تعد فلسطين جوهر
الاختبار الأخلاقي الإنساني وأساس الإيمان الديني الإسلامي في زمن الإبادة الاستعمارية
الغربية
الإسرائيلية، فقد شكل تحرير فلسطين الهدف الأسمى للجهادية العالمية،
واختلفت في مقاربتها حول أولويات العمل بمباشرة قتال إسرائيل أولا أم بقتال العدو
القريب من الأنظمة العربية التي تدعم إسرائيل، أو الذهاب إلى قتال العدو البعيد في
الغرب الذي يرعى إسرائيل بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وقد فشلت القيادة
السورية الجديدة فشلا ذريعا في الاختبار الإيماني والأخلاقي بصورة دراماتيكية
مذهلة، فقد أصبح الحديث عن
التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي يملأ الفضاء القيادي
السوري، ولا تزال مواقف وسلوكيات قيادة "هيئة
تحرير الشام" عقب السيطرة
على
سوريا تحيّر وتربك الخبراء والمختصين، وتثير دهشة القريب والبعيد، فلم تعد
مقاربة الهوية ومداخل الأيديولوجية ومفاهيم الحركة الاجتماعية كافية في تفسير
تحولات حركة سلفية جهادية، وربما يساعد الحد الأوسط "السلفي" في فهم
دوافع سلوك قيادة سوريا الجديدة نحو التطبيع مع إسرائيل.
إن تحولات
"هيئة تحرير الشام" كجماعة سلفية قتالية من الجهاد إلى الثورة فالدولة،
ومن العالمية إلى المحلية وتداخل المعجم الجهادي بالثوري فالدولتي، يشير إلى
إشكالية علاقة السلفية بالسياسة، فالخلط بين منظومة "الخلافة" التقليدية
ومفهوم "الدولة القومية" الحديثة كان له الأثر الأكبر في الانقسامات
والانشقاقات التي تبلورت داخل المجال السلفي خلال العقود السابقة. فهيئة تحرير
الشام لم تتحول إلى قومية دينية بعد الدخول في مراجعة اجتهادية عقائدية كبرى للنأي
بنفسها عن العنف الجهادي المحلي أو العالمي، كما هو حصل مع بعض الجماعات الجهادية
المصرية أو الليبية وغيرهما، بل تحولت عبر مسار براغماتي شاق وعنيف من خلال الخضوع
للإكراهات والقيود التي فرضت عليها سلسلة من التكيفات التكتيكية المتعاقية مع
البيئة السياسية الجيواستراتيجية الدولية والإقليمية المتغيرة، أو المحلية
المتقلبة، حيث شكلت هذه التكيفات المحرك الرئيس لإعادة تموضع سياسي لا يستند إلى
التخلي عن عقيدة قديمة ومباشرة بناء عقيدة جديدة.
ولم يكن ذلك
غريبا، فالارتباط والعلاقة مع السياسة هو من أشد مظاهر السلفية حيرة وإشكالية
ولبسا وتناقضا، إذ يشكل هذا الارتباط الحيرة المركزية في السلفية الحديثة، فالسؤال
المركزي للسلفية هو: كيف تتصرف بشكل غير سياسي في عالم سياسي؟ وقد أفضى البعد
السياسي للسلفية إلى انقسامها، فديناميكية التسييس أفضت إلى تشكل ثلاث فئات سلفية
رئيسة متمايزة أيديولوجيا ومنهجيا أدت إلى التنوع الواسع داخل المجتمع السلفي حد
ممارسة العنف والقتل بين أجنحتها، وهو ما ظهر بوضوح في سوريا خلال سنوات المواجهة
مع نظام الأسد، فالسلفيون تجمعهم طريقة فقهية اتباعية وعقيدة دينية مشتركة في الإلهيات
النظرية، لكنهم مختلفون في الإلهيات العملية وتطبيقها على المشاكل المعاصرة، لا
سيما فيما يخص السياسة، حيث ترتبط الانقسامات بين الفصائل بالتحليل السياقي، وليس
بالإيمان، وهو ما أفضى إلى تشكل ثلاثة فصائل سلفية رئيسية: النقائيون، الذين
يهتمون بشكل أساسي بالحفاظ على نقاء الإسلام من خلال الدعوة والتربية، والسياسيون،
الذين دعوا في ظل تأثير الإخوان المسلمين إلى الانخراط في الشؤون الراهنة للدولة
والمجتمع، والجهاديون، الذين يؤيدون استخدام العنف لإقامة الدولة الإسلامية
ومحاربة الغرب الكافر.
الارتباط والعلاقة مع السياسة هو من أشد مظاهر السلفية حيرة وإشكالية ولبسا وتناقضا، إذ يشكل هذا الارتباط الحيرة المركزية في السلفية الحديثة، فالسؤال المركزي للسلفية هو: كيف تتصرف بشكل غير سياسي في عالم سياسي؟ وقد أفضى البعد السياسي للسلفية إلى انقسامها، فديناميكية التسييس أفضت إلى تشكل ثلاث فئات سلفية رئيسة متمايزة أيديولوجيا ومنهجيا أدت إلى التنوع الواسع داخل المجتمع السلفي حد ممارسة العنف والقتل بين أجنحتها، وهو ما ظهر بوضوح في سوريا خلال سنوات المواجهة مع نظام الأسد
يبقى النقاء
العقدي هو المحدد المركزي للسلفية، فالإسلام حسب السلفية رسالة وليس تاريخا، وهو
جذر وليس شجرة، يحدد بالعودة إلى الجذور والأصول، أما شجرة الإسلام التي تحققت في
التاريخ فهي حوادث وبدع وانحراف عن الأصل الحذر. فحسب السلفية النقاوية، ليست
السياسة في حد ذاتها مهمة، ولكن المهم بالأحرى هو النقاء العقدي الذي يعتبر هو
الأساس للحركة السياسية، وفي الممارسة العملية، إذ يجب التركيز على نبذ البدع
والمحدثات التي تشوه الأصول والجذور كما ظهر في حركة محمد بن عبد الوهاب وتكفير
الدولة العثمانية، وبلغت أوجها مع مبدأ "التصفية والتربية" في الدعوة،
التي تقوم وفقا للألباني على "تنقية العقيدة والتعليم والتربية"، وهو ما
أدى إلى نتائج خطيرة مذهلة.
فمبدأ النقاء
العقدي إذا توبع منطقيا يقود إلى نتائج مرعبة، ففي الحالة الوهابية يصبح التشيع أو
التصوف أخطر على الإسلام من التغرب، لأنه يخل بالنقاء العقدي، وفي التجربة السلفية
الوهابية الحديثة تجد مئات الكتب والرسائل والدراسات في نقض وتبديع وتكفير الشيعة
والصوفية، وأي نظام يساندهما سواء التجربة الإيرانية اللاحقة أو الدولة العثمانية
السابقة، وبهذا فإن خطر الغرب الليبرالي بتحققاته الاستعمارية والإمبريالية
ومنتجاته الصهيونية يعد ثانويا، فهو مجرد مشكل وخطر جيوسياسي لا يخل بالنقاء العقدي،
وبهذا يصيح العداء لإيران الشيعية وتركيا الصوفية أصليا بينما العداء للغرب
وأمريكا وإسرائيل ثانويا، فالأول خطر عقدي والثاني خطر جيوسياسي.
وتعتبر فتوى
الشيخ ابن باز بالصلح مع اليهود نتيجة منطقية، وأشهر نتيجة منطقية للسلفية، هي
فتوى الشيخ الألباني التي يدعو فيها الفلسطينيين إلى مغادرة الضفة الغربية وقطاع
غزة لأنهم لا يستطيعون ممارسة دينهم على الوجه الصحيح تحت الاحتلال الاسرائيلي،
وإذا خُيّر شخص بين أن يحمي العقيدة وبين أن يحمي الأرض فإن العقيدة وفقا لما يقول
الألباني هي التي لها الأولوية والأسبقية.
إن تواتر الحديث
عن التطبيع مع إسرائيل والغرب بين قيادة سوريا الجديدة، هو نتيجة منطقية للسلفية،
فـ"هيئة تحرير الشام"، حددت عدوها بصورة جلية واضحة قبل سقوط نظام آل
الأسد الوحشي الطائفي وبعد سقوطه في سوريا بعد عملية "ردع العدوان"، في
الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، فإيران الشيعية ومحورها تحدد كخطر جيوسياسي
فرعي وخطر أصلي على النقاء العقدي السني السلفي، بينما روسيا التي ساندت نظام
الأسد وحمته لسنوات، وأمريكا التي ساندت الكرد، والغرب وإسرائيل؛ مجرد خطر ثانوي
جيوسياسي، ولذلك لم تحرك القيادة السورية الجديدة ساكنا تجاه الاحتلال والعدوان
الإسرائيلي، الذي قام بشن سلسلة من الهجمات العنيقة على الأراضي السورية، ولم تكتف
تل أبيب بالدخول إلى المنطقة العازلة، بل سيطرت على مرصد وقمة جبل الشيخ
الاستراتيجية، وشنت أكثر من 300 غارة جوية أدت إلى تدمير البنية التحتية العسكرية
التي تركها النظام السوري ومستودعات السلاح والصواريخ الاستراتيجية ومراكز البحث
العلمي والتصنيع العسكري.
لم تحرك قيادة
هيئة تحرير الشام السلفية الجهادية ساكنا عندما أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي
بنيامين نتنياهو في 23 شباط/ فبراير الماضي تحذيرا أشبه بإعلان حرب للإدارة
الجديدة في دمشق، إذ قال: "لن نسمح لقوات النظام السوري الجديد بالانتشار
جنوب دمشق"، وطالب بإخلاء جنوبي سوريا من هذه القوات بشكل كامل، وتزامنت هذه
التصريحات مع سلسلة هجمات واستهدافات عسكرية شنتها إسرائيل في ريف دمشق وجنوبي
سوريا، ولاحقا شنت إسرائيل سلسلة هجمات في 25 شباط/ فبراير الماضي على مواقع
عسكرية في ريف دمشق ودرعا والقنيطرة، كما توغلت برا في بلدات وقرى على الحدود
الإدارية بين المحافظتين. والأمر المذهل بشكل خاص هو أن هذا التحول في السياسة
لصالح إسرائيل حدث أيضا في الوقت الذي تواصل فيه إسرائيل احتلال المزيد من الأراضي
السورية، واحتلال مصادر المياه الرئيسية، وبناء القواعد العسكرية، وتطهير القرى
عرقيا في الجنوب. في حين واجه السوريون المحليون قوات الاحتلال بالحجارة، وفي بعض
الحالات، أطلقوا النار على قوافل عسكرية إسرائيلية، بل أطلقت إحدى المجموعات
صواريخ على مرتفعات الجولان، تجاهلت دمشق دعواتها للرد. بل إن قوات الأمن السورية
الجديدة حاولت الاستيلاء على أسلحة من سوريين في أماكن مثل درعا، واشتبكت معهم.
تسير "هيئة تحرير الشام" حاليا على خطى الأنظمة العربية المطبعة من خلال سلسلة من التكيفات التكتيكية المتتالية مع البيئة الجيوستراتيجية الجديدة أو المحلية. وقد شكلت هذه التكيفات المحرك الرئيسي لإعادة تمركز سياسي لا يستند إلى عقيدة جديدة ومراجعات شرعية عميقة، وهي تتحول بشكل كبير على مراحل متتالية لأسباب مرتبطة إما بالقيود الاستراتيجية التي يفرضها محيطها الإقليمي، أو بالتكيف مع المجتمع المحلي، وهي تتطور نحو إعادة تموقع أيديولوجي سني، إسلامي، محافظ
إن الخضوعية
السياسية للغرب ولصنيعته إسرائيل التي تتبعها القيادة السورية الجديدة تحت غطاء
البراغماتية، لا تتناقض مع وهم النقاء العقدي، فالصورة الكاريكاتورية الأسطورية للهوية
الوطنية السورية الجديدة تستند إلى استعادة الدولة الأموية، حيث تتخيل الأموية
كهوية سنية مناقضة ومعادية وكارهة ومحاربة للشيعة وفروعها، ومتصالحة مع الروم
واليهود والفرس والصليبيين، فالقاعدة التي تقوم عليها السلفية عموما تستند إلى
مبدأ أولوية قتال المرتدين (الشيعة وأمثالهم) على الكافرين الأصليين. وقد فهمت
الولايات المتحدة هذه المعادلة، فعندما التقى القائد العام للإدارة السورية
الجديدة أحمد
الشرع، بوفد دبلوماسي أمريكي رفيع المستوى في دمشق في 20 ديسمبر/
كانون الأول 2024، كانت مسألة الحفاظ على أمن إسرائيل ومحاربة الجماعات الشيعية
والسنية التي تهدد أمن المستعمرة والتي تختزل بتسميتها بالإرهابية؛ هي جوهر البحث
والمداولة، كما أكدت مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى باربرا
ليف عقب اللقاء.
تلخص عبارة "الأعداء
المشتركين" للشرع جوهر السياسة السورية الجديدة، ففي اللقاء الذي جرى في
القصر الرئاسي في دمشق بين الرئيس السوري أحمد الشرع ورجل الأعمال الأمريكي
جوناثان باس، الجمهوري المقرب من ترامب، بحسب ما نشر باس في صحيفة "جويش
جورنال" اليهودية، قال الشرع: إنَّ سوريا و"إسرائيل" لديهما أعداء
مشتركون، وترامب رجل سلام، وإنَّ زمن التفجير والقصف والانتقام بلا داع يجب أن
يتوقف، معبرا عن رغبته بالعودة إلى اتفاق فك الاشتباك لعام 1974. وأضاف الشرع: "أريد
أن أكون واضحا يجب أن ينتهي عصر القصف المتبادل الذي لا ينتهي. لا تزدهر أي دولة
عندما يملأ الخوف سماءها. الحقيقة هي أن لدينا أعداء مشتركين، ويمكننا أن نلعب
دورا رئيسيا في الأمن الإقليمي.
في هذا السياق، لم
تعد المجاهرة بالدعوة إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل سرية ومخجلة، بل تحولت إلى
منقبة وشجاعة تتطلّب جرأة، ولحظة إدراك زائفة تقوم على وهمٍ ساذج بأن التطبيع مع
إسرائيل هو إكسير الحياة وحلّ شاف وكاف لجميع المشكلات والتحديات الداخلية
والخارجية، إذ تُفيد وسائل إعلام إسرائيلية الآن بوجود مناقشات متقدمة بين
القيادتين في دمشق وتل أبيب للتوصل إلى اتفاق تطبيع، والذي تُشير إدارة ترامب أيضا
إلى إمكانية توسيعه ليشمل دولا عربية أخرى، بعد الفشل في استخلاص نتائج من الحرب
على إيران، وسوء تقدير نتائج الحرب على غزة، فالتطبيع بين سوريا وإسرائيل سيكون هو
النصر الأمثل لإسرائيل الذي يعوض الاستنزاف الاستراتيجي.
فالعقيدة السورية
الجديدة للأمن القومي كانت قد تشكلت مبكرا بحصر الخطر على سوريا بإيران ومحورها، فبينما
أدانت جميع دول المنطقة تقريبا الهجوم الإسرائيلي المفاجئ الأخير على إيران،
التزمت سوريا الصمت، ولم تشتكِ حتى للأمم المتحدة من استخدام مجالها الجوي لشن
ضربات ضد الإيرانيين، ومع ذلك، عندما ردّت طهران على قاعدة العديد الجوية
الأمريكية في قطر، سارعت دمشق إلى إدانتها. والأكثر إدانة كانت التقارير الإعلامية
الإسرائيلية، بما فيها القناة 12 العبرية، التي أفادت بأن مسؤولين سوريين أيدوا
استخدام مجالهم الجوي لمهاجمة إيران.
تسير "هيئة
تحرير الشام" حاليا على خطى الأنظمة العربية المطبعة من خلال سلسلة من
التكيفات التكتيكية المتتالية مع البيئة الجيوستراتيجية الجديدة أو المحلية. وقد
شكلت هذه التكيفات المحرك الرئيسي لإعادة تمركز سياسي لا يستند إلى عقيدة جديدة
ومراجعات شرعية عميقة، وهي تتحول بشكل كبير على مراحل متتالية لأسباب مرتبطة إما
بالقيود الاستراتيجية التي يفرضها محيطها الإقليمي، أو بالتكيف مع المجتمع المحلي،
وهي تتطور نحو إعادة تموقع أيديولوجي سني، إسلامي، محافظ، وهو ما يجعل مشكلة قيادة
الهيئة مع قاعدتها الجهادية، الأمر الذي سيؤدي إلى مواجهة مؤجلة مع الأجنحة
المتشددة وهو ما أتقنته الهيئة في كافة مراحل تحولاتها.
فهيئة تحرير
الشام بزعامة أبو محمد الجولاني هي التسمية الأخيرة لجبهة النصرة الأهل الشام
المرتبطة بالقاعدة التي استقرت عليها الحركة الجهادية السلفية السورية منذ كانون
الثاني/ يناير 2017، وقد دخلت الهيئة في سلسلة من التحولات في إطار نزعة براغماتية
حذرة ومحسوبة، حيث قامت بقولبة أيديولوجيتها السلفية وأعادت تحديد أهدافها دون أن
تتخلى عن نهجها الجهادي السلفي. فلا زالت الحركة ملتزمة بتعريف هويتها وتحديد
انتمائها الديني الإسلامي ضمن تيار الحركة السلفية الجهادية وتراث السلفية
وتنوعاتها التاريخية والحديثة والمعاصرة. ففي سياق تحولات الهيئة للتكيّف مع
التطورات التي عصفت بالثورة السورية وتغيّر موازين القوى وتبدل المواقف الإقليمية
والدولية، سعت الهيئة لترسيخ نفسها حركة سلفية محلية للتخلص من تصنيفها منظمة
إرهابية دولية، حيث عملت على تقديم نفسها حركة جهادية سورية محلية بالابتعاد عن نهج
القاعدة العالمي باعتباره يتوافر على أجندة متشددة على الصعيدين الأيديولوجي
والاستراتيجي، وشرعت الهيئة بتقديم نفسها كمجموعة جهادية سلفية محلية معتدلة تقتصر
أهدافها على محاربة النظام السوري وحلفائه على الأرض، من الروس وإيران، دون وجود
أي أجندة جهادية عالمية.
في ظل تخلي معظم
الدول الإقليمية عن دعم الثورة السورية باستثاء تركيا منذ بداية 2017، تحوّل خطاب
هيئة تحرير الشام من تبني الجهاد العالمي إلى التركيز على الشأن المحلي، ولم تعد
تستخدم مصطلحات معجم الجهادية العالمية، حيث اختفت مصطلحات المعجم الجهادي
القاعدي؛ مثل "جهاد الأمة" أو "جهاد الأمة الإسلامية"،
ووتراجع استخدام المعجم الجهادي الطائفي مثل "الجهاد ضد النصيرية" (وهو
مصطلح ازدرائي يستخدمه السلفيون الجهاديون بشكل أساسي لوصف العلويين)، وحلّ مكانها
مصطلحات مختلفة؛ مثل "الجهاد" للدفاع عن الثورة السورية، و"النضال
من أجل حرية الشعب السوري"، لكنها بقيت ملتزمة بما تطلق عليه
"ثوابت" الحركة التي تقوم على "التوحيد" و"الولاء
والبراء" و"حاكميّة الشريعة " و"الكفر بالطاغوت"
و"رفض العملية السياسية الديمقراطية"، ووجوب "إقامة حكم إسلامي
يقوم على الشورى، ومفهوم أهل الحل والعقد".
وفي سياق البرهنة
على اعتدالها، عملت الهيئة بجد للتخلص من تصنيفها حركة إرهابية، في إطار ما أطلقت
عليه "الجهاد والسياسة الشرعية بين الثوابت والمتغيرات"، حيث شرعت بفتح
قنوات للتواصل مع الدول الإقليمية والعالمية، إذ لم تكتف بقطع علاقاتها مع ممثلي
الجهادية العالمية بداية مع تنظيم الدولة عام 2013، ثم تنظيم قاعدة الجهاد عام
2016، واعتبارهما انحرافات عن نهج السلفية الجهادية القويم، بل دخلت معهما في
مناظرات عقدية وفقهية للبرهنة على انحرافهما وخروجهما عن نهج سلف الأمة النقي إلى
نهج الخوارج المارقين من الدين والفرق الضالة المبتدعة، ودخلت مع فروع الجهادية
العالمية في سوريا في صراع دموي مسلح للبرهنة على صحة اعتدالها ووسطيتها وانتمائها
إلى السلفية الجهادية الحقة، وهي تعمل بدون كلل من أجل رفعها من قوائم الإرهاب
العالمية، باعتبارها خطوة لا غنى عنها لإعادة تأهيلها واستدخالها في أي عملية حول
مستقبل سوريا.
تكشف مسارات
تحوّل هيئة تحرير الشام عن الإطار الواسع لمصطلح السلفية عموما والسلفية الجهادية
خصوصا وعن تحققات معنى السلفية التاريخية وتجسداته الواقعية، وتُظهر كيفية تشكُل
مسارات الهيئة آليات عمل السلفية في سياقات زمانية ومكانية مختلفة، حيث تعمل على
تطوير تأويلات وممارسات مجسدة جديدة ضمن التقاليد الخطابية التأسيسية من القرآن
الكريم والحديث النبوي. فقبل الكشف عن هويته الحقيقية والإعلان عن قطع العلاقات مع
القاعدة في تموز/ يوليو 2016، كان أمير جبهة النصرة، "الفاتح" أبو محمد
الجولاني، حريصا دائما على التحدث بثقة عند سؤاله عن حياته، واعتزازه بالعلاقة مع
القاعدة، فقد ارتدى الزي الأفغاني الدال على الجهادية العالمية، وارتدى زيا شاميا
تقليديا متواضعا، مما يُظهر إحساسا بالانتماء المحلي والزهد، لكن الأمور تغيرت منذ
ذلك الحين، عندما أصبح الانتماء إلى القاعدة عبئا، إذ غيّر "الفاتح"
لقبه إلى مجرد "زعيم"، وبدأ يرتدي بدلة رسمية على الطراز الغربي، لكن
تبدّل ولاءات الجولاني وقولبة أيديولوجيته وتغيير ممارساته وسلوكياته لم تخرج عن
معنى السلفية في حقيقة الأمر.
يشير مسار قيادة
الهيئة إلى سهولة الدخول في مسار التطبيع، وقد أفادت معظم وسائل الإعلام
الإسرائيلية بأن المحادثات بين سوريا وإسرائيل بلغت مرحلة متقدمة. حتى أن صحيفة
يديعوت أحرونوت أفادت، نقلا عن مصادرها، بأن اتفاق التطبيع المطروح سيتضمن اعترافا
سوريا رسميا بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان المحتلة بشكل غير قانوني.
وقد كشف رئيس "مجلس الأمن القومي" الإسرائيلي تساحي هنغبي، عن وجود حوار
مباشر ويومي بين "إسرائيل" والحكومة السورية الجديدة، بحسب صحيفة
"إسرائيل اليوم"، وأشار هنغبي، خلال جلسة مغلقة للجنة
الخارجية والأمن في الكنيست، إلى أن المحادثات تشمل التنسيق السياسي والأمني، وتتم
بإشرافه الشخصي، كجزء من جهود التطبيع المحتملة بين الجانبين. وبحسب هنغبي، فإن
سوريا ولبنان هما حاليا أقرب الدول الإقليمية لتطبيع العلاقات مع الاحتلال
الإسرائيلي، مؤكدا تقارير إعلامية سابقة عن قنوات اتصال أنشئت حديثا مع دمشق.
وكان الشرع زعم
في وقت سابق أن سوريا والاحتلال الإسرائيلي "لديهما أعداء مشتركون"،
ودعا إلى إنهاء ما أسماه "التفجيرات الانتقامية"، وشدد على ضرورة
الاستقرار الإقليمي من خلال التعاون، كما أعرب عن رغبته في العودة إلى اتفاق فك
الاشتباك لعام 1974 بين سوريا و"إسرائيل"، ليس فقط كخط لوقف إطلاق
النار، بل كمنصة "لضبط النفس المتبادل وحماية المدنيين"، مدعيا أن هذا
الإطار يمكن أن يضمن السلامة، وخاصة للمجتمعات الدرزية في جنوب سوريا ومرتفعات
الجولان السورية المحتلة. وكما أشار باتريم هايني، نحن أمام نقلة نوعية، حيث يتم
طوي صفحة الإرهاب، والمراهنة على الأغلبية الصامتة لتعزيز السلطة في الداخل
والقضاء على ما تبقى من الأقلية الراديكالية، وأيضا للتموقع كبديل وطني. عندما
انفتح الشرع على الأقليات المسيحية والدرزية، وعلى عكس الكثير مما قيل من قبل
المعلقين، لم يكن هدفه مغازلة الغرب بقدر ما كان توجيه رسالة إلى البلاد مفادها
أنه بديل ذو بعد وطني وليس مجرد قائد متمرد.
إن سرعة رفع
العقوبات الأمريكية عن سوريا كان ثمنه الالتزام بالتطبيع مع إسرائيل والانخراط في
مواجهة "الأعداء المشتركين"، وكان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد حثّ
الرئيس السوري على الانضمام إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، وصرّح الرئيس الأمريكي
دونالد ترامب في 14 أيار/ مايو الماضي بأنه حثّ الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع
على الانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم خلال اجتماع قصير بينهما في المملكة العربية
السعودية. كما ورد أن ترامب طلب من الشرع "ترحيل الإرهابيين
الفلسطينيين" من سوريا وتولي إدارة مخيمات تضمّ إرهابيي داعش المعتقلين.
وجاءت تصريحاته بعد أن أعلنت الولايات المتحدة أنها سترفع العقوبات عن الحكومة
السورية الجديدة، وهو ما يُعدّ اعترافا فعليا بقيادة الشرع.
لقد أعرب الزعيم
السوري أحمد الشرع بشكل واضح عن انفتاحه على الانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم وتطبيع
العلاقات مع إسرائيل، وفقا لاثنين من أعضاء الكونجرس الذين التقيا به في نيسان/
أبريل الماضي، وفي المقابل، أراد الشرع ضمانات بأن إسرائيل ستتوقف عن قصف سوريا،
وتتوقف عن تأجيج الانقسامات الطائفية، وتتوصل إلى اتفاق متفاوض عليه بشأن مرتفعات
الجولان، حسبما قال النائبان كوري ميلز (جمهوري من فلوريدا) ومارتن ستوتزمان
(جمهوري من إنديانا) لصحيفة واشنطن بوست. وقال الشرع: "نحن منفتحون ليس فقط
على الاعتراف بإسرائيل، ولكن أيضا على محاولة الانضمام إلى اتفاقيات إبراهيم، ولكن
يجب عليهم التوقف عن القصف داخل أمتنا"، كما روى ميلز.
وجود كيان حكم سني حقيقي يشكل كارثة وخطرا ينذر بولادة تحالف سني أكبر يؤدي إلى عودة وإحياء الإسلام السياسي السني، الذي تخشى الولايات المتحدة من تداعيات انتشاره على أمن الكيان الإسرائيلي وخطورته على أمن المنطقة. ولذلك لن تفلح تطمينات النظام الجديد في سوريا
وعندما التقى
وزير الخارجية الأمريكي ومستشار الأمن القومي المؤقت، ماركو روبيو، بوزير الخارجية
السوري حسن الشيباني في 15 أيار/ مايو الماضي، رحب بتقارير المحادثات بين دمشق
والقدس. وصرحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية، تامي بروس، بأن روبيو
"أكد دعم الولايات المتحدة لتخفيف العقوبات لتحقيق الاستقرار في سوريا. ورحب
بدعوات الحكومة السورية للسلام مع إسرائيل، والجهود المبذولة لإنهاء النفوذ
الإيراني في سوريا، والالتزام بالكشف عن مصير المواطنين الأمريكيين المفقودين أو
القتلى في سوريا، والقضاء على جميع الأسلحة الكيميائية".
المطالبات
الأمريكية من سوريا الجديدة بقيادة هيئة تحرير الشام واضحة، وقد كشفت الناطقة باسم
البيت الأبيض كارولين ليفيت هذه المطالب (الإملاءات)، في تغريدة على موقع اكس: أولا: التوقيع على اتفاقيات إبراهيم مع
إسرائيل، ثانيا: مطالبة جميع الإرهابيين الأجانب بمغادرة سوريا، ثالثا: ترحيل
"الإرهابيين" الفلسطينيين، رابعا: مساعدة الولايات المتحدة على منع عودة
داعش، وخامسا: تحمل مسؤولية مراكز احتجاز داعش في شمال شرق سوريا. وذكرت ليفيت بأن الشرع ردّ بشكر
"ترامب وولي العهد السعودي والرئيس أردوغان على جهودهم في تنظيم الاجتماع،
وأقرّ بالفرصة المهمة التي أتاحها انسحاب الإيرانيين من سوريا، بالإضافة إلى
المصالح الأمريكية السورية المشتركة في مكافحة الإرهاب والقضاء على الأسلحة
الكيميائية. وأكد الرئيس الشرع التزامه باتفاق فض الاشتباك مع إسرائيل لعام 1974. واختتم
الرئيس الشرع كلمته معربا عن أمله في أن تكون سوريا حلقة وصل أساسية في تسهيل
التجارة بين الشرق والغرب، ودعا الشركات الأمريكية إلى الاستثمار في النفط والغاز
السوريين.
خلاصة القول أن
سوريا الجديدة رهن تحولات هيئة تحرير الشام وتصوراتها السلفية حول أولوية النقاء
العقدي والمخاطر الجيوسياسية، وتلخص مقولة "الأعداء المشتركين" جوهر
عقيدة الأمن القومي السوري الناشئة، وعلى خلاف وهم النقاء وتصورات الذات سوف تبقى
سوريا تحت وطأة التصورات التي تحددها المستعمرة الصهيونية، والتي تصادق عليها
الولايات المتحدة دون قيود. وتتجلى الرؤية الإسرائيلية بوجود دولة سورية هشة
وضعيفة ومفككة ودون وجود سلطة مركزية قوية، وهي رؤية تستند إلى مقاربة استعمارية
تقليدية تقوم على مبدأ "فرق تسد" من خلال التلاعب بالمكونات الإثنية
العرقية والدينية الطائفية.
فوجود كيان حكم
سني حقيقي يشكل كارثة وخطرا ينذر بولادة تحالف سني أكبر يؤدي إلى عودة وإحياء
الإسلام السياسي السني، الذي تخشى الولايات المتحدة من تداعيات انتشاره على أمن
الكيان الإسرائيلي وخطورته على أمن المنطقة. ولذلك
لن تفلح تطمينات النظام الجديد في سوريا، وسوف يبقى تحت وطأة التصنيفات الأدائية
السياسية للإرهاب، وسوف تبقى الإدارة الأمريكية مخلصة في تأمين وجود ومصالح
الاستعمار الصهيوني في المنطقة، وتلبية المتطلبات الإسرائيلية الأمنية والسياسية.
ومهما قولبت "هيئة تحرير الشام" من أيديولوجيتها وبعثت برسائل تطمينية
للعالم ودول المنطقة، لن تحصل على الرضى والقبول الأمريكي الإسرائيلي، وسوف تبقى
تحت وطأة الضغوطات والتخريب بذريعة "الإرهاب"، ولن ترضى الإدارة
الأمريكية والإسرائيلية عن الحكم الجديد دون شرط الخضوع التام، وهو ما يؤذن ببقاء
سوريا هشة وعرضة للانقسام والتشظي، وتنذر بصعود إسلام سياسي وقومي تقوم كينونته
على أسس إبستمولوجية وجيوسياسية مناهضة للغرب الإمبريالي والاستعمارية الصهيونية.
x.com/hasanabuhanya