يستغل
الاحتلال الإسرائيلي علم الآثار كأداة سياسية لتعزيز روايته التاريخية وكسب دعم اليمين الأمريكي، عبر مشاريع مثيرة للجدل في شرق القدس على حساب الفلسطينيين، في وقت وُجهت فيه انتقادات حادة لتدمير مواقع أثرية في قطاع
غزة وطمس التنوع التاريخي للمنطقة لصالح رواية أحادية الهوية.
ونشرت صحيفة "
الغارديان" تقريرا أعده جوليان بورغر، تحت عنوان "رؤية النفق"، قال فيه إن "إسرائيل" تستخدم علم الآثار للحصول على دعم الولايات المتحدة لأهدافها.
وذكر التقرير أن حكومة بنيامين نتنياهو وداعميها الأمريكيين يحاولون بناء تاريخ بدون أن تكون له علاقة بتعقيدات المنطقة والنزاع. فعندما زار وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، "إسرائيل" هذا الشهر، شمل برنامج زيارته التي خططها له مضيفوه الإسرائيليون علم الآثار أكثر من أي شيء آخر.
وفي يومه الأول، اصطحب بنيامين نتنياهو روبيو إلى موقع حفريات تحت الأرض بالقرب من حائط البراق في المسجد الأقصى، وفي اليوم الثاني، منح رئيس الوزراء الإسرائيلي زائره الأمريكي "شرف" افتتاح نفق محفور تحت حي فلسطيني، على طول شارع من العصر الروماني يطلق عليه اسم "طريق الحج"، في حديقة أثرية تعرف باسم "مدينة داود" أنشأتها منظمة استيطانية إسرائيلية.
وأكد نتنياهو أن كلا الحدثين يهدفان إلى التأكيد على جذور القدس اليهودية ومكانتها، باعتبارها "عاصمتنا الأبدية والموحدة". وبينما كان روبيو في جولته في القدس القديمة، قصفت طائرات إسرائيلية أهم مستودع للآثار القديمة في مدينة غزة، مدمرة بذلك ثلاثة عقود من العمل الأثري.
لطالما كان الصراع على التاريخ جزءا من الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني الأوسع. وطالما رافق مسؤولون من هيئة الآثار الإسرائيلية القوات الإسرائيلية إلى المناطق المحتلة بحثا عن الآثار، لكن هذا الصراع نادرا ما كان بارزا كما كان في الشهر الماضي. فقد تم ترتيب جولة روبيو لتأكيد تاريخ يهودي مسيحي مشترك يركز على القدس، ويربط القاعدة الإنجيلية للحزب الجمهوري بدولة "إسرائيل".
وأوضح التقرير أنه "إلى جانب زوجتيهما، رافق نتنياهو وروبيو رجل يجسد هذه الرابطة، وهو مايك هاكابي، القس المعمداني الإنجيلي، والسفير الأمريكي الحالي لدى إسرائيل، والمدافع الشرس عن التوسع الإقليمي الإسرائيلي. وقد قال: "لا وجود للفلسطينيين حقا"، ورفض مصطلح الضفة الغربية مفضلا استخدام اليمين الإسرائيلي لمصطلحي يهودا والسامرة للإشارة إلى الأراضي المحتلة".
ومن خلال تنظيم جولة صورت أسسها على أنها يهودية بالكامل، سعى نتنياهو وهاكابي إلى تعزيز رؤية تاريخية تؤكد السيطرة الإسرائيلية الكاملة على القدس، بدلا من مدينة مقسمة قد تنشأ عن أي اتفاق سلام إسرائيلي فلسطيني.
وأضاف بورغر أن نتنياهو كرس مسيرته السياسية لتدمير أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية، ولديه الآن حلفاء لهم حصة في الإدارة الأمريكية ومؤثرين عليها. وهنا كالعديد من الشخصيات المؤثرة على الإدارة مستعدة لضم إسرائيلي واسع النطاق للضفة الغربية.
ومن أجل دعم السعي إلى الغزو الإسرائيلي الكامل والدائم للصراع في الشرق الأوسط، يقول علماء آثار مستقلون، إن نتنياهو وداعميه الأمريكيين يسعون إلى بناء تاريخٍ مجرد من جميع تعقيدات أرض كانت موضع نزاعٍ وتقاسم على مدى آلاف السنين.
وقد وصف روبيو نفق "طريق الحج" بأنه "ربما يكون أحد أهم المواقع الأثرية على وجه البسيطة". ويتبع هذا الطريق مسار طريق يعود تاريخه إلى القرن الأول الميلادي ويؤدي إلى الموقع المعروف لدى اليهود باسم جبل الهيكل ولدى المسلمين باسم الحرم الشريف.
ومن جهتها قدمت جماعة إيلاد الإستيطانية التي تقف وراء مشروع مدينة داوود المقام على أراض فلسطينية مصادرة من بلدة سلوان، الطريق على أنه الطريق الذي سلكه اليهود إلى الهيكل خلال حياة السيد المسيح. وقد أعلنت الأمم المتحدة أن هذا المشروع غير قانوني لأنه بني على أرض محتلة كجزء من جهد أوسع نطاقا لتهجير الفلسطينيين، وقد أدانت لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة العام الماضي استخدامه للآثار لأغراض سياسية.
وقالت اللجنة إنه على الرغم من تاريخها الغني والمتنوع، فإن السرد المقدم في موقع مدينة داود يركز فقط على التاريخ اليهودي للموقع، متجاهلا جميع الفترات والثقافات الأخرى.
وأشار ألون أراد، رئيس مجموعة مستقلة من علماء الآثار، "إيميك شافيه"، إلى أن نفق "طريق الحج" قد افتتح سابقا، في الولاية الأولى لدونالد ترامب، من قبل أول سفير له في إسرائيل، ديفيد فريدمان، باستخدام مطرقة ثقيلة لهدم جدار عام 2019. و قال أراد: "هذا المهرجان برمته الآن غريب تماما، فحقيقة أن المستوطنين والإنجيليين وغيرهم من الأمريكيين اليمينيين وجدوا تطابقا مثاليا بينهم، ليست جديدة. لكن هذا الاحتفال مجرد علم آثار سيء ودليل آخر على أن مشروع حديقة مدينة داود الأثرية برمته لا علاقة له بالآثار أو التراث".
وادعى بعض علماء الآثار وجود مبنى حجري كبير بدرج في الموقع على أنه مدينة داود التوراتية، إلا أن هذا الادعاء محل جدل حاد. كما يتهم أراد منظمة إيلاد باستخدام أساليب فاسدة. وقال: "توقف علماء الآثار عن حفر الأنفاق في بداية القرن العشرين، وقيامهم بالحفر في أنفاق تحت منازل الناس دون إذنهم يجعل هذا الأمر برمته علم آثار رديء. بمجرد الحفر في نفق، يصبح لديك منظور ضيق للغاية. إن هذا التزييف لطريق الحج هو محاولة لتهويد تراث هذه المنطقة بأكمله. إنه أفضل مثال على مصطلح رؤية النفق".
كما استنكرت منظمة "إيميك شافيه" قصف إسرائيل للمخزن الأثري في مدينة غزة يوم الأحد، أثناء جولة روبيو حول الحائط الغربي. وقالت المنظمة في بيان: "منذ بداية الحرب، ألحقت إسرائيل أضرارا أو دمرت مئات المواقع الثقافية والقطع الأثرية المحمية". وأضافت: "كان المخزن يحتوي على ما يقارب 30 عاما من العمل الأثري في قطاع غزة، وكان يضم عشرات الآلاف من القطع. أُزيل بعضها، بينما دمر الكثير منها".
وكان جيش الاحتلال الإسرائيلي قد أعطى علماء الآثار الفلسطينيين والمدرسة الفرنسية للكتاب المقدس والآثار في القدس، التي تدعم الموقع، ثلاثة أيام لإفراغ المستودع قبل قصفه، لكن لم يكن هناك سوى وقت لنقل بعض القطع الأثرية في قافلة شاحنات واحدة. وقال مسؤول في مدرسة "إيكول ببليك": "لم نتمكن من العودة لمهمة ثانية بسبب نقص الشاحنات وقلة الأشخاص، وخاصةً بسبب الخطر، ففقدنا بعض القطع الأثرية".
وكانت القوات الإسرائيلية قد استولت على المستودع في هجوم شنته مطلع العام الماضي، عندما سمح لموظفي هيئة الآثار الإسرائيلية بتفتيشه، حسبما قال المسؤول، في انتهاك للقانون الدولي. وفي تلك المناسبة، حالت صرخة استنكار عالمية دون وضع خطة لنقل بعض القطع الأثرية. وبعض القطع التي تمكن علماء الآثار من نقلها قبل القصف تحطمت أثناء نقلها في شاحنات مفتوحة، وهو النوع الوحيد الذي يسمح به جيش الاحتلال.
وختم التقرير أن هذه القطع "في مكان غير معلوم حاليا، حيث تكون معرضة لعوامل الطبيعة. وأصدرت وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق التابعة للجيش الإسرائيلي بيانا قالت فيه إنها سهلت عملية الإنقاذ، التي وصفتها بأنها "نقل قطع أثرية نادرة وفسيفساء وأون فخارية تعود للمجتمع المسيحي في غزة".
في الواقع، تعود هذه القطع الأثرية إلى عصور زمنية متعددة، وترتبط بحضارات وأديان متعددة. وقال أراد: "إنه وصف غريب، لا أعرف دوافع وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق. لا يسعني إلا أن أفترض أن السبب هو استمرار إسرائيل في محاولة الحفاظ على علاقاتها الخارجية مع الكنيسة الإنجيلية المسيحية في الولايات المتحدة".