لم يعد الحديث عن الحرب في
أوروبا مجرد استحضار لصور الماضي أو سيناريوهات نظرية تتداولها مراكز الأبحاث. فمع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، واتساع رقعتها السياسية والعسكرية، تجد الدول الأوروبية نفسها أمام واقع جديد يفرض إعادة النظر في أولوياتها الأمنية والدفاعية.
وفي قلب هذا التحول، تعود قضية
التجنيد الإجباري إلى الواجهة، بعد سنوات طويلة من إلغائه أو تجميده لصالح الجيوش المهنية.
هذا التحول يعكس إدراكا متزايدا بأن منظومة الأمن الأوروبي التي تشكلت بعد الحرب الباردة لم تعد قادرة على التعامل مع التهديدات الحالية، وأن الاعتماد شبه الكامل على الولايات المتحدة لم يعد مضمونا في ظل التحولات السياسية داخل واشنطن نفسها.
التهديد الروسي.. من حرب إقليمية إلى معضلة أوروبية
ترى غالبية العواصم الأوروبية أن الحرب في أوكرانيا لم تعد نزاعا محليا، بل تحولت إلى اختبار شامل للنظام الأمني في القارة. فروسيا، بحسب التقديرات الغربية، لم تكتف باستخدام القوة العسكرية التقليدية، بل وسعت أدواتها لتشمل الهجمات السيبرانية، والحرب النفسية، والتخريب غير المباشر للبنى التحتية الحيوية.
وتحذر تقارير استخباراتية من أن موسكو تعتمد سياسة استنزاف طويلة الأمد، تهدف إلى إضعاف خصومها سياسيا واقتصاديا، وقياس حدود ردود أفعالهم العسكرية، وهو ما يجعل الاستعداد المسبق ضرورة لا خيارا.
انهيار افتراضات ما بعد الحرب الباردة
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ساد اعتقاد واسع في أوروبا بأن التهديد العسكري التقليدي قد انتهى، وأن القارة دخلت عصرا جديدا من السلام الدائم. هذا الاعتقاد دفع دولا عديدة إلى تقليص جيوشها، وإلغاء
الخدمة العسكرية الإلزامية، وخفض الإنفاق الدفاعي إلى مستويات غير مسبوقة.
غير أن التطورات الأخيرة كشفت هشاشة هذه الافتراضات. فالحرب في أوكرانيا أعادت الاعتبار لمفاهيم القوة الصلبة، وأظهرت أن الجيوش الصغيرة عالية التقنية لا تكفي وحدها في نزاعات طويلة الأمد تحتاج إلى عمق بشري واسع.
تعاني الجيوش الأوروبية من نقص حاد في الأفراد، نتيجة سنوات من الاعتماد على
التجنيد الطوعي، وتراجع جاذبية الخدمة العسكرية بين فئات الشباب. كما أن التحولات الاجتماعية، وتغير أولويات الأجيال الجديدة، أسهمت في إضعاف العلاقة بين المجتمع والمؤسسة العسكرية.
وتشير تقديرات عسكرية إلى أن بعض الدول الأوروبية لن تكون قادرة على الحفاظ على جاهزية قواتها الحالية خلال السنوات المقبلة، ما لم تتخذ إجراءات جذرية لتعويض النقص البشري.
اظهار أخبار متعلقة
العامل الديمغرافي.. شيخوخة القارة
يتزامن هذا النقص مع أزمة ديمغرافية حادة، إذ تعد أوروبا من أكثر القارات شيخوخة في العالم. فمعدلات الولادة المنخفضة، وارتفاع متوسط الأعمار، يقللان من قاعدة الشباب القادرين على الالتحاق بالخدمة العسكرية. وفق
الإحصاءات الأوروبية.
ويزيد هذا الواقع من تعقيد النقاش حول التجنيد الإجباري، إذ تخشى الحكومات من أن يؤدي سحب الشباب من سوق العمل إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية.
الضغط الأمريكي وتغير الأولويات
لعبت الولايات المتحدة دور الضامن الأساسي للأمن الأوروبي لعقود، لكن هذا الدور بات محل تساؤل متزايد. فقد عبر مسؤولون أمريكيون، في أكثر من مناسبة، عن استيائهم من اعتماد أوروبا على المظلة الأمنية الأمريكية، مطالبين الحلفاء بتحمل مسؤوليات أكبر.
وفي ظل احتمال تراجع الالتزام الأمريكي مستقبلا، باتت أوروبا مضطرة لإعادة بناء قدراتها الدفاعية الذاتية، بما في ذلك توسيع قواعد التجنيد.
كرواتيا.. عودة الإلزام بعد غياب طويل
في خطوة عكست حجم التحول في التفكير الأمني، أعادت كرواتيا فرض الخدمة العسكرية الإلزامية بعد توقف دام 17 عاما. ويهدف النظام الجديد إلى تدريب آلاف الشبان سنويا، ورفد الجيش بقوة احتياط قادرة على الاستجابة السريعة.
وتؤكد الحكومة الكرواتية أن القرار جاء نتيجة تقييم شامل للتهديدات الإقليمية، وليس مجرد استجابة ظرفية.
ألمانيا.. بين التاريخ والحاجة الأمنية
يعد النقاش حول التجنيد الإجباري في ألمانيا من أكثر القضايا حساسية، نظرا للإرث التاريخي المرتبط بالعسكرة. ورغم إدراك برلين لحجم التحديات الأمنية، فإنها لا تزال مترددة في العودة إلى الإلزام الكامل.
واعتمدت الحكومة نموذجا مرحليا يركز على توسيع التجنيد الطوعي، وتحسين ظروف الخدمة، مع إبقاء خيار الإلزام مطروحا كملاذ أخير.
الدنمارك.. خطوة رمزية ومجتمعية
قرار الدنمارك فرض الخدمة العسكرية على النساء شكل تحولا لافتا في السياسة الدفاعية والاجتماعية. فالخطوة لا تهدف فقط إلى سد النقص العددي، بل تحمل رسالة مفادها أن الدفاع عن الوطن مسؤولية مشتركة لا تمييز فيها بين الجنسين.
ويرى محللون أن هذا القرار قد يشكل نموذجا لدول أوروبية أخرى تواجه التحديات نفسها.
بولندا.. الردع بالقوة العددية
تتبنى بولندا الدولة الجارة لأوكرانيا مقاربة أكثر تشددا، تقوم على بناء جيش ضخم قادر على الردع والمواجهة. فقد أطلقت وارسو برامج واسعة لتوسيع الجيش، وتعزيز الاحتياط، وتدريب المدنيين على التعامل مع حالات الطوارئ.
ويعكس هذا التوجه قناعة راسخة بأن الجغرافيا السياسية لبولندا تفرض عليها الاستعداد لأسوأ السيناريوهات.
اظهار أخبار متعلقة
فرنسا.. خدمة وطنية بدل الإلزام
في فرنسا، اختارت الحكومة عدم العودة إلى التجنيد الإجباري التقليدي، مفضلة برامج خدمة وطنية تطوعية. ويهدف هذا النموذج إلى تعزيز الروح الوطنية، وربط الشباب بمفهوم الدفاع، دون فرض التزامات قسرية.
لكن منتقدي هذا الخيار يرون أنه غير كاف في حال اندلاع نزاع واسع النطاق.
دول البلطيق.. الأمن كقضية وجودية
بالنسبة لدول البلطيق، لا يعد التجنيد الإجباري خيارا سياسيا، بل ضرورة وجودية. فالقرب الجغرافي من
روسيا، والتجارب التاريخية المؤلمة، جعلا من الجاهزية العسكرية أولوية قصوى.
وتحرص هذه الدول على دمج المجتمع بأكمله في منظومة الدفاع، من خلال التدريب الإلزامي، وبرامج التوعية المدنية.
السويد وفنلندا.. نموذج الدفاع الشامل
تعتمد فنلندا نموذج “الدفاع الشامل”، الذي يقوم على إشراك جميع قطاعات المجتمع في جهود الدفاع الوطني. أما السويد، فقد أعادت العمل بالتجنيد الإجباري بعد سنوات من إلغائه، في إطار مراجعة شاملة لعقيدتها الدفاعية.
وينظر إلى هذين النموذجين باعتبارهما من أكثر النماذج الأوروبية توازنا بين الأمن والمجتمع.
الكلفة الاقتصادية للتجنيد
يثير التجنيد الإجباري مخاوف اقتصادية حقيقية، إذ يحذر خبراء من تأثيره على الإنتاجية وسوق العمل. فإخراج أعداد كبيرة من الشباب من الدورة الاقتصادية قد يفاقم أزمات تعاني منها القارة أصلا نتيجة انخفاض عدد السكان.
غير أن مؤيدي التجنيد يرون أن كلفة عدم الاستعداد قد تكون أعلى بكثير من أي خسائر اقتصادية قصيرة الأمد.
الجدل المجتمعي والانقسام السياسي
لا يحظى التجنيد الإجباري بإجماع شعبي في معظم الدول الأوروبية. ففئات واسعة من الشباب ترى فيه انتكاسة للحريات الفردية، فيما تخشى أحزاب سياسية من تداعياته الانتخابية.
في المقابل، تعتبر النخب الأمنية أن الأمن القومي لا يمكن إخضاعه لحسابات شعبوية قصيرة الأجل.
وتقف أوروبا أمام مفترق طرق تاريخي، تعيد فيه تعريف مفهوم الأمن، ودور المواطن، وحدود الاعتماد على الحلفاء. وبينما تختلف المقاربات من دولة إلى أخرى، يبدو أن القاسم المشترك هو إدراك متزايد بأن زمن الاطمئنان قد انتهى، وأن الاستعداد للأسوأ أصبح جزءًا من الواقع الأوروبي الجديد.