سياسة عربية

تفكيك الصهيونية بين الميتافيزيقا السياسية وفلسفة العدالة الفلسطينية.. كتاب

محنة الفلسطينيين اليوم جعلتني أراجع الكثير من مصادراتي. فتعميمي كان ظالما لطائفة من المفكرين الغربيين، ما فتئت تتوسّع شيئا فشيئا وتراجع تصوّراتها. وكتاب "تفكيك الصهيونية: نقد ميتافيزيقا سياسية" نموذج جيّد لهذه الاستثناءات.
محنة الفلسطينيين اليوم جعلتني أراجع الكثير من مصادراتي. فتعميمي كان ظالما لطائفة من المفكرين الغربيين، ما فتئت تتوسّع شيئا فشيئا وتراجع تصوّراتها. وكتاب "تفكيك الصهيونية: نقد ميتافيزيقا سياسية" نموذج جيّد لهذه الاستثناءات.
الكتاب: تفكيك الصهيونية: نقد ميتافيزيقا سياسية
الكاتب: مؤلف جماعي يشترك فيه فلاسفة السياسة اليوم تحرير بتلر وجياني فاتيمو ووالتر مينولو وترجمة عدنان حسن.
الناشر: منتدى العلاقات العربية والدولية، الطبعة الأولى، الدوحة 2015.
عدد الصفحات: 320 صفحة


ـ 1 ـ

يضم هذا المؤلف الجماعي مقالات بأقلام مفكرين غربيين بارزين، تحاول أن تفكّك الأساطير السياسية ـ الميتافيزيقية المؤسسة للصهيونية ولوجود دولة إسرائيل. ولعمقها وجرأتها يصفها سايمون كريتشلي أستاذ كرسي هانز جوناس للفلسفة، بالتحليلات الذكية والمتبصرة للصهيونية. ويرى أن من واجب كل ملتزم بالعدالة الاجتماعية العالمية وكل باحث عن الأدوات النظرية للتعامل مع الصراع في الشرق الأوسط أن يطّلع عليها. ويجد فيها هومي ك. بابا، أستاذ كرسي، جامعة هارفارد إضاءات نيرة لأولئك المؤمنين منا بأن صحة العالم السياسية والأخلاقية وسلامتهما تعتمدان على حل عادل ومنصف للمشكلات المتعلقة بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، لكونها تدعو إلى التعايش الإقليمي من منظورات فلسفية ولاهوتية وعلمانية متعددة.

ـ 2 ـ

يصادر عديد المفكرين على أنّ السينما الأصيلة، أكثر من كونها أداة للتسلية أو آلة لخلق القصص الشيقة المبتكرة، هي فلسفةٌ قبل كل شيء وأداة لفهم العالم واتخاذ المواقف الواعية منه. ولسمتها هذه يجعل منها المفكران جياني فاتيمو (الأستاذ الفخري للفلسفة في جامعة تورين وعضو البرلمان الأوروبي) ومايكل ماردر (أستاذ كرسي في قسم الفلسفة بإقليم الباسك) منطلقهما للنظر في المطابقة المخادعة بين الصهيونية واليهودية ومعاداة السامية، التي تفرض على الأذهان اليوم في مقالتهما المميّزة "إن لم يكن الآن، فمتى؟".

فيستهلانها بملخص موجز لفيلم شجرة الليمون (إخراج إران ريكليس، 2008)، وما يعرض من المحركات الخفية للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني: ينتقل وزير الدفاع الإسرائيلي مع أسرته إلى بيت جديد في الضفة الغربية المحتلة. ولكنه يجد في بستان الليمون المجاور الذي تمتلكه الأرملة الفلسطينية، سلمى زيدان، تهديداً أمنياً لكونه يحجب الرؤية الواضحة عن عسسه. ويحال هذا الإشكال على القضاء "العادل" فتقرر المحكمة أن تحفظ مصالح الجميع. وتأمر بتشذيب الأشجار إلى ارتفاع لا يتجاوز 50 سنتيمترا عن الأرض، لكي تسمح برؤية لا يعوقها عائق.

هذه التناقضات تمثل بارقة أمل أمام الحق الفلسطيني وسط كل هذا التواطؤ الدولي. ولكن أين العقل العربي الذي سيدفع بها إلى القدرة على التأثير في الناخب الغربي. فينقل المعركة إلى ساحات أخرى يكون فيها أقدر على المواجهة؟ لا يسلم هذا العقل في تقديرنا من هنتين: غلبة الانفعال واقتصار تفاعله على خطابات التفجّع والمراثي، وتراخ مفجع يؤكد أن الآلة الإعلامية قد نجحت في تطبيع علاقتنا مع مشاهد الهول. وجعلتنا نقبل بها ونرضى عنها.
ويمثل المشهد الأخير خلاصة لموقف الفيلم الذي يختزل جوهر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي: يقف الوزير أمام جدار خرساني يفصل باحته الخلفية عن بستان جارته الفلسطينية، ثم تتحرّك الكاميرا وترتفع فوق الجدار في لقطة غطس مضاد تُظهر سلمى زيدان على الجانب الآخر وهي تمشي بأسى وسط جذوع أشجارها المشوّهة.

يجد الباحثان بين بستان الليمون والشعب الفلسطيني الذي لا دولة له تماهيا رمزيا بيّنا.  فالفلسطينيون، ممن نجوا من التهجير القسري يجدون أنفسهم في وضع مستحيل لا يسمح بالبقاء على قيد الحياة. فهم يحتفظون بالجذور التي تربطهم بفلسطين، ولكن القوة القاهرة الإسرائيلية تعوق نموهم وتمنع عنهم الإثمار من جديد.

ـ 3 ـ

وينتهي المفكران جياني فاتيمو ومايكل ماردر من منظور إنساني يتسامى على الأعراق والإثنيات، إلى أنّ الأسطورة القومية الإسرائيلية التي تدّعي جعل الصحراء تزهر، قد حوّلت بساتين الأشجار المزهرة إلى صحراء.

يتبسط الباحثان بعدئذ في عرض مرامي هذا الكتاب الجماعي مبرزين أن المشاركين في الأثر يستخدمون "التفكيك" ذلك المنهج النقدي الذي يرتبط بالفرنسي جاك داريدا، باعتباره أداة فلسفية مساعدة في تفكيك الصهيونية بما هي نظام فكري وتاريخي. فيتجاوزون نقد الإيديولوجيا إلى التشكيك مفهوم "الحضور" الذي تدعيه الصهيونية، ومداره على أنّ الشعب اليهودي هو الأصيل والأبدي في أرض فلسطين، وعلى تجاهل الواقع الفلسطيني التاريخي. ويبحثون في سبل العدالة التاريخية والمستقبلية معتبرين أن تفكيك الصهيونية يتجاوز النقد الفكري للمطالبة بعدالة تشمل الفلسطينيين الذين يعانون من الاحتلال، واليهود الذين يتبنون مواقف مناهضة للصهيونية، فينبذون لمواقفهم تلك.

ويتصدّى الباحثان لاتهامات معارضي تفكيك الفكر الصهيوني، الجاهزة  كالتحيز أو معاداة السامية. فيشيران إلى أن التفكيك ليس هجومًا على الشعب اليهودي، بل هو دعوة للعدالة والمساواة والاعتراف بالحقوق الفلسطينية. وعادة ما يصطدم كل ناقد لهذا الفكر بسؤال مناور قامع "لماذا الآن؟" للإيحاء بنوايا ما للمفكّك تنزع عنه الموضوعية. فيردّ الباحثان بكون تفكيك الصهيونية يمثّل [الآن] مسألة ملحة وحاسمة لأن العدالة يجب أن تتحقق للضحايا الحاليين الذين يعانون تحت الاحتلال الإسرائيلي، فـ"ـإن لم يكن الآن، فمتى؟".

ـ 4 ـ

في مقالة مميزة بعنوان "المجاز المرسل الصهيوني" يتناول مايكل ماردر الإيديولوجيا الصهيونية من زاوية لغوية عصبية. فيجد أنّ فكرها يستند إلى أسلوب بلاغي بياني يصطلح عليه بالمجاز المرسل الصهيوني ومداره على استبدال الجزء بالكل بشكل ممنهج يخدم أهدافها السياسية والإيديولوجية، بحيث يتم استخدام جزء صغير من السكان (صهيون ثم إسرائيل)  لتمثيل الكل (جميع يهود العالم بمن في ذلك اليهود الرافضون للصهيونية). فـ"ـصهيون"، في الأصل تسمية لتلة تقع خارج أسوار القدس من جهة جنوبها الغربي يعتقد اليهود أن هيكل داوود يوجد فيها، تحوّلت لاحقا إلى دير يتولى رعاية الأماكن المقدسة. ولكن مكر الإيديولوجيا نزع منه سياقيه الجغرافي والتاريخي، وحوّله إلى رمز مجرد يعتمد باعتباره أداة توسعية تفرض نفسها على أماكن أخرى وأشخاص آخرين ضمن ما يعتبره الباحث إمبريالية دلالية. فهذا المجاز المرسل سحب الجزء الصغير (التلة والدير فوقها ومن فيه من الرهبان) على الكل، ليبرر التوسع الجيوسياسي والسيطرة وليربط بينهما من زوايا سياسية، لاهوتية، وأخلاقية على نحو لا يمكن فصله.

من منطلق هذا التوسع تدّعي الصهيونية تمثيل جميع يهود العالم وتجعل من تلة صهيون ومن "إسرائيل" لاحقا موطنا أصليا لهم فارضة على الأذهان فكرة الوحدة الميتافيزيقية للشعب اليهودي رغم عدم توافقها مع الواقع. فتحدث فجوة بين الوجود الفعلي للفلسطينيين ورفضها الاعتراف بشرعيتهم تُستخدم لتبرير سياساتها العنيفة والإقصائية والاستيطانية ضدّهم. فتطردهم من أرضهم وتجرّف بساتينهم، وتهمل حقوقهم القانونية والسياسية.

فهذا النموذج الإقصائي يعكس، وفق الباحث، عقلية الحصار الإسرائيلية، وعليه يدعو إلى الانتباه إلى هذه الحيلة البلاغية ونقدها وتفكيكها، وإلى قبول "صهيون" بمعناها الجغرافي الدقيق والتاريخي، بعيدًا عن الأيديولوجيا الصهيونية.

ـ 5 ـ

وفي في مقالة بعنوان "كيف تصبح مناهضا للصهيونية؟" يجعل جياني فاتيمو من العقل الإيطالي مُنطَلقا للتفكير في علاقة الغرب بالصهيونية. فيجد أنّ عناصر متباعدة كانت تدفع الإيطاليين للتعاطف تلقائيا مع إسرائيل. منها ربطهم اللاوعي الذي تولته السينما الأمريكية إلى حدّ كبير، بين الذاكرة الجماعية للهولوكوست ومناهضتهم للفاشية. فأفلامها كانت تمجّد الملحمة الصهيونية وهي تعرض عودة اليهود المظفرة إلى فلسطين قبل عام 1948. وكان اللاوعي الجماعي يسقط مقاومته للفاشية على هذه العودة ويجد فيها صورة لذاته. وبالمقابل ولم تكن أفلام رعاة البقر، التي أثرت في السينما الإيطالية فحاولت محاكاتها في ما يعرف بالوسترن سباغيتي، تهتم بمصير السكان الأميركيين الأصليين الذين أبادهم زحف المستوطنين البيض. وبالطريقة نفسها كانت عدسات الملاحم الصهيونية تتجاهل معاناة الفلسطينيين وإن اقتضى السياق ظهورهم جعلتهم إرهابيين متوحشين.

وكانت هذه العناصر المتباعدة تُوصَل بغياب الديمقراطية في الشرق الأوسط (بما يعني فرضية ظهور هتلر أو موسليني العربيين) وبرعب "الشواه" (الخوف من تكرار المحرقة أو التهديدات الوجودية التي يواجهها الشعب اليهودي) على نحو زائف مصطنع. وبتأثير منها ومن منطلق الالتزام بمعاداة الفاشية كان الإيطاليون ينخرطون في "صهيونيتهم العفوية" فلا يجدون في إقامة دولة إسرائيل ضمانة لحق اليهود في الوجود فحسب وإنما ضمانة لاستمرار الديمقراطية الغربية نفسها.

تعمل هذه المقالة المرجعية على دفع العقل الغربي عامة والمعطّل بفعل جراحاته ليفكّر بشكل حرّ . وتدعوه إلى الفصل بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية. ذلك أنّ الكثير من يهود العالم، ممن يصنّفون أنفسهم باليهود اللاصهاينة، يأخذون تراثهم على محمل الجد ولا يما هونه بدولة إسرائيل. وللبرهنة عن وجاهة رأيه يؤكّد أن الفضل العظيم للثقافة اليهودية وحضورها المتميز في روح الغرب والعالم الحديث عموماً ترسخ منذ عصور بعيدة قبل خلق دولة إسرائيل، منتهيا إلى أنّ أضرارا الكثيرة أحدثتها سياسة هتلر والهولوكوست، منها خاصّة إنشاء دولة الكيان.

ولم يعرض الباحث هذه الحقائق إلا لينزّل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي في سياقه العالمي الخاص وليبرز ضرورة تغيّر الموقف منه بتغيّر هذا السياق. وما يجعله متفائلا بدايةُ الوعي الغربي بالارتباط بين السياسة الإسرائيلية والمصالح الأمريكية، وتحوّلُ مناهضة الصهيونية إلى عنصر قارّ من السياسة اليسارية العالمية، بحيث أصبح النضال من أجل حقوق الفلسطينيين مرتبطا بالنضال ضد الإمبريالية والاستعمار الجديدين.

ـ 6 ـ

في مقالة عنوانها "الموقف التأويلي: أن تكون مفرغا على هوامش الصهيونية العالمية" يتناول سانياغو زابالا أستاذ الفلسفة في جامعة برشلونة مفهوم التأويل وعلاقته بالفلسفة والوجود الإنساني. فلا يراه فلسفة بحد ذاتها، بل عنصرا أساسيا له أصوله الخاصة السابقة للفلسفة. ورغم اختلاف المؤرخين في تحديدها، يشدد دميعهم على أهمية فهم الوجود الإنساني في سياقاته المختلفة حتى يكون أداة لتجاوز التقسيمات السياسية والإيديولوجية.

من هذه المبادئ العامة، ومن منظور تأويلي يسلط الضوء على المحنة الفلسطينية يؤكد الباحث الإسباني أهمية الاعتراف بالكينونة المفرغة للفلسطينيين باعتبارهم كائنات بشرية مضطهدة، فالضعفاء لا يبرزون سياسياً إلا إذا تم الاعتراف بهم بهذه الصفة.  والفلسطينيون اليوم لا يحتاجون الإمدادات الإغاثية فحسب، بل يحتاجون خاصّة إلى الاعتراف بكونهم كائنات بشرية ذات قيمة إنسانية.  وعلى المواقف التأويلية أن تقف إلى جانبهم ضد الجرائم السياسية، وأن تسعى إلى تجاوز الأطر التي تجعل وجودهم مستحيلاً  ومفرغا على هوامش الصهيونية العالمية.

ـ 7 ـ

لطالما اتهمت العقل الغربي بالتهاون وبالكسل الذهني في التعامل مع الصراع في الشرق الأوسط. فقد صادفت مفكرين كبارا، ينظرون إلى المسألة بتبسيط مخجل بعيد عن صفاتهم العلمية والأكاديمية مع أنهم يبدون مخلصين في التعبير عن تصوّراتهم بحسن نية. ووجدت في ذلك تواطؤا ضمنيا بين العقل اليهودي والعقل المسيحي ضد الثقافة الإسلامية أو وجدت فيه استسلاما مسيحيا لعقدة الذنب تجاه اليهود.

الفلسطينيون اليوم لا يحتاجون الإمدادات الإغاثية فحسب، بل يحتاجون خاصّة إلى الاعتراف بكونهم كائنات بشرية ذات قيمة إنسانية. وعلى المواقف التأويلية أن تقف إلى جانبهم ضد الجرائم السياسية، وأن تسعى إلى تجاوز الأطر التي تجعل وجودهم مستحيلاً ومفرغا على هوامش الصهيونية العالمية.
ومن النزاهة أن أعترف أنّ  محنة الفلسطينيين اليوم جعلتني أراجع الكثير من مصادراتي. فتعميمي كان ظالما لطائفة من المفكرين الغربيين، ما فتئت تتوسّع شيئا فشيئا وتراجع تصوّراتها. وكتاب "تفكيك الصهيونية: نقد ميتافيزيقا سياسية" نموذج جيّد لهذه الاستثناءات.

وبالتوازي مع أصحاب الفكر الحر أصبح المواطن الغربي العادي، الذي كان ضحية لتسطيح الفكر وللاستلاب بفعل غسل الدماغ وهيمنة ثقافة الاستهلاك أو البريء من الحقد العنصري  والحضاري، يدرك جيّدا أنّ ساسته عالقون في شرك اللوبيات الصهيونية، وأنهم يشكلون سياساتهم من منطلق مصالحهم الشخصية  المرتبطة بها، لا من منطلق المصالح العليا للناخب ودافع الضرائب.

هذه التناقضات تمثل بارقة أمل أمام الحق الفلسطيني وسط كل هذا التواطؤ الدولي. ولكن أين العقل العربي الذي سيدفع بها إلى القدرة على التأثير  في الناخب الغربي. فينقل المعركة إلى ساحات أخرى يكون فيها أقدر على المواجهة؟ لا يسلم هذا العقل في تقديرنا من هنتين: غلبة الانفعال واقتصار تفاعله على خطابات التفجّع  والمراثي، وتراخ مفجع يؤكد أن الآلة الإعلامية قد نجحت في تطبيع علاقتنا مع مشاهد الهول. وجعلتنا نقبل بها ونرضى عنها.
التعليقات (0)