كثر مؤخرا الحديث عن لقاءات ذات طابع أمني بين
سوريا و"
إسرائيل"،
بعضها لقاءات مباشرة شارك فيها مسؤولون رفيعو المستوى من الجانبين، إضافة لأحاديث
وتصريحات أمريكية و"إسرائيلية" عن احتمال التوصل لاتفاق أمني بينهما
يمهد لاحقا لتطبيع العلاقات، في ظل حالة من شبه الصمت الرسمي السوري.
كانت الإشارة الأولى على إمكانية تطبيع العلاقات بين سوريا
و"إسرائيل" وردت لأول مرة في لقاء الرئيس السوري للفترة الانتقالية أحمد
الشرع مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الرياض، حين حثَّ الأخير نظيره السوري
على التطبيع في سياق وعده برفع العقوبات عن سوريا.
بعد ذلك، شهد شهر أيار/ مايو تقارير عن جولات من المباحثات بين الجانبين
السوري و"الإسرائيلي"، حيث أكد الإعلام العبري "عقد اجتماعات سرية
بين مسؤولين من الجانبين"، في العاصمة الأذربيجانية باكو، برعاية تركية
لإنشاء قناة للتواصل وتخفيف التوتر.
الأهداف المعلنة للطرفين، سوريا و"إسرائيل"، من المحادثات مختلفة نوعا ما، حيث تريد الأولى وقف الاعتداءات بينما ترغب الثانية في استثمارها لإبرام اتفاق سلام وتطبيع، ما يجعل زخم الأخبار والتصريحات "الإسرائيلية" جزءا من خطة ضغط على دمشق
كما ذكرت وكالة رويترز أن دولة الإمارات تقود محادثات سرية بين
"إسرائيل" وسوريا، بهدف مساعدة القيادة السورية الجديدة على "إدارة
العلاقات المتوترة مع تل أبيب". وأشار التقرير إلى أن أبو ظبي قد بدأت
مساعيها بعد زيارة الرئيس الشرع لها في نيسان/ أبريل الماضي، وتشمل جهودها مسائل
أمنية واستراتيجية بما فيها "خطوات بناء الثقة" بين الجانبين.
في مؤتمره الصحافي مع نظيره الفرنسي، أقر الشرع بوجود
مفاوضات غير مباشرة
مع "إسرائيل"، مؤكدا على أن هدفها هو "تهدئة الأوضاع وعدم خروجها
عن السيطرة"، في إشارة للاعتداءات "الإسرائيلية" المتكررة، بما في
ذلك نقض اتفاق فض الاشتباك لعام 1974 وتوسيع الاحتلال وتدمير مقدرات الدولة
السورية من سلاح ومنشآت ومعاهد بحثية، إضافة لحديث التقسيم ودعم الأقليات.
ثم ذكرت رويترز حصول عدة لقاءات بين الجانبين، بعضها جرى بشكل مباشر في
المنطقة الحدودية، وقال التقرير إن الوفد السوري كان برئاسة محافظ القنيطرة أحمد
الدالاتي، الذي نفى مشاركته في اللقاءات دون أن ينفي حدوث اللقاءات نفسها.
مؤخرا، ذكر موقع "أكسيوس" أن الإدارة الأمريكية "مستعدة
للتوسط بين سوريا وإسرائيل للتوصل لاتفاق أمني جديد، بشرط التقدم في ثلاثة ملفات؛
هي تطبيع العلاقات بشكل تدريجي وكبح التنظيمات المتشددة وضبط الفصائل الفلسطينية
المسلحة، مع الإشارة المهمة لترك مسألة الجولان وترسيم الحدود للجانبين، ونفي
"ممارسة ضغط علني على إسرائيل للتنازل عن أراض تعدُّها استراتيجية". بعدها،
أشار المبعوث الأمريكي لسوريا توم باراك إلى أن "سوريا وإسرائيل تجريان
محادثات جدية عبر وساطة الولايات المتحدة الأمريكية تهدف إلى استعادة الهدوء على
حدودهما".
كما زعم الإعلام العبري حصول لقاءات أمنية مباشرة بين مسؤولين سوريين
و"إسرائيليين" خلال زيارة الشرع الأخيرة لأذربيجان، وأن الشرع نفسه قد
شارك في أحدها، بدون تعقيب سوري رسمي على ذلك.
في التصريحات الرسمية وتعقيبا على أخبار المحادثات بين الجانبين، قال وزير
خارجية "إسرائيل" جدعون ساعر نهاية حزيران/ يونيو الفائت إن
"لبلاده مصلحة في ضم دول جديدة، كسوريا ولبنان، لدائرة
السلام والتطبيع"،
مشددا على أن الجولان "ستبقى جزءا لا يتجزأ من إسرائيل في أي اتفاق سلام
محتمل".
في المقابل، قال مسؤول سوري لقناة "الإخبارية" السورية في الثاني
من تموز/ يوليو الجاري بأن "التصريحات عن اتفاق سلام مع إسرائيل سابقة
لأوانها"، نافيا إمكانية الحديث عن احتمالية التفاوض حول اتفاقات جديدة
"إلا بعد التزام الاحتلال الكامل باتفاقية فض الاشتباك، وانسحابه من المناطق
التي توغل فيها".
في الرابع من الشهر الجاري، وفيما بدا ردا على التصريحات
"الإسرائيلية"، أكدت الخارجية السورية في بيان لها استعداد دمشق
"للتعاون مع الولايات المتحدة للعودة إلى اتفاق فض الاشتباك مع إسرائيل لعام
1974"، وهو البيان الذي صدر إثر اتصال هاتفي بين وزيري خارجية البلدين ناقشا
فيه "الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الجنوب السوري".
يظهر ما سبق أن الأهداف المعلنة للطرفين، سوريا و"إسرائيل"، من
المحادثات مختلفة نوعا ما، حيث تريد الأولى وقف الاعتداءات بينما ترغب الثانية في
استثمارها لإبرام اتفاق سلام وتطبيع، ما يجعل زخم الأخبار والتصريحات
"الإسرائيلية" جزءا من خطة ضغط على دمشق.
بيد أنه من المهم الإشارة إلى أن بعض التصريحات السورية، رسمية كانت أم على
لسان "مقربين"، لا تستبعد تماما فكرة التطبيع وإبرام اتفاق، بل تضعها
كخطوة محتملة مستقبلا وفق ظروف وشروط معينة وبعد "مسار تفاوضي متدرج".
كما يجدر التذكير بتقارير في الإعلام العبري، يتعذر التأكد من مدى صحتها،
تزعم نقلها عن مصادر سورية أن المرحلة التالية من المحادثات قد تشمل بحث مستقبل
الجولان "مع استعداد سوري لإبداء مرونة مشروطة"، إضافة لإبداء الشرع خلال
لقاءاته مع ترامب وباراك "رغبة واضحة في التوصل لاتفاق سلام، ضمن تسوية
إقليمية شاملة".
في هذا المسار الشائك، من المهم التذكير بمحاذير عديدة وفخاخ منصوبة للجانب
السوري، يمكن أن تُخرجَ مآلاتِ المسار التفاوضي عما تريده دمشق ويحقق مصالحها.
في المقام الأول ومن حيث المبدأ، من الصعب تصور كيف يمكن منع الاعتداءات
والانتهاكات بالحديث المباشر مع الطرف المعتدي، الذي يضع عدوانه ضمن "رؤية
أمنية استراتيجية" وليس مجرد هجمات سياقية. كما أن أحد أهم أهداف الاعتداءات
"الإسرائيلية" فرض مسار تفاوضي على دمشق، تكون أفضل نتائجه نظريا
"تعديل" اتفاق فض الاشتباك، وبالتالي يكون المسار التفاوضي هنا رضوخا للاستدراج
"الإسرائيلي"، فضلا عن كون أي "اتفاق معدل" خصما من الحقوق
السورية بطبيعة الحال.
أكثر من ذلك، ينبغي التنبه إلى أن دولة الاحتلال لا تسعى دائما لنتائج
محددة من أي عملية تفاوضية، بل يغدو التفاوض أحيانا هدفا بحد ذاته، إذ يخدم كسر
الحاجز النفسي لدى سوريا -قيادة ونخبا وشعبا- وتقبل فكرة التطبيع بشكل تدريجي،
فضلا عن مكاسب أخرى.
ثم إن هناك خطأ كبيرا، بل خطيئة، في الذهاب للتفاوض من موقع ضعف، وهو مسار
يدفع عادة للتنازل أكثر مما يعيد الحقوق، لا سيما في ظروف الدولة السورية المعروفة
مقابل طرف لا تقف أطماعه عند حدود.
وثالثا، ثمة مخاطرة كبيرة في انتهاج مسار تفاوضي يكون الوسيط فيه الإدارة
الأمريكية، ليس فقط لانحيازها السافر لـ"إسرائيل" كما في حرب الإبادة
على غزة، ولكن كذلك بمواقفها المعلنة حيث كان ترامب اعترف لها بضم الجولان في 2019،
قبل أن يصرّح خلال حملته الانتخابية الأخيرة بأن "حدود إسرائيل أصغر مما
يجب".
وأخيرا، ثمة مشكلة رئيسة تتعلق بالخطاب الرسمي السوري الذي يؤكد ضمنا فكرة
"ضعف سوريا"، حيث يكرر وبشكل ملحٍّ الأولويات الاقتصادية والحياتية،
وعدم تشكيلها أي خطر على "أي من جيرانها بمن فيهم إسرائيل"، ويغيب فيه أحيانا
توصيف "الاحتلال". كما أن الإدانات الرسمية للانتهاكات تبدو في تراجع،
وصولا لعدم التعليق كما حصل في التوغل الأخير نحو قصر "برقش" في بلدة
"رخلة" في ريف دمشق وسحب أسلحة، وهو التوغل الأقرب للعاصمة دمشق على
الإطلاق.
يؤكد كل ما سبق على أن المسار التفاوضي الحالي أبعد ما يكون عن لجم
الاعتداءات "الإسرائيلية"، وهو ما تثبته الوقائع، فضلا عن تثبيت الأمن
والاستقرار، ولا نتحدث هنا عن استعادة الجولان.
المسار التفاوضي الحالي أبعد ما يكون عن لجم الاعتداءات "الإسرائيلية"، وهو ما تثبته الوقائع، فضلا عن تثبيت الأمن والاستقرار، ولا نتحدث هنا عن استعادة الجولان
أمام قادة سوريا اليوم تاريخ طويل من النهج التفاوضي
"الإسرائيلي" والاتفاقات الموقعة، بدءا من منظمة التحرير التي تخلت عن
أوراق قوتها وانخرطت في المفاوضات من موقع ضعف، فدخلت في دوامة من التفاوض لأجل
التفاوض وباتت اليوم هي نفسها -وليست فقط قضيتها- في مهب الريح وتهديدات الحل
والحلول البديلة. وهناك المثال اللبناني في اتفاقية 17 أيار 1983، خلال الاجتياح
"الإسرائيلي" للبنان، وما نتج عنها، بينما هناك نموذج "كامب
ديفيد" التي أتت بعد حرب 1973 فاستعادت فيها مصر بعض حقوقها وأراضيها، بغض
النظر عن رأينا في الاتفاق من حيث المبدأ.
كان ذلك كله قبل السابع من أكتوبر 2023 وما نتج عنه من تغيرات جذرية في
النظرية الأمنية "الإسرائيلية" التي باتت تركز على التوسع والهجوم
الاستباقي ووأد التهديدات قبل نشوئها، وإنشاء مناطق أمنية داخل حدود الدول، وهو
متغير ينبغي أن يقع في قلب دائرة التركيز السوري.
ما تحتاجه دمشق اليوم هو عدم الاستسلام لمنطق الضعف وفكرة أن التفاوض مع
"إسرائيل" سيلجمها أو سيكف شرها عنها، والرهان على الانفتاح الأمريكي أو
الاحتضان الإقليمي، والاستعاضة عن ذلك -أو ردفه- بفهم المتغيرات الحقيقية والعميقة
في المنطقة والعالم وخصوصا ما يتعلق بدولة الاحتلال. وهو ما يدعو إلى بناء رؤية
واستراتيجية مختلفة، تعتمد أولا على تعريف الذات وتحديد الحلفاء والشركاء والخصوم
والأعداء، ثم بناء استراتيجيات الدفاع والحماية؛ من تقوية الصف الداخلي، إلى بناء
التحالفات العسكرية والأمنية، إلى المسارات الدبلوماسية والقانونية واستثمار
العلاقات للضغط على "إسرائيل" للانسحاب وليس إراحتها من هذا الضغط بوهم
التفاوض والتفاهمات.
أمام دمشق اليوم نموذج السلطة الفلسطينية وما خسرته قضيتها بسبب تيه
المفاوضات من زاوية الضعف والاضطرار، وكذلك نموذج دول عربية باتت تعتمد في غازها
ومائها على الاحتلال الذي يفتح الصنبور ويغلقه لأهداف سياسية تهدد هذه البلاد في
أمنها القومي والغذائي والطاقة. وهناك، في المقابل، النموذج الأفغاني الذي اعتمد
على عناصر القوة الداخلية ولم يقدم تنازلات كبيرة -رغم المرونة والمناورة- ليصل
لبعض خطوات الانفتاح الدولي باعتراف روسيا مؤخرا بحكومة طالبان.
x.com/saidelhaj