بمناسبة
حلول الذكرى الثالثة عشرة لرحيل الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله، تعود سيرته
المليئة بالدروس والعبر لتفرض ذاتها من جديد، باعتبارها محطة مساءلة عميقة لزمن
سياسي وأخلاقي ما زال يعيد إنتاج الأسئلة نفسها التي واجهها الرجل بشجاعة وقوة
ووضوح، إنها ذكرى لا تُستدعى للتأبين فقط، بل للتذكير بمعنى الالتزام حين يصبح
الصمت سياسة، وبقيمة الكلمة حين تتحول الحقيقة إلى عبء ثقيل، وبموقع الإنسان حين
يختار أن يكون شاهدا لا تابعا، وبموقف مسؤول لا برقم في سرديات السلطة والنسيان.
ليس من السهل استحضار عبد السلام ياسين دون
أن يُستحضر معه سؤال المعنى في زمن الانكسار، وسؤال الالتزام في زمن التواطؤ،
وسؤال الجرأة الأخلاقية في زمن الصمت العام، فاستدعاؤه اليوم ليس استدعاء لرجل من
الماضي، بل استحضار لمعيار حي لا زال يفضح الحاضر، ويحرج الخطاب السائد بالأسئلة
المصيرية الحارقة، ويقيس المسافة بين ما يُقال وما يجب أن يُفعل، رجل لن يُقاس
حضوره من خلال ما راكمه من مواقع أو اعترافات رسمية فقط، بل من خلال ما خلخل من
يقين زائف، وبما أزعج من بنى سلطوية، وبما أبقاه من أسئلة مفتوحة في وجه الرداءة
السياسية.
إن وصف "الأستاذ عبد السلام ياسين..
رجل
فلسطيني بدم مغربي" ليس شحنة بلاغية ولا استعارة انفعالية، بل تحديد
تأويلي لموقع الرجل في التاريخ؛ ففلسطين ليست جغرافيا مستعارة، بل اسم الحقيقة
العارية في عالم مختل الموازين؛ ومحك أخلاقي يختبر صدقية الخطاب، ومرآة كاشفة
لتواطؤ الاستبداد المحلي مع منظومات الهيمنة العالمية، فأن يكون ياسين
"فلسطينيا" لا يعني انتماء قوميا، بل اختيارا واعيا للوقوف من موقع
الجرح المفتوح للأمة، لا من هامش التعاطف الموسمي، ولا من حسابات السياسة الباردة.
ليس من السهل استحضار عبد السلام ياسين دون أن يُستحضر معه سؤال المعنى في زمن الانكسار، وسؤال الالتزام في زمن التواطؤ، وسؤال الجرأة الأخلاقية في زمن الصمت العام، فاستدعاؤه اليوم ليس استدعاء لرجل من الماضي، بل استحضار لمعيار حي لا زال يفضح الحاضر، ويحرج الخطاب السائد بالأسئلة المصيرية الحارقة، ويقيس المسافة بين ما يُقال وما يجب أن يُفعل، رجل لن يُقاس حضوره من خلال ما راكمه من مواقع أو اعترافات رسمية فقط، بل من خلال ما خلخل من يقين زائف، وبما أزعج من بنى سلطوية، وبما أبقاه من أسئلة مفتوحة في وجه الرداءة السياسية.
أما "الدم
المغربي" فليس كنية عن
أصل فقط، بل سياق معاناة وتكوُّن، دم تشكل في تجربة مغربية مثقلة بالاستبداد،
مجبولة بالصبر الطويل، وبالتدين الأصيل العميق، وبالاصطدام المباشر مع السلطة منذ
رسالة "الإسلام أو الطوفان" سنة 1974، من هذا الدم خرج وعي لا يقبل
التسوية مع الظلم، ولا يختزل التغيير في التكيف، ولا يفصل بين الأخلاق والسياسة،
ولا بين الداخل والخارج.
لقد كان عبد السلام ياسين رجل طوفان لا لأنه
هدد به، بل لأنه فضح زيف الشرعية حين تنفصل عن العدل، وكشف وطنية بلا قضية، ودينا
بلا موقف، وسياسة بلا أخلاق. جمع في مساره بين خصال نادرة، صلابة في الموقف، وهدوء
في النفس، وطول النَّفَس والصبر، ووضوح البوصلة.
فلم يكن فاعلا مغربيا متضامنا مع فلسطين
فقط، بل فاعلا فلسطيني المعنى، مغربي الجذر، كوني الأفق، جعل من الالتزام قدرا،
ومن الصدع بالحق ضد الاستبداد طريقا، ومن فلسطين اسما لكل المظلومين.
فهذه الكلمات ليست عن رجل راحل، بل عن مسار
لم يُغلق، وعن سؤال لم يُجب عنه بعد:
ماذا يعني أن تكون من هذا البلد، وأن تختار
فلسطين موقعك الأخلاقي في العالم؟
مغربي بالانتماء .. فلسطيني بالمعنى
ينتمي الأستاذ عبد السلام ياسين وطنيا
وثقافيا إلى المغرب، انتماء لا لبس فيه ولا ادعاء، انتماء تشكل في لغة الأرض، وفي
تاريخ الصراع مع المخزن، وفي معاناة المجتمع، وفي اصطدام طويل النفس مع الاستبداد
المحلي، غير أن هذا الانتماء لم يتحول عنده إلى قيد ذهني، ولا إلى وطنية منكمشة
تكتفي بتقديس الجغرافيا وتنسى الإنسان، بل كان قاعدة انطلاق نحو أفق أوسع، يرفض
الفصل المصطنع بين "الداخل" و"الخارج"، وبين ما يُسمّى شأنا
وطنيا وما يُدرج قسرا ضمن القضايا الخارجية.
لا تحضر القضية الفلسطينية في مشروع الأستاذ
عبد السلام ياسين باعتبارها ملفا دبلوماسيا، ولا قضية تضامن ظرفي تُستدعى في مواسم
الخطابة، بل هي صراع عقدي وساحة مواجهة حاسمة، وفي الآن ذاته هي تعبير مكثف عن
اختلال ميزان العدالة في العالم، ونقطة تكثيف قصوى تكشف البنية العميقة للنظام
الدولي، حيث تتشابك الهيمنة الإمبريالية مع الاستبداد المحلي في علاقة تبادل مصالح
وتواطؤ صامت، ففلسطين ليست خارج التاريخ المغربي، بل في قلبه؛ لأنها المرآة التي
تنعكس فيها حقيقة السيادة الزائفة، وحدود الاستقلال الشكلي، وأوهام الإصلاح المنفصل
عن مواجهة الظلم.
أن يكون عبد السلام ياسين "فلسطينيا
بالمعنى" يعني أنه اختار موقعه الأخلاقي من موضع الجرح المفتوح للأمة، لا من
مواقع الحياد البارد ولا من حسابات الممكن السياسي المُدجَّن، فلسطين عنده ليست
رمزا تعبويا، بل معيارا كاشفا لُقياس صدق الخطابات الإصلاحية، واختبار لمنسوب
الجرأة الأخلاقية، وفضح للحدود التي يصل إليها الفعل السياسي حين ينفصل عن القيم.
فمن لا يرى فلسطين، لا يرى الاستبداد كاملا؛ ومن يساوم على فلسطين، يهيئ أرضية
المساومة على كرامة الإنسان في الداخل.
إن الالتزام بفلسطين امتداد طبيعي للالتزام
بتغيير الداخل، لا نقيضا له ولا انزياحا عنه، فمقاومة الاستبداد في المغرب عند
الأستاذ ياسين لا يكتمل دون وعي ببنيته العالمية، ولا تستقيم دون ربطها بقضايا
التحرر الكبرى، وفي مقدمتها فلسطين. لذلك فالرجل لم يكن مغربيا أولا ثم فلسطينيا
لاحقا، بل كان مغربي الانتماء، فلسطيني المعنى، كوني الأفق؛ ينظر إلى الوطن من
خلال الإنسان، وإلى السياسة من خلال الأخلاق، وإلى الإصلاح من خلال موقعه في معركة
العدالة الكونية.
في هذا التداخل بين المحلي والكوني، وبين
الانتماء والمعنى، تتكشف إحدى أعمق خصائص مشروع عبد السلام ياسين التي ترتكز على
تحرير الوطنية من الانغلاق، وتحرير القضية الفلسطينية من الاختزال العاطفي،
وجمعهما في أفق واحد يرى أن الظلم واحد وإن اختلفت ساحاته، وأن الصمت عليه في أي
مكان هو تمهيد لإعادة إنتاجه في كل مكان.
رجل الطوفان بامتياز
لم يكن عبد السلام ياسين رجل الطوفان لأنه
أكثر استعمالا للمفهوم ولا لأنه من أوائل المستعملين له فقط، بل لأنه أدرك معناها
التاريخي قبل أن يقع، فلم يكن يرى في الطوفان حدثا طارئا ولا استعارة خطابية، بل
يعتبره سنة من سنن الله في الاجتماع البشري، فالطوفان ليس خيارا أخلاقيا ولا
تهديدا سياسيا، بل حتمية تاريخية حين يبلغ الاستكبار ذروة عتوه وعلوه، وحين يتحول
الظلم من انحراف عارض إلى بنية قائمة، ومن خطأ قابل للتغيير إلى نظام يعيد إنتاج
نفسه بالعنف والهيمنة.
لهذا كتب بوضوح لا لبس فيه سنة 1996 في كتاب
"الشورى والديموقراطية": "الطوفان حتمية تاريخية، الطوفان سنةُ
الله تجرف الاستكبارَ، عندما يعتدي الاستكبار ويتعدّى وتأخذه العزة بالإثم"،
بهذه العبارات كان يفكك وهم الاستقرار الزائف، ويهدم أسطورة الاستمرار الهادئ
للأنظمة الظالمة، ويضع السياسة داخل منطق السنن الإلهية لا داخل حسابات التوازنات
المؤقتة. فالاستكبار، حين يبلغ حدّ الاكتفاء بذاته، وحين ينفصل عن كل قيمة رادعة،
لا يُصلَح من داخله، بل تجرفه السنن كما يجرف السيل ما أمامه.
ولذلك لم يكن الطوفان عنده رحمه الله وعدا
بالخلاص السريع، بل إنذارا تاريخيا قاسيا، فقد كان يدرك أن ما بعد الطوفان ليس
لحظة رومانسية، ولا زمن إسعافات أولية، بل مرحلة جراح عميقة لا تعالجها المسكنات،
يقول في واحدة من أكثر عباراته صدقا وتبصرا: "...ما يتوقعه عقلاء ما قبل
الطوفان لما بعد الطوفان هي أقسى من أن تفيد في علاجها صيدليات المستعجلات ومراهم
الطلاءات"، في هاته اللحظة يسقط خطاب التجميل السياسي، ويُفضَح وهم الإصلاح
السطحي، وتُدان عقلية "الترقيع" التي تعتقد أن الأزمات البنيوية تُحل
بخطابات تقنية أو تنازلات جزئية.
لكن الطوفان عنده لم يكن عبثا تاريخيا، ولا
فوضى بلا معنى، بل فعلا إلهيا محكوما بعدالة الغاية، لذلك ختم منطقه بحقيقة مركزية
لا تقبل التأويل الانتهازي: "إنه الله ناصر دينه! فهل تفهمون أنه الإسلام أو
الطوفان؟".
الطوفان صياغة عقدية ـ تاريخية تقول؛ إن
الصراع في جوهره ليس بين أشخاص أو أنظمة فقط، بل بين منطق الاستكبار ومطلب التحرر
من عقلية الاستضعاف، بين من يُصِرّ على الإثم ومن يستجيب للإنذار.
إن الأستاذ عبد السلام ياسين رجل الطوفان
بامتياز، لا لأنه دعا إليه، بل لأنه قرأ شروطه قبل أن تتكامل، ولا لأنه بشّر
بالهدم، بل لأنه فضح أسباب الانهيار، ولا لأنه استعجل النهاية، بل لأنه رفض أن
يشارك في كذبة الاستمرار.
لقد كان الطوفان في فكره اسم الحقيقة
الصادقة حين تقمع طويلا، واسم العدالة حين تُؤجَّل أكثر مما ينبغي، واسم السنن حين
تُهمل لصالح أوهام السياسة القصيرة النفس، ولهذا بقي خطابه مزعجا، لأنه لا يعد
بمهادنة مع الظلم، ولا يقترح طريقا ثالثا بين الحق والاستكبار، بل يضع العالم أمام
معادلته الصارمة: إما العدل أو الطوفان.
فلسطين معيار أخلاقي ـ سياسي
تحتل قضية فلسطين في خطاب الأستاذ عبد
السلام ياسين موقع "المعيار" لا موقع "الرمز"، ومكان الميزان
لا وظيفة الشعار، فهي ليست قضية وجدانية تُستدعى في لحظات التعبئة السياسية، ولا
ورقة أخلاقية للاستهلاك السياسي، بل أداة تحليلية كاشفة تُقاس بها صدقية المشاريع
السياسية والدعوية، ويُختبر عبرها عمق الالتزام أو سطحية الخطاب، ففلسطين عنده
ليست خطابا عن المظلوم، بل موقعا للاصطفاف مع المظلوم، ولا معنى للخطاب ما لم
يتحول إلى موقف.
فموقفه رحمه الله من فلسطين يكشف عن عمق
مشروعه التغييري وجذريته، فحين ينفصل الخطاب الإصلاحي عن مقاومة الظلم يصير عاريا
عن كل قيمة أخلاقية، وكلما حاول القفز على جوهر الصراع والاكتفاء بإدارته لغويا أو
أخلاقيا يصير مفضوحا ممجوجا، ففلسطين في وعي الأستاذ ياسين، تفضح عقلية الإصلاح
بشجاعة وقوة وحزم، وتعري السياسة المتحركة بدون قيم وأخلاق، وتكشف الدين المختزل
في الوعظ المفصول عن العدل، فهي المرآة العاكسة حجم الجرأة ومقدار التواطؤ، ومِحك
مميز بين من يتحدث باسم القيم ومن يدفع كلفتها.
تظهر فلسطين بوصفها معيارا كاشفا عن هشاشة
الشعارات السيادية التي تتعايش مع التبعية، وتفضح أوهام الاستقلال التي لا تُترجم
إلى
مواقف صلبة من منظومات الهيمنة والاستكبار، فالدولة التي ترفع راية السيادة
وتصمت عن قضية فلسطين، تعلن حدود سيادتها الفعلية، وتفضح تصدّع بنيتها الأخلاقية
قبل السياسية، لأنها اسم الحقيقة التي لا يمكن الالتفاف عليها دون السقوط في
التناقض.
إن فلسطين اختبار أخلاقي للفعل السياسي،
ومعيار صارم لتمييز التغيير الجذري عن الإصلاح الظرفي، فهي ليست قضية
"خارجية"، بل قضية داخلية بامتياز، تكشف ما إذا كان التغيير يستهدف
البنية العميقة للظلم أم يكتفي بإدارته بأدوات أقل خشونة وأكثر تزيينا، فالقضية
الفلسطينية عنوان التضامن، و حد فاصل بين طريقين: طريق العدل مهما كلف، وطريق
الاستقرار الزائف مهما بلغ ثمنه الأخلاقي.
نقد الصهيونية في أفقها الكوني
لم يقتصر الأستاذ ياسين في تحليله للصهيونية
في بعدها المحلي أو الاستيطاني فحسب، بل نظر إليها ضمن منظومة أوسع من السيطرة
والهيمنة، تشمل أبعادا رمزية، مادية، وثقافية، تمتد عبر الدول والقارات، فهي ليست احتلالا للأرض فحسب، بل تجل مكثف
لمنطق القوة المجردة من القيم الإنسانية، مدعومة بشبكات سياسية واقتصادية وثقافية
متشابكة، تجعل من الظلم حالة منظمة، ومن التوسع أفقا مستمرا لا يقتصر على حدود
جغرافية ضيقة، كما يفضح مطمح الصهيونية العالمية الساعي إلى احتلال العالم احتلالا
معنويا، وحُكمه وإملاء الإرادة الصهيونية عليه، وكما يعتبر منبع الصهيونية هو ذلك
الشعور المكبوت بالانتماء، والصمود التاريخي، والحنين الدائم إلى العودة لأرض
الميعاد.
لا تحضر القضية الفلسطينية في مشروع الأستاذ عبد السلام ياسين باعتبارها ملفا دبلوماسيا، ولا قضية تضامن ظرفي تُستدعى في مواسم الخطابة، بل هي صراع عقدي وساحة مواجهة حاسمة، وفي الآن ذاته هي تعبير مكثف عن اختلال ميزان العدالة في العالم، ونقطة تكثيف قصوى تكشف البنية العميقة للنظام الدولي،
فالصهيونية في وعيه ليست محصورة في أطماع
سياسية، بل هي نقلة نوعية من ذهنية اليهودي الخامل في بلاد الشتات، المتجمع حول
الأحبار وأسفارهم، الحالم بنزول المسيح ، كما أن الصهيونية تحمل في طياتها وقود
العصبيات، وتنفخ فيها، وتمكر بالإسلام والمسلمين عن طريق القومية، مما يجعلها قوة
أيديولوجية متجذرة، قادرة على استثمار الانقسامات، وعلى إعادة إنتاج الهيمنة
الرمزية والمادية على نطاق عالمي.
إن هذا الفهم العميق يتيح للأستاذ عبد
السلام ياسين أن يربط القضية الفلسطينية بأسئلة العدالة الكونية وقضاياها، ويجعل
من المقاومة مشروعا لا يتوقف عند حدود الوطن، بل يمتد إلى كل موقع يتقاطع فيه
الظلم مع السلطة والهيمنة، فقد لاحظ منذ سنة 1948 أن الصهيونية مزروعة في كل دول
المعمور الآمنة، وأن تحالف الاستكبار العالمي بكل أقطابه، هم في الأصل وجه واحد،
مجتمِع في مشروع الهيمنة، لهذا فالصهيونية ليست طرفا محليا للصراع فقط، بل ظاهرة
تكشف بنية الاستبداد والهيمنة العالمية، وتضع الإنسان والمجتمعات أمام أسئلة
أخلاقية وممارسة سياسية تتجاوز إدارة الأزمة، لتصل إلى جوهر العدالة والحرية، حيث
يصبح الصراع حول فلسطين اختبارا صارما لمصداقية الالتزام الأخلاقي والسياسي،
ومقياسا لحقيقة القوى العالمية وتواطؤها مع الاستبداد المحلي.
إعادة بناء ثقافة سياسية مقاومة
يندرج حضور فلسطين في مشروع عبد السلام
ياسين ضمن رهانه الأوسع رحمه الله، على إعادة بناء الثقافة السياسية في المجتمعات
العربية والإسلامية، فالقضية بكل ما تحمله من كثافة رمزية وتاريخية، فهي تُستدعَى
أداة تفكيكي منهجي لمنطق الخضوع والتواطؤ، ووسيلة لمساءلة ثقافة الصمت والتطبيع مع
الظلم محليا وعالميا، لأنها تُسهم في إنتاج وعي سياسي مركب، يربط بين التحرر
الوطني والتحرر الإنساني، وبين التغيير الأخلاقي والفعل السياسي المنظم.
فالالتزام بفلسطين مدخل لإعادة بناء الثقافة
السياسية نفسها، ثقافة لا تكتفي بالوعي النظري، بل تتحول إلى ممارسة مستمرة
لمواجهة الاستبداد، وفهم التاريخ، وتحريك الفعل من موقع الأخلاق الانسانية
والعدالة الكونية.
كلمة ختامية
لقد كان الأستاذ عبد السلام ياسين يسكنه هم
فلسطين وهم المستضعفين في كل مكان، رجل جعل من الالتزام معيارا، ومن الموقف
الأخلاقي طريقا، ومن الفعل السياسي أداة للعدالة والحرية.
هي دعوة مفتوحة لقراءة مشروعه، والنهل من
عمق فكره، والاقتداء بمثاله في زمن يفتقد الجرأة على السؤال، ويغرق فيه العالم في
صمت الذل أمام الظلم، زمن يطالب كل إنسان بأن يختار الموقف قبل الحساب التاريخي،
والحق قبل المصلحة، والعدالة قبل التواطؤ، زمن تتصدر فيه القيم على كل حسابات
السلطة والمصلحة الضيقة.