بعد
نحو 77 عاما من قرار تقسيم أرض
فلسطين وفقا للقرار 181 لعام 1947، استفاقت مجموعة
من الدول الكبرى وقررت
الاعتراف بدولة فلسطينية لها الحق في الوجود، مع اشتراطات
سياسية بالطبع، وهي خطوة شديدة التأخر، لكنها كللت ثمانية عقود من نضال الشعب
الفلسطيني وتمسكه بأرضه رغم مواجهته آلة قتل همجية وبربرية طوال هذه العقود، وخاصة
في آخر عامين من القتل اليومي على مرأى ومسمع العالم، ولولا استمرار ثبات
الفلسطينيين، وبالطبع الثبات الغَزِّيّ، لما حدثت هذه الخطوة التي تستحق الاحتفاء
بها رغم تأخرها.
ما
حدث من موجة اعتراف بالدولة الفلسطينية يستدعي أن يحتفل به الفلسطينيون، لولا ما
يحدث في القطاع المنكوب، ومع ذلك يبقى الحدث مهمّا في مسار النضال الفلسطيني، رغم
كل ما يمكن أن يقال عن كونه مجرد حبر على ورق، وما إلى ذلك من النزعات الواقعية أو
حتى التشاؤمية، إذ إن تراكم المكاسب الصغيرة يظل دافعا للسير نحو المكسب الأكبر،
وهذا الاعتراف مهمَا تضاءلت درجة رمزيته، لا ريب في أنه يقع في دائرة مصلحة
الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، وضد المصلحة الصهيونية، ومن هنا وجب الاحتفاء
والفرح بهذه الموجة.
الاعتراف بالدولة الفلسطينية يحتاج إلى خطوات لاحقة متممة له، أولها الوقف الفوري للعدوان الصهيوني على قطاع غزة، وفتح المعابر للبضائع والمسافرين، وإعادة بناء القطاع. وهذه مسؤولية تقع أيضا على عاتق الدول التي أقحمت الكيان الصهيوني في أرض فلسطين وتركته يتغول طيلة 77 عاما
هذا
الاحتفاء لا يمنع التذكير بأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية يحتاج إلى خطوات لاحقة
متممة له، أولها الوقف الفوري للعدوان الصهيوني على قطاع غزة، وفتح المعابر
للبضائع والمسافرين، وإعادة بناء القطاع. وهذه مسؤولية تقع أيضا على عاتق الدول
التي أقحمت الكيان الصهيوني في أرض فلسطين وتركته يتغول طيلة 77 عاما، إلى حدٍّ دفع
وزير المالية
الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموتريتش إلى القول بأن "الحقبة
التي كانت فيها بريطانيا أو دول أخرى تحدد مستقبل إسرائيل قد انتهت"، فأصبح
الكيان متمردا على صانعيه!
حجم
الوقاحة التي قالها سموتريتش تفوق التصور، فهذا الكيان الطفيلي لا يستطيع أن يبقى
لبضعة أسابيع في مواجهة قوات غير نظامية، ولولا الدعم الأمريكي أولا والأوروبي
ثانيا، لانتهت المواجهة منذ زمن طويل، سواء كان الدعم عسكريّا أو استخباراتيّا أو
دبلوماسيّا، فكيف به إذا خاض مواجهات عسكرية أقوى! كان ينبغي على هذا الغِرِّ أن
يشعر بامتنان كبير لهذه الأنظمة الغربية ومنها بريطانيا، إذ سمحوا ببقاء نتنياهو في
الحكم، وبالتالي سمحوا له ولبن غفير بالبقاء في الحكم أيضا حتى اليوم.
الجانب
الآخر المترتب على الاعتراف بالدولة الفلسطينية، أن تُمحى كل الشروط المسبقة وأيضا
اللاحقة على عملية الاعتراف، خاصة ما يتعلق بعُنصريْ السيادة والنظام الديمقراطي.
إن
أُولى لوازم السيادة، أن تحمي
الدولة حدودها من القوى الخارجية، وتبسط سلطتها على
الداخل بما في ذلك السلطات السياسية والأمنية، وكل اقتراح لدولة فلسطينية منزوعة
السلاح يناقض مبدأ السيادة. والغريب أن الرئيس، المنتهية ولايته منذ نحو 16 عاما،
محمود عباس؛ يستبق الحديث إلى العالم ويدعو إلى دولة منقوصة السيادة دون سلاح ومسلوبة
الحدود التي نصت الأمم المتحدة عليها في قرارها لعام 1947، فأعلن قبوله بحدود 1967
التي تمثل 22 في المئة فقط من أرض فلسطين، بينما كانت حدود القرار الدولي تشمل نحو
45 في المئة من حدود فلسطين.
إن
أي دعوة لإقامة دولة منزوعة السلاح لا تعني سوى أن يكون الفلسطينيون مطية للعدو
الذي يلتهم أرضهم وأرواحهم في كل لحظة، وهي دعوة مشبوهة حتى لو أطلقها فلسطينيون.
وإذا كانت هناك إرادة لنزع السلاح، فالأوْلى أن تتوجه إلى العدو الهمجي والبربري
الذي قتل منذ النكبة وحتى منتصف عام 2023 قرابة 100 ألف فلسطيني وعربي، بحسب تقرير
الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عام 2023، ومنذ طوفان الأقصى قتل نحو 65 ألف
فلسطيني، فهذان العامان الأخيران فقط استُشهد فيهما ما يوازي 65 في المئة من شهداء
فلسطين على مدى 75 عاما، فمن المُطالَب بنزع سلاحه؟!
دخلت القضية الفلسطينية منعطفا كبيرا منذ طوفان الأقصى، وطوال العامين مرَّت القضية بحالات خسائر وانتصارات، ولعل الخسارة الأكبر هي عدد الشهداء وضيق المعيشة على أهل القطاع، بينما أكبر الانتصارات هي تغيُّر الوعي الاجتماعي العالمي بأوضاع القضية الفلسطينية، وأيضا تغير الوضع السياسي والقانوني للمستعمَرة الصهيونية في المحاكم والمجتمع الدولية
أما
ما يتعلق بالنظام الديمقراطي، فكذلك لا يحق للصهاينة فرض الجهة التي ستحكم
الفلسطينيين، ولو أرادوا ذلك فمن حق الفلسطينيين أن يطالبوا بمنع ترشح من يدعو إلى
إبادتهم في الانتخابات، ومن حقهم أن يُطالبوا كل دولة، تدعو إلى منع فصيل فلسطيني
من المشاركة، بألا يُرشحوا أعضاء حزبٍ ما في تلك الدولة، ولْنَرَ حينها كيف
ستتعالى الهجمات والصيحات بأن تلك محاولات لتقويض الديمقراطية في بلدانهم!
لقد
دخلت القضية الفلسطينية منعطفا كبيرا منذ طوفان الأقصى، وطوال العامين مرَّت
القضية بحالات خسائر وانتصارات، ولعل الخسارة الأكبر هي عدد الشهداء وضيق المعيشة
على أهل القطاع، بينما أكبر الانتصارات هي تغيُّر الوعي الاجتماعي العالمي بأوضاع
القضية الفلسطينية، وأيضا تغير الوضع السياسي والقانوني للمستعمَرة الصهيونية في
المحاكم والمجتمع الدولية، وبنهاية العدوان لن يكون هناك نصر مطلق لأي طرف ولا
هزيمة مطلقة، فهناك انتصارات تتراكم، وخسائر تتراكم، ومن سيستطيع تعزيز انتصاراته
وتجاوز خسائره بمرور الزمن سيكون هو الفائز في ذلك الصراع الصفري.
إن
هذه العاصفة التي هبَّت في وجه نتنياهو وترامب قد تدفعهما لتليين مواقفهم فيما يخص
استمرار العدوان على القطاع، بل إن الردود المتوقَّعة كإعلان ضم الضفة الغربية، أو
تغيير أوضاع المناطق المصنفة (أ) إلى (ب) والمصنفة (ب) إلى (ج) قد يزيد من حدة
الضغوط الأوروبية على نتنياهو، وربما تنفتح نافذة جديدة لإنهاء العدوان وعودة
الطرف الصهيو-أمريكي إلى طاولة المفاوضات وعدم قصفها مرة أخرى.
رغم
مرارة ما يحياه أهل فلسطين في كل بقاعها، وخاصة في غزة، فإن التهنئة مستَحَقَّة،
فقد انتزعوا اعترافا بحقهم في الوجود بعد 77 عاما من التجاهل الدائم، وغض الطرف عن
معاناتهم وقتلهم اليومي، وسرقة أراضيهم وتاريخهم وتراثهم، وإذلال كرامتهم، ولا ريب
في أن الطرف الذي استطاع تحقيق مكسب بعد 77 عاما بسبب نضاله وصموده معا، سيحقق
الغاية الكبرى يوما ما.