يعمل
الاحتلال على الترويج لنفسه بوصفه قوة استقرار في المنطقة، بينما يخلق واقعا من
عدم الاستقرار طويل الأمد يمنعها من التعافي. فقد استطاع خلق نموذج هيمنة يتجاوز
الجغرافيا عبر صياغته لأبارتايد عابر لحدود النكبة، يستعمل فيه السلاح وتطور
التكنولوجيا، إلى جانب بناء التحالفات والسيطرة الاقتصادية من خلال أدوات التفتيت
السياسي.
مصالح
الاحتلال وأبارتايد عابر لحدود النكبة
يمكن
فهم الاحتلال كمشروع نفوذ إقليمي يتشابك مع مصالح دول، وتتعقد خيوطه داخل
التحالفات الدولية، مع مصالح خطوط الغاز والملاحة، وتجارة الحروب الأهلية، ورغبته
في اللعب على توازنات القوى. هو عمليا خلق
أبارتايد بلا حدود، فمنذ النكبة سنة
1948 لم يكتفِ الاحتلال بإخضاع
الفلسطيني داخل حدود السيطرة المباشرة، بل مضى أبعد
من ذلك، باحثا عن عمق نفوذ يتجاوز فلسطين سياسيا وأمنيا واقتصاديا وجغرافيا،
يمكن فهم الاحتلال كمشروع نفوذ إقليمي يتشابك مع مصالح دول، وتتعقد خيوطه داخل التحالفات الدولية، مع مصالح خطوط الغاز والملاحة، وتجارة الحروب الأهلية، ورغبته في اللعب على توازنات القوى
عبر
شبكات عابرة للحدود تعمل على خلق أبارتايد ممتد خارج فلسطين، تُصدَّر فيه أدوات
السيطرة والرقابة، وتُعاد هندسة خرائط المنطقة بحيث تُخنق أي إمكانية لولادة بيئة
داعمة لحق الفلسطيني في التحرر.
من أبارتايد
الداخل إلى أبارتايد الإقليم
توسعت
النكبة من حدث على أرض فلسطين إلى بنية إقليمية تمنع شفاء المنطقة من تبعاتها. فقد
تجلى الأبارتايد بشكل مختلف على أراضٍ عدة في الداخل المحتل، فيها يقوم الاحتلال
على الهيمنة والسيطرة القومية والعرقية ومصادرة الأرض وترسيخ تفوق المستوطن على
صاحب الأرض. أما خارج الحدود فعمل على تطويق المحيط العربي سياسيا وأمنيا، إلى
جانب سعيه لتفكيك البنى
المقاومة أو إغراقها في صراعات جانبية لوأدها، مع بصمات
واضحة في تصدير تقنيات القمع والرقابة إلى أنظمة أخرى، في سبيل إدارة الأزمات
الإقليمية بما يخدم أمنه القومي، بغية التحكم بالبحار والمضائق وخطوط الطاقة.
من
الحدود إلى المحيط
يمكن
رؤية الحدود كما قسمها الاحتلال ضمن دائرتين، فاعتبر الدائرة الأولى وهي حدود
فلسطين المباشرة (لبنان، سوريا، الأردن، مصر) مجالا تمارَس فيه
القوة بأشكال
مباشرة، سواء عبر ضربات جوية كما في سوريا ولبنان، أو عبر التنسيق الأمني وتتبع
الحدود وإطباق الخناق على الجوار الفلسطيني كما في غزة، إلى جانب اهتمامه المباشر
بإدارة ملفات اللاجئين الفلسطينيين فيها، ومحاولات ضبط البيئة المحيطة بالمقاومة؛ باعتبار أن أي مشروع داعم لفلسطين في المحيط يُعد خطرا وجوديا عليه. لا يتحرك الاحتلال في الدائرة
الأولى فقط بالقوة العسكرية، بل تستثمر في الأمن الحدودي، اتفاقيات الغاز، الضغط
الدبلوماسي، وبرامج التطبيع الناعم.
يصبح الفلسطيني مادة خام في صناعة أمنية عالمية يقدمها الاحتلال لآسيا وأفريقيا كأسواق سلاح وتقنيات مراقبة. فالاحتلال لا يبيع فقط السلاح، بل يبيع التجربة، ويسوّق خبراته في كيفية السيطرة على الشعوب
أما
الدائرة الثانية، فقد اعتبرها ساحات صراع إقليمي (العراق، اليمن، السودان،
الخليج). وبرغم بعدها الجغرافي نسبيا وعدم جدوى أي مشاريع مقاومة فيها بشكل مباشر تجاه
الاحتلال، تداخلت مصالح الاحتلال مع قوى دولية فيها، لذا اعتُبرت هذه الساحات مجالا
لموازنة النفوذ المناوئ له، أو لخلق ممرات ضغط إقليمي عبر تغذية خصومات داخلية
تطيل عمر التفوق العسكري
الإسرائيلي في الإقليم.
الأبارتايد
خدمة للتصدير
الأبارتايد
هنا لم يعد سياسة داخلية فقط، بل منتجات تُصدر. فمع تحول فلسطين إلى مختبر
تكنولوجي للرقابة والسيطرة عبر منظومات مثل الطائرات بدون طيار، وأنظمة التعرف إلى
بصمة الوجه، ومراقبة الهواتف، والأسوار الإلكترونية.. فهي أسلحة وتقنيات جُرّبت في
الضفة وغزة، ثم تُباع لاحقا لدول أخرى تستخدمها لقمع شعوبها أو لضبط حدودها. وتظهر
آثار هذا التصدير في ساحات مختلفة، منها استخدام المسيّرات الإسرائيلية في حرب
أذربيجان وإثيوبيا، إضافة إلى صفقات وشبهات حول أدوار أمنية في صراعات مثل
السودان، سواء عبر تسليح أطراف أو دعم مجموعات انفصالية بما يخدم مصالح الطاقة
والممرات التجارية. هكذا يتحول الصراع إلى اقتصاد حرب يمنح الاحتلال نفوذا وأوراق
ضغط إقليمية مربحة مستقبلا.
إن الحديث عن مصالح الاحتلال خارج حدود فلسطين ليس توصيفا
جانبيا، بل مدخل لفهم معادلة التحرر اليوم. فهنا تنتقل الأبارتايد من ممارسة
داخلية إلى سلعة أمنية قابلة للتصدير، وهكذا يصبح الفلسطيني مادة خام في صناعة
أمنية عالمية يقدمها الاحتلال لآسيا وأفريقيا كأسواق سلاح وتقنيات مراقبة.
فالاحتلال لا يبيع فقط السلاح، بل يبيع التجربة، ويسوّق خبراته في كيفية السيطرة
على الشعوب، وأصبح أستاذا في إدارة السكان وتنفيذ تقنيات اختراق المجتمع، لتحويل
الحرب إلى اقتصاد يدر المليارات ويجعله في مصاف الدول المتقدمة في التقنية
والسلاح. فإذا كان الاحتلال يصدّر الأبارتايد نموذجا، كيف يُواجَه بالتحرر نموذجا
مضادا؟