كتاب عربي 21

"المجال السُّني" خيال أم مشروع ممكن؟

نور الدين العلوي
- سانا
- سانا
أعاد انتصار الثورة السورية على نظام طائفي الحديث عن مجال إسلامي سني وسني عربي بالخصوص؛ إلى سطح التداول، وتحول المفهوم إلى أداة تحليل لدى متكلمين كثر يرون احتمالا أو يبشرون بإمكان سياسي قديم قابل للاستنهاض والتفعيل، سمّوه المجال السني. وكان لدور النظام التركي المسلم السني في دعم الثورة السورية دور الرافد والمحيي للمفهوم، بل المثير لخيال جامح حول تشكل قوة سياسية سنية تمتد من إسطنبول إلى باكستان شرقا وإلى موريتانيا غربا، فيها حوالي مليار إنسان وفيها قوة بشرية شابة ومتعلمة في الأعم الأغلب منها، وفيها ثروات وازنة وتمسك بخناق العالم جغرافيا واستراتيجيا. ذهب خيال البعض إلى حد استعادة الخلافة الإسلامية للوقوف بندية واقتدار في وجهة الغرب الاحتلالي وخازوقه الصهيوني المغروس في قلب هذه الأمة (الحلم).

طبعا وجب التنويه إلى "طوفان الأقصى" بصفتها آخر مرحلة مقاومة، وكانت المثير الأقوى والأبلغ أثرا في رؤية المظلمة التاريخية التي تعرض لها هذا الجسم الذي لا يفلح في التحرك كسجم بل يخذل بعضه بعضا، حتى بلغ الأمر بالملثم أن دعا عليه بعد صبر طويل واحتساب.

هل هذا المجال موجود فعلا؟

حقائق التاريخ والجغرافيا تؤكده ولا تنفيه، فهذا ميراث الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية وهوامش دول إسلامية سنية نشأت خارج جغرافية الخلافة في أفريقيا وفي آسيا، ولم يمكن للتشيع أن ينتشر فيها لأسباب تتعلق بالتشيع نفسه ليس هذا مجال عرضها.

تعرض هذا المجال منذ بداية خروج أوروبا من مجالها الجغرافي (البرتغال وإسبانيا ثم الإنجليز والفرنسيون والطليان وبقية القوى الهمينة الغربية) إلى احتلال وانتهاك غير مسبوق، وقُسِّم وحِيلَ بينه وبين كل مبادرة توحيد سياسي واقتصادي، وإن ظل الرابط الروحي يجمع بين مكوناته البشرية على اختلاف اللغات التي يتكلمها المتباعدون. وكان موسم الحج السنوي يذكر هذا المجال بوحدته الروحية وبإمكانات قوته السياسية، وإن مُنع الحج من التحول إلى مؤتمر سياسي سنوي جامع وهذا من مكائد الاحتلال.

إن قوى الهيمنة الغربية تدرك قوة احتمال تلاقي قوى البلدان السنية في تكتل اقتصادي وسياسي ولذلك عملت دوما على تفرقته. ونتخذ هذا دليلا كافيا على وجود هذا الكيان وعلى القوة الكامنة فيه، والتي عرفها عدوه قبل أن تتفطن إليه مكوناته نفسها؛ على ما فيها من جهل وقلة حيلة وكثير من الكسل الفكري والفساد السياسي. والفساد جزء من تخطيط قوى الهيمنة لتفكيك هذا الجسم واستباق قوته التي لا يمكن أن تصنعها إلا نخب فكرية وأنظمة سياسية واعية بالاحتمال، وتسعى في تحقيقه بأي شكل من أشكال صناعة القوة، ومنها بناء الوحدة الاقتصادية على طريقة بناء الأوروبيين لاتحادهم بعد الحرب العالمية الثانية، وهو مثال متاح يمكن تقليده، وليس بالضرورة أن يكون الجسم ملتفا في دولة واحدة ولو بشكل فيدرالي.

المجال السني حقيقة قابلة للتجسد السياسي والاقتصادي ويمكن التفكير فيها على ضوء ما يجري في غزة، فليس بعد غزة حجة لمتقاعس عن توسيع الفكرة، وليس على غزة واجب أكثر من كشف العدو الذي يضع الجميع كبنك أهداف.

المجال السني جوار فلسطين المحتلة

تبدو أحلام وحدة شعوب الأمة المسلمة السنية وبناء كيانها السياسي الواحد فكرة عبقرية، ولكنها تبدو أيضا فكرة عسيرة التنفيذ لما بين هذه المكونات من خلافات ثقافية ولما لها من تراث سياسي عاشت منه وصنع هوياتها الصغرى، لذلك فإن تعويم فكرة المجال السني لدى كل سنّة العالم يعيد الفكرة إلى منطقة الأحلام البعيدة فتفشل كما فشلت في جولات سابقة، فالفكرة ليست جديدة ولسنا من اكتشفها. لكن إذا نظرنا إلى المجال السني المحيط بالأرض المحتلة وتأملنا احتمال تآلفه في مشروع تحرير الأرض من حول فلسطين وصولا إلى فلسطين، فإن هذا الإمكان يتحول إلى مشروع للتنفيذ وحينها يمكن إسناده من كل أطراف المجتمعات السنية من السنغال إلى ماليزيا.

إن القوى المسلمة السنية الكامنة في حزام فلسطين كثيرة ومتنوعة، قوة بشرية واقتصادية تملك ثروات لا حصر لها، وهي أيضا بمكان منَعة وتأثير جغرافي وسياسي، فمضايق التجارة العالمية تمر تحت أقدامها. لكن هذه القوة التي لا نكتشفها لأول مرة ليست موحدة بل مقسمة بفعل قوى الهيمنة التي أفلحت دوما في شق صفها وإثارتها ضد بعضها البعض، بما جعل قوتها تتلاشي في غير معركة تحريرها. وقد ضاع كل خطاب التوحيد والبناء، وكان لدور الأنظمة السياسية المصطنعة الدور الأبرز في التصدي لكل فكر وكل مشروع يتكلم بتوحد هذه القوة في معركة تحرير.

سطرت قوى الهيمنة الحدود القُطرية وحولتها الأنظمة إلى مقدسات، لكن كل القوى لم تفلح في قطع مهج الشعوب عن بعضها فظلت متماسكة وتشير إلى الصواب وتسعى فيه فتُمنع، على غرار قافلة التضامن المغاربية مع غزة، وهي فقرة جديدة في كتاب قديم يمتد منذ باب المغاربة في القدس إلى اللحظة. مهجة الشعوب مبنية على إيمان ديني توحيدي وعلى وعي سياسي بأهمية تحرير الأرض، وقلع الخازوق لإنهاء وضع الانقسام الذي يعيش منه ويغذيه. يشتغل الوعاء الديني السني كماء تسبح فيه هذه المهج وتعيش منه، فهو حاضن ومحفز، لذلك بمجرد أن تآلفت قطعتان منه (تركيا وسوريا) في مشروع نسميه مشروع تحرير بلاد الشام، حتى عادت الفكرة الأمل في توسع هذا المجال إلى أقصى حدود انتشار المسلمين السنة، ووجد المتكلمون قبولا، وهذا القول بعضه وليس كله. إن ما يجري في سوريا يوسع الحلم على قاعدة دينية ولكن بمشروع تحرير إقليم وشعوب أبعد من فلسطين نفسها. ولا نبني هنا على لغو أحاديث آخر الزمان التي تنتهي بالسامع إلى حالة "ابقَ في مكانك ستحدث معجزة".

الفزعة ضد سايكس بيكو

بعد أكثر من قرن من رسم حدود سايكس بيكو التي ظن الجميع أنها خالدة أو مقدسة انكشفت مهج العرب المحيطين بفلسطين. في أقل من أربعين ساعة قام أكثر من خمسين ألف مقاتل في فزعة عابرة للحدودن وكشفوا قوة ظُن بها الموت فإذا هي الحياة. صبر طويل مخزون مع ألم وقهر احتلالي من الأنظمة ومن صانعيها الغربيين؛ كشف القوة وفتح إمكان توجيهها إلى المعركة الصحيحة. سيقول البعض: لماذا لم تقع الفزعة من أجل غزة؟ وجوابنا أن الفزعة ليست مغامرة غير عقلانية يقودها شباب غر، وهي حتى اللحظة قوة خام لم يتم ترتيب عناصرها وقد يتأخر ذلك قليلا في سياق موجه نحو فلسطين. ولكن المثير الخياني الذي يمكن أن يطعن القلب السوري للأمة السنية كان فعالا، فكشفت القوة عن وجهها ولا نراها تعود إلى صبرها الاستراتيجي بعد فزعة السويداء. فهناك فزعات قادمة لتوحيد القطر السوري وهو قلب أهل السنة، فإذا اشتد عود سوريا فلا راد للفزعات، فطريق الجولان وطبريا ثم القدس مفتوح وإن سيطرت على سمائه طائرات العدو الذي لم يعد يملك إلا الطائرات وليس له بنادق على الأرض؛ والمعارك تحسمها البنادق والخنادق.

أليست هذه أحلام من وراء حاسوب؟ العاقل يقرأ رد فعل قوى الهيمنة على حركة البدو المباغتة، لقد رأى الخطر الذي ظن أنه ذوّبه نهائيا بالحدود وجوازات السفر، الفزعة أنهت سايكس بيكو.

لنوسع الحلم

الفزعة السنية ليست أحزابا إسلامية، لننه الجدل بداءة حول دور الأحزاب والجماعات، فقد سقطت مع سايكس بيكو أو تكاد. هذا إسلام فطري مزيج من الإسلام الأول والبداوة التي تنهض وتنظر إلى القدس، إسلام غير منشغل بالحيض والنفاس والتودد إلى الغرب من أسفل طلبا للشرعية. إسلام "جهادي" (فاتح) سيوصم طبعا بالإرهاب ولكنه لن يرتبك أمام ماكنية الدعاية الغربية صانعة الإرهاب، وإنما تاهت الأحزاب الإسلامية من خشية الوصم بالإرهاب فتخلت عن إسلامها إلا قليلا.

الفزعة تحتاج عقلا ومشروعا والمشروع جاهز تقريبا؛ تحرير الأرض وتطهيرها من الخيانات وكسر الحدود المصطنعة وبناء وحدة فعالة، وليس بالضرورة عبر كيان سياسي واحد على غرار استيهامات القوميين العرب التي انكشفت عن خيانات. الخامة ناضجة ومستعدة، بقي وعي القيادة القادرة على الحلم بأكثر من حكم قُطرٍ وأكثر من مربع سيادي وهمي.

ختاما هل تتجدد الثورة السورية؟ المفتاح التاريخي في سوريا وهذا قدرها. إن العدو الذي يدفع سوريا إلى الفوضى لتكون ثورتها أقل من ثورة وتكون سوريا أصغر من الشام التاريخي؛ لا يرى قوة الفزعة البدوية. الخشية كل الخشية أن يصيب الثورة السورية ما أصاب الربيع العربي من ارتباك أمام الوصم الغربي وضغوطاته وأمام حلاوة سلطة ليست أكثر من دواء مر مغلق بسكر قليل. إن الفزعة تقول لنا إن الدولة القُطرية لم تعد حاجة عربية وأن الشعوب كفرت بها وأن البدائل تجهز لمشروع عظيم، فهل من مدكر؟
التعليقات (0)