لا
تحتاج دعوى الفرز والتجنيب إلى الاستغراق في الشرح القانوني، فهي معروفة للعامة، والمعروف
لا يُعرف!
فعندما
تكون الملكية في العقار أو الأطيان على المشاع، بين شركاء أو ورثة، فمع الخلاف
يكون الحل في اللجوء إلى القضاء بدعوى الفرز والتجنيب، ليتمكن الشريك أو الوريث من
حصر حصته وتحديدها. والأمر يحتاجه أهل الحكم في
مصر للوقوف على ما يخصهم وما يخص
غيرهم من المشهد الإعلامي، خوفا من اختلاط الأنساب، وللدقة
الولاءات، وهو أمر لفتُ
أنا الانتباه له مبكرا، وقبل عشر سنوات، فالسياسة لا تستقر على حال، وصديق اليوم
قد لا يكون كذلك في الغد. ومع هذا الاختلاط فإنه يتعذر استخدام الوسائل الإعلامية
ضد صديق الأمس، حتى لا يلتفت الرئيس حوله فيجد نفسه في وضع الرئيس اللبناني شارل
الحلو (1964–1970)!
وقد
كانت الولاءات الخارجية معروفة، وهناك صحف تصدر من بيروت وتمول من الخارج، فقال
للصحفيين: "أهلا بكم في وطنكم الثاني لبنان"، ولا أظن أن الأمر بحاجة
إلى مزيد من الشرح والتوضيح!
مع هذا الاختلاط فإنه يتعذر استخدام الوسائل الإعلامية ضد صديق الأمس، حتى لا يلتفت الرئيس حوله فيجد نفسه في وضع الرئيس اللبناني شارل الحلو (1964–1970)!
أزمة
فيلم أم كلثوم:
أما
كون الفرز والتجنيب صار مهما، فهو ما كشفت عنه أزمة فيلم "أم كلثوم".
صحيح أن الدفاع عنه له بعد داخلي، فالشركة المتحدة، مالكة الفضاء الإعلامي، هي
ثالث ثلاثة من شركات الإنتاج لفيلم "الست"، والدفاع عنه شيء لزوم الشيء
من إعلام هو في الجملة مملوك لها، ومن إعلاميين يعملون فيها. ولكن هنا يمكن للمرء
أن يلحظ دوافع خارجية في الموضوع، ولو كان الأمر له صلة بإهالة التراب على رمز
مصري، بما يمثل تعاونا مع الجماعات المتشددة في تحقيق أهدافها، وأخصها تحريم الفن،
وهو ما يمكن رصده بسهولة من خلال اندماج هؤلاء مع المدافعين عن العمل، ووصف أم
كلثوم بأنها ليست أكثر من "مغنواتية"، من باب الازدراء.
فالهجوم
على بعض ممن انتقدوا العمل يتجاوز الاحتشاد لأسباب داخلية إلى ما هو أبعد من ذلك،
وعندما يبدو أن التحالف الدولي لـ30 يونيو بدأ في التصدع مع وجود هذا الدفاع، فإن
الأمر كاشف عن الانحيازات العابرة للعواصم، وربما للقارات. ولك أن تسأل: ماذا لو
انتقلت العلاقة من البرود إلى المواجهة، وانقلب الصديق إلى عدو؟ وأحيانا يحدث هذا
فلا يُكلف الإعلاميون بمهمة الرد، ولكن يُسند الأمر للذباب الإلكتروني من الناحية
المصرية، حتى وإن وقف على الضفة الأخرى إعلاميون معروفون!
العلاقة
مع طهران:
لم
ينتبه النظام الحالي إلى خطورة الموقف إلا في العلاقة مع طهران، إذ استغل البعض
سقوط نظام الرئيس محمد مرسي، وعبّروا عن قربهم من الحالة الإيرانية ضمن حرب "المكايدة"
للإخوان، وبدأت الوفود تتقاطر على بلاد فارس، ولا مانع في إعلان المكايدة حين
العودة، إلى أن تدخلت الأجهزة الأمنية مبكرا، وأوقفت وفدا في مطار القاهرة قادما
من هناك، وتعرض للتفتيش، عندئذ استشعر المسافرون بانتظام أنه اتجاه مرفوض، فتوقفت
الوفود، وتعرضت إيران للمواجهة مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، فلم يفتح
الله على أحد منهم بكلمة إدانة!
الأمر
مختلف مع غير إيران، وقد تأسست في مصر وسائل إعلام ليس معروفا المالك الحقيقي لها،
وتخضع للحماية الداخلية، وتُعفى من تطبيق القانون الذي ينص على نشر ميزانياتها في
كل عام. فإن الأمر بحاجة إلى فرز وتجنيب، ليعرف المواطن ما يخص النظام المصري وما
يخص الخارج، بل إن حالة اختلاط الأنساب التي ارتبطت ببداية المرحلة تجعل من
الضروري لأسباب تخص السلطة نفسها تحديد موقف من يعملون في المؤسسات الإعلامية
المصرية، ممن يتصدرون المشهد ويتخطون الرقاب، ممن يمثلون زعامات إعلامية، لأسباب
تخص السلطة نفسها!
هؤلاء
ودولة مبارك:
اللافت
أن النظام الذي فشل في صناعة ذراع إعلامي واحد، لم يجد مانعا من الاعتماد على أذرع
نظام مبارك، ومنهم من باع الرئيس السابق بقيام الثورة، حتى يظن الجاهل أنه ثوري
أكثر من الثوار، ومنهم من لم يتمكن من بيعه وإن رغب في ذلك. وفي أحد جوانب المشهد
فإن دولة مبارك تمثل قلقا، وتبدو لابدة في الذرة تنتظر الفرصة، وهي أقرب لهؤلاء من
الأوضاع الحالية، لا سيما إذا جهرت بالقول وامتلكت الشجاعة اللازمة لذلك، أو وجدت
الفرصة سانحة!
في أحد جوانب المشهد فإن دولة مبارك تمثل قلقا، وتبدو لابدة في الذرة تنتظر الفرصة، وهي أقرب لهؤلاء من الأوضاع الحالية، لا سيما إذا جهرت بالقول وامتلكت الشجاعة اللازمة لذلك، أو وجدت الفرصة سانحة!
وهذا
خطر آخر يمكن أن تحدثه ثقافة اختلاط الولاءات، وقد يتفق الخارج مع البديل الذي
تمثله الدولة السابقة، وبالمناسبة هي الدولة التقليدية التي عرفتها مصر منذ قبل
ثورة 1952. وعبد الناصر استبعد منها الإقطاعيين وأبقى عليها، والسادات أضاف إليها
على ذات القواعد، من العائلات التي ساعدته في الهروب في فترة العمل السياسي!
بيد
أن المرحلة الحالية لم تجد أمانها مع هذه الدولة، وإن كانت الموضوعية تلزم بالقول
إن انتكاستها لم تبدأ الآن، ولكنها بدأت بتصدر ثلاثي أضواء المسرح للمشهد: جمال
مبارك، وأحمد عز، وحبيب العادلي. ولهذا فعندما قامت الثورة لم تجد هذه الدولة
نفسها معنية بالوقوف ضدها، وهي تستطيع إعادة إنتاج نفسها في المرحلة الثورية،
وكانت مستعدة بتراجع الزعامات التاريخية لصالح الجيل الجديد من شبابها القريب
بتوجهاته من الثورة. لكن الكيانات السياسية الجديدة لم تكن مستعدة لاستيعاب هذا
التحول، فصنعت برلمانا مسخرة نُسب زورا للثورة، فصار العبث الذي شاهدنا في الشكل
والموضوع هو برلمان الثورة. ولا ننكر أن هناك من مثّلوا إضافة للحياة البرلمانية
المصرية، لكنهم كانوا أفرادا ضمن جمهرة أزعجت الناس، حتى إذا تم حله لم يجد بواكي
له.
لم
يكن مبارك يجد قلقا في الولاءات الخارجية ما دامت مع دول ليس بينه وبينها مشكلة،
ولو وصل الأمر إلى التمويل الشخصي. وقد كان يغض الطرف عن الممولين من الزعيم
الليبي ومن غيره، وإن كان لا يتسامح أبدا مع من لهم تواصل مع إيران، إلا في حدود
النخبة التي لا يخشى منها. وهو في جميع الأحوال كان يدرك أن الأمر في قبضته، وإن
لم يكن يسمح بإطلاق فضائية من الداخل وتبعيتها بالكامل للخارج، والقناة الوحيدة
التي سمح لها حصلت على الوجود بالاحتيال، وربما لم يعرف أحد بذلك إلا بعد أحداث
2013، وهو أمر ليس قائما الآن في حالتها فقط.
كشوف
البركة:
مبارك
كان يدرك أن الزمام بيده، وفي سنوات العسل مع النظام العراقي لم يكن يمانع في عطاء
صدام حسين للصحفيين وهداياه لهم، والتي وصلت في بعض الأحيان إلى سيارة مرسيدس دخلت
حسابات المؤسسات الصحفية. لكن باحتلال الكويت وذهاب الموقف المصري إلى العداء مع
الرئيس العراقي، فإن هؤلاء من سلخوه بألسنة حداد، ووصفوه بـ "الهباش البكاش"،
و"لص بغداد"، وغير ذلك من نعوت سلبية، ووقحة في كثير من الأحيان!
وقد
استفز الأمر المسؤولين العراقيين، فأعلنوا أنهم سينشرون ما سمي إعلاميا بكشوف
البركة عما حصل عليه كل رئيس تحرير من النظام العراقي. لكن الرئيس صدام حسين كان
من الذكاء بمكان حد إصدار بيان ينفي فيه وجود قائمة، أو أن أحدا حصل منه على شيء،
ذلك أن مثل هذه الفضائح ستضع الممولين منه في الوقت الراهن في حرج!
وظني
أن مبارك قد يعجبه هذا الهجوم لكنه لم يوصِ به، كما لم يطلب من رجاله التحول،
لكنهم يعرفون ماذا يريد، ففعلوه بدون طلب. والأمر لن يكون كذلك في الحالة الراهنة،
ولذا فلا بد من الفرز والتجنيب مبكرا.
فالشفافية
مطلوبة!
x.com/selimazouz1