رغم صحة التحليلات
العربية التي تحاول الإغراق في الواقعية، ورسم صورة بائسة عن نتائح تحدي
إسرائيل،
قياسا بالنتائج التي خلّفتها حرب السنتين على غزة وجنوب لبنان، وإضعاف فاعلَين لطالما
كان لهما تأثير لا يمكن إنكاره في تفاعلات المنطقة وطبيعة علاقات القوى بين
أطرافها، والحفاظ على قدر معين من الردع، ظل ملموسا وفاعلا إلى حين.. رغم ذلك،
ورغم التغول الإسرائيلي، فإن نتائج أخرى بدأت تظهر على السطح.
في قلب تفاعلات
علاقات القوّة في المنطقة، حقيقة تشير إلى أن
المقاومة، الفلسطينية بالدرجة
الأولى، لم تكن مجرد فاعل جرى ذبحه حتى بدون أن يحصل ذووه على الفدية، فعلى العكس
من ذلك، استطاعت تلك المقاومة، ومن تحت رماد غزة ودماء عشرات آلاف الشهداء، دفع
المنطقة إلى تحوّل استراتيجي مهم؛ ما كان له أن يتبلور أو حتى يولد في الأصل لولا
مبادرة المقاومة الفلسطينية، التي ستكشف الأيام أنها كانت استراتيجية إلى حد بعيد،
وأنها أسهمت بدرجة ما في صناعة تحوّل جيوسياسي مهم؛ تتجلى ملامحه في مسألتين بارزتينن:
تحوّل استراتيجي مهم؛ ما كان له أن يتبلور أو حتى يولد في الأصل لولا مبادرة المقاومة الفلسطينية، التي ستكشف الأيام أنها كانت استراتيجية إلى حد بعيد، وأنها أسهمت بدرجة ما في صناعة تحوّل جيوسياسي مهم
الأولى: تخفيض
مرتبة إسرائيل في الفكر والممارسة الأمريكيين، فلم تعد إسرائيل هي اللاعب رقم واحد
في الحسابات الأمريكية، الذي يرسم سياسات واشنطن على مقاس مشاريعه وحساباته. وهذا
الأمر لم يأت من فراغ، إذ اكتشفت أمريكا أن أي حرب إسرائيلية هي استنزاف لقدرات
الولايات المتحدة وإضعاف لأصولها الاستراتيجية، وأن أي حرب تشنها إسرائيل تعني وضع
واشنطن على الخطوط الأمامية، ودفع تكاليف الحرب وفواتيرها. والدليل حرب غزة، التي
أفرغت مخازن الأسلحة الأمريكية من بعض أنواع الأسلحة، وأضعفت كثيرا رصيد أمريكا
الأخلاقي والسياسي العالمي.
بناء على هذه
الحقيقة، بدأت العلاقة بين إدارة دونالد ترامب وحكومة نتنياهو تشهد توترا علنيا
ومستمرا، ذلك أن ترامب، ورغم ما يُقال عن سذاجة بعض سياساته، إلا أنه يدرك جيدا
الأضرار التي ترتبها سياسات اليمين الإسرائيلي المتطرف على واشنطن، مقابل صفر قيمة
مضافة سواء لتوازنات القوى الدولية الراهنة، وتحديدا مع الصين اللاعب الصاعد بقوّة
على مسرح الحدث العالمي، أو على المصالح الأمريكية المباشرة في المنطقة.
الثاني: أن الحرب
حفّزت مشاريع المنافسة الإقليمية، بل دفعت الدول الفاعلة في المنطقة إلى صياغة
مقاربات جديدة لعلاقاتها الإقليمية، ووضع إسرائيل في خريطة تشابكات العلاقة
وتراتبية
القوة في المنطقة. فلوقت طويل قبلت الكثير من الدول بالمكانة الثانية
والثالثة في تراتبية القوّة والفعالية، من منطلق أن المرتبة الأولى محفوظة
لإسرائيل ولا يمكن التفكير بمنافستها، على اعتبار أنها الخط الأحمر المعلن صراحة
من قبل واشنطن التي تُعد بحق مهندسة النظام الإقليمي القائم والطرف الذي تتوجب
مراعاته.
من نتائج حرب
السنتين على غزة، أن الفاعلين الإقليميين استثمروا أوراق قوتهم إلى حدودها القصوى،
وباتت لديهم أوراق لم يكن ممكنا تفعيلها في فترات سابقة، فحرب السنتين دفعت إسرائيل
لارتكاب أكبر الأخطاء الاستراتيجية في تاريخها، عندما بدأت بتصميم خرائط للمنطقة،
الأمر الذي رأت فيه الأطراف الإقليمية تهديدا وجوديا يعرض وجودها للخطر،
رسالة لإسرائيل أن فراغ القوة أمر غير وارد، ولا يمكن القبول بميزان مختل لصالح نتنياهو وأضرابه ليشكلوا خرائط المنطقة على مقاساتهم
وهو الأمر
الذي يستدعي نزع قناع المجاملة مع واشنطن، والتفكير في تغيير موازين القوى بشكل
عملاني حقيقي.
المؤشرات
العسكرية في المنطقة تؤكد ولادة موازين قوى جديدة في المنطقة، سواء على مستوى استيراد
أهم وأحدث أنواع الأسلحة، بما فيها الأمريكية، أو على مستوى الصناعات العسكرية
المحلية التي بدأت تزدهر بقوَة في المنطقة، وكذلك التحالفات التي بدأت تبرز بوضوح
بين دول المنطقة، في محاولة واضحة لبناء ميزان قوة أكثر قدرة على مواجهة التحدي
الإسرائيلي، والأهم مواكبة التغييرات التي تشهدها المنطقة والعالم.
في هذا السياق،
يمكن النظر إلى سياسة إدارة ترامب التي تهدف إلى تضييق هامش الحركة الإسرائيلي إلى
حد بعيد في المنطقة، ورغم محاولات إسرائيل التفلت على ساحات لبنان وغزة وسوريا،
وإثبات أنه لا زالت لديها اليد الطولى في المنطقة، إلا أن تحركاتها باتت تحت
المجهر الأمريكي وأصبحت سياساتها مادة لمراجعة يومية من قبل إدارة ترامب، التي
وجدت أن تكثيف انخراطها في قضايا المنطقة عملا ضروريا لإدارة التوازنات الصاعدة
والحفاظ على المصالح الأمريكية.
ميزان قوى جديد
يتشكّل في المنطقة، يبدو وكأنه استكمال للمقاومة ضد إسرائيل بصيغ جديدة، هو رسالة
لإسرائيل أن فراغ القوة أمر غير وارد، ولا يمكن القبول بميزان مختل لصالح نتنياهو وأضرابه
ليشكلوا خرائط المنطقة على مقاساتهم.
x.com/ghazidahman1