مع التعهد بإطلاع الرأي العام على النتائج فور الانتهاء من الفحص الفني. وتزامن ذلك مع إعلان وزارة الداخلية التركية الجمعة الماضي٬ عن تحطم طائرة مسيّرة أخرى في منطقة ريفية شمال غربي البلاد، يعتقد وفق النتائج الأولية أنها روسية الصنع من طراز “أورالان-10”، وتستخدم لأغراض الاستطلاع والمراقبة.
هذه الحوادث لم تعد تقرأ في أنقرة باعتبارها وقائع منفصلة، بل كمؤشرات على تصعيد خطير يهدد بتحويل البحر الأسود إلى ساحة مواجهة مفتوحة، وهو ما حذر منه الرئيس رجب طيب أردوغان صراحة، داعيا إلى عدم السماح بانزلاق المنطقة إلى صدام عسكري شامل.
السفن التركية في مرمى النيران
لم يقتصر التصعيد على المجالين الجوي والبحري، بل طال السفن التجارية التركية بشكل مباشر. فقد تعرضت سفينة تركية لأضرار جراء غارة جوية روسية قرب ميناء أوديسا الأوكراني، بعد ساعات فقط من لقاء بين أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة في تركمانستان.
كما لحقت أضرار بثلاث سفن شحن مملوكة لجهات تركية جراء هجمات روسية على موانئ أوكرانية، في أعقاب تهديد موسكو بعزل أوكرانيا عن البحر. وفي المقابل، شهدت الأسابيع الماضية هجمات أوكرانية بمسيّرات على ناقلات نفط مرتبطة بروسيا، بعضها كان يبحر في المياه الإقليمية التركية.
وأثارت هذه التطورات غضب أنقرة، التي استدعت مبعوثين من روسيا وأوكرانيا للتعبير عن قلقها من تهديد الملاحة والحياة البحرية والسلامة البيئية، لا سيما في المنطقة الاقتصادية الخالصة لتركيا.
اظهار أخبار متعلقة
أنقرة بين موسكو وكييف.. توازن دقيق
رغم التصعيد، يستبعد مراقبون أن تؤدي هذه التطورات إلى قطيعة تركية مع موسكو أو كييف. ويشيرون إلى أن العلاقات التركية الروسية مرت باختبارات أشد قسوة، أبرزها إسقاط طائرة عسكرية روسية اخترقت المجال الجوي التركي قرب الحدود السورية عام 2015، وتمكنت الدولتان من تجاوز الأزمة واستعادة التعاون السياسي والاقتصادي.
ولا تزال تركيا تلعب دور الوسيط، بعد أن استضافت ثلاث جولات تفاوضية بين روسيا وأوكرانيا في إسطنبول، وإن لم تسفر عن اختراقات كبيرة سوى تبادل الأسرى. وتتمسك أنقرة بخيار السلام الدائم باعتباره الضمان الوحيد لأمن البحر الأسود.
ملف "أس400" يعود إلى الواجهة
بالتوازي مع التوتر في البحر الأسود، فجر تقرير لوكالة “
بلومبرغ” ملف منظومة "أس400" الروسية من جديد، كاشفا أن أنقرة تدرس التخلي عنها في إطار مساع لتحسين العلاقات مع واشنطن ورفع العقوبات المفروضة على قطاع الصناعات الدفاعية.
ووفق التقرير، ناقش الرئيس أردوغان هذا الملف مباشرة مع بوتين خلال لقائهما في 13 كانون الأول/ديسمبر الجاري في تركمانستان، بعد سلسلة مشاورات غير معلنة. وتدرس أنقرة عدة سيناريوهات، من بينها إعادة المنظومة إلى روسيا، أو بيعها لدولة أخرى بموافقة روسيا.
بحسب بلومبرغ، فإن الهدف الأساسي من هذه الخطوة، هو تمهيد الطريق أمام عودة تركيا إلى برنامج مقاتلات "أف35"، الذي أقصيت منه عام 2019 بسبب إصرارها على إتمام صفقة "أس400".
موقف موسكو.. براغماتية باردة
سارع الكرملين في موسكو، إلى التقليل من أهمية التقارير، مؤكدا أن إعادة منظومة "أس400" إذا حدث٬ لن تؤثر على العلاقات الروسية التركية.
شدد المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف على أن هذا الملف لم يكن مطروحا على طاولة المباحثات الأخيرة بين بوتين وأردوغان.
ويرى محللون روس أن المنظومة حققت بالفعل أهدافها الاستراتيجية، إذ كانت أول منظومة دفاع جوي روسية تباع لدولة عضو في الناتو، ما شكل اختراقا سياسيا ودعائيا وعسكريا بالغ الأهمية لموسكو، بغض النظر عن مصيرها الحالي.
اظهار أخبار متعلقة
واشنطن تفتح الباب المشروط
ومن الجانب الأمريكي، أكد سفير الولايات المتحدة لدى تركيا توماس براك أن واشنطن تجري محادثات مستمرة مع أنقرة بشأن العودة إلى برنامج "أف35"، لكنه شدد في الوقت نفسه على أن القانون الأمريكي لا يسمح بتشغيل أو حيازة منظومة "أس400" بالتوازي مع هذا البرنامج.
وأشار براك إلى أن العلاقة الشخصية بين ترامب وأردوغان وفرت أجواء جديدة للتعاون، ما أدى إلى “أكثر المحادثات جدوى منذ قرابة عشر سنوات”، في إشارة إلى احتمال التوصل إلى تسوية تاريخية.
اشترت تركيا منظومة "أس400" بين عامي 2017 و2019 مقابل نحو 2.5 مليار دولار، إلا أن محللين يؤكدون أن الدفعة الأولى فقط هي التي تم تسلمها فعليا، بتكلفة تقارب 1.25 مليار دولار.
ويرى محلل السياسة الخارجية التركية أيدين سيزر٬ في تصريح لصحيفة “
جمهوريات” التركية٬ أن إعادة المنظومة – إن قرر أردوغان ذلك – لن تشكل عبئا ماليا كبيرا، مقارنة بحجم التبادل التجاري في قطاع الطاقة مع روسيا، الذي يتراوح بين 15 و20 مليار دولار سنويا.
تحول استراتيجي أم تراجع سياسي؟
لكن سيزر حذر في الوقت نفسه من أن التخلي عن "أس400" قد يفسر داخليا كتحول جذري وتراجع كبير في سياسة أردوغان الخارجية، لا سيما بعد استثمار سياسي وإعلامي طويل في الصفقة بوصفها رمزا للاستقلالية الاستراتيجية عن الغرب.
ويشير إلى أن المنظومة لم تستخدم عمليا قط، وأن الهدف الحقيقي من شرائها لم يكن حماية المجال الجوي التركي، بل حماية منشآت سيادية محددة، على رأسها القصر الرئاسي.
بين تصاعد التوتر في البحر الأسود، وضغوط واشنطن، وبراغماتية موسكو، تقف تركيا عند مفترق طرق استراتيجي. فإما أن تنجح في هندسة تسوية متوازنة تنهي عقدة "أس400" وتفتح صفحة جديدة مع الولايات المتحدة دون خسارة روسيا، أو أن تجد نفسها أمام اختبار صعب يعيد رسم ملامح سياستها الدفاعية وتحالفاتها الإقليمية.