أثارت تدوينة السيد منجي الخضراوي الكاتب
العام السابق للنقابة الوطنية للصحفيين
التونسيين والمستشار الإعلامي سابقا في
رئاسة الحكومة جدلا واسعا في مواقع التواصل الاجتماعي. وهي تدوينة اعترف فيها بأنّ
أفضل أيام حرية الصحافة كانت "زمن حكم الخوانجية" ـ أي حركة النهضة ـ،
وهو اعتراف لم يجد قبولا حسنا عند الأغلب الأعم ممن يسميهم "الخوانجية"
ومن يشترك معهم في المرجعية اليسارية على حد سواء. فالنهضويون والقريبون منهم
أرادوا منه الاعتذار أو تقديم نقد ذاتي لأداء الصحافة ما قبل "تصحيح
المسار"، أما اليساريون ـ ومن ينتسبون إلى ما يسمى بـ "القوى
الحداثية" عموما ـ فقد اعتبروا تدوينته خيانة للسردية اليسارية وتبييضا
"للخوانجية".
ولا تعنينا تدوينة السيد الخضراوي في هذا
المقال إلا باعتبارها مدخلا جيدا لطرح سؤال ينتمي إلى دائرة "اللا مفكر
فيه" في السجال العمومي التونسي: هل يعكس ترتيب تونس في التقرير السنوي لحرية
الصحافة الذي تصدره منظمة "مراسلون بلا حدود" حرية حقيقية للإعلام خلال
مرحلة "الانتقال الديمقراطي" وما بعدها؟
في الظاهر، قد يبدو أن طرح هذا السؤال هو
ضرب من السباحة ضد التيار. فأغلب التونسيين مجمعون على تدهور
الحريات –بما فيها
حرية الإعلام- وهو ما تشهد عليه التقارير المحلية والأجنبية، خاصةً بعد صدور
المرسوم عدد 54 المؤرخ في 13 سبتمبر/أيلول 2022. ففي سنة 2024 احتلت تونس المرتبة
118 من بين 180 دولة، وكانت قد احتلت المرتبة 121 سنة 2023 ، المرتبة 94 سنة 2022،
أما سنة اتخاذ الرئيس لإجراءاته "التصحيحية" يوم 25 يوليو ـ أي سنة 2021
ـ فقد احتلت تونس المرتبة 73 في مؤشر
حرية الصحافة عالميا.
إننا نذهب إلى أن معايير التصنيف التي تشير إلى تحسن الحريات الصحفية في تونس بعد الثورة ـ وقبل تصحيح المسار ـ لا تعكس الواقع الكلّي في تعقيداته التي قد لا تحيط بها المؤشرات الكمية والنوعية.
ولا شك في أن هذا المسار الانحداري للحريات
الصحفية ـ حسب محددات التصنيف المعتمدة من لدن منظمة مراسلون بلا حدود ـ سيكون
أكبر شاهد على صدق تدوينة السيد منجي الخضراوي وغيره، إذا ما قورن بترتيب تونس
خلال "مرحلة الانتقال الديمقراطي"، تلك المرحلة التي مازال الكثير من
"الحداثيين" يصرّون على وصفها بمرحلة حكم "الخوانجية" أو
"منظومة النهضة" سواء خلال مرحلة "الترويكا" أو خلال مرحلة
"التوافق" بين حركة نداء تونس وحركة النهضة.
تُعرّف منظمة مراسلون بلا حدود حرية الصحافة
بأنها "الإمكانية الفعلية للصحفيين، بشكل فردي وجماعي، لاختيار وإنتاج ونشر
المعلومات التي تصب في المصلحة العامة، وذلك في استقلال عن التدخل السياسي
والاقتصادي والقانوني والاجتماعي، ودون أي تهديدات ضد سلامتهم الجسدية
والعقلية"، كما يشير موقع المنظمة إلى أن استبياناتها تتمحور حول "خمسة
أقسام منفصلة أو خمسة مؤشرات: السياق السياسي والإطار القانوني والسياق الاقتصادي
والسياق الاجتماعي والثقافي والسياق الأمني"، حيث يتم التصنيف بناءً على
حصيلة كمية ترتبط بالانتهاكات ضد الصحفيين والمؤسسات الإعلامية، وحصيلة نوعية
تحددها إجابات الخبراء والمتدخلين في المجال الإعلامي (صحفيون، باحثون، أكاديميون،
مدافعون عن حقوق الانسان الخ).
بصرف النظر عن الطابع المعياري لتعريف حرية
الصحافة الوارد أعلاه ـ فهو يفترض استقلالية متعالية عن أي تدخل سياسي واقتصادي
وقانوني واجتماعي، الأمرُ الذي يمكن التسليم به ـ، فإننا نذهب إلى أن معايير
التصنيف التي تشير إلى تحسن الحريات الصحفية في تونس بعد الثورة ـ وقبل تصحيح
المسار ـ لا تعكس الواقع الكلّي في تعقيداته التي قد لا تحيط بها المؤشرات الكمية
والنوعية. ففي مرحلة التأسيس ومن بعدها مرحلة الترويكا، لم يستطع وجود حركة النهضة
في مركز الحقل السياسي ولا كل الترسانة التشريعية المنظمة للعمل الصحفي أن يغيّرا
من واقع المشهد الإعلامي ـ العمومي والخاص ـ في ارتباطاته التاريخية والعضوية
بالمنظومة الاستعمار الداخلي ـ أي بالمركّب الجهوي ـ المالي ـ الأمني وأذرعه
الإيديولوجية الوظيفية ـ.
وكانت "حرية الصحافة" مرتبطة
أساسا بقدرة الإعلاميين اللامشروطة على انتقاد حركة النهضة وحلفائها دون خشية من
المساءلة القانونية أو المعاقبة من لدن "الهايكا" باعتبارها الهيئة
المكلفة دستوريا بتعديل المشهد الإعلامي وتنظيمه. وهي معاملة "تفضيلية"
لم يتمتع بها المنابر الإعلامية المحسوبة على حركة النهضة أو المنتمية للإعلام
البديل، أي لذلك الإعلام الذي يحاول كسر هيمنة النخب الإعلامية التقليدية ومن يقف
وراءها في الدولة وفي عالم المال.
في ظل ارتباط الأغلب الأعم لخطوط التحرير
المعتمدة في وسائل الإعلام العمومية والخاصة بالدولة العميقة وواجهاتها السياسية
بعد الثورة، كان من الطبيعي أن تعكس استبيانات "مراسلون بلا حدود" تحسنا
لمؤشرات حرية الصحافة. فأغلب الصحفيين كانوا فعلا ينشرون معلومات "تصب في
المصلحة العامة" من منظور "النخب الوظيفية"، أي من منظور أولئك
"الخبراء" و"الحقوقيين" و"الأكاديميين" الذين
ستعتمد المنظمة شهاداتهم لبناء تصنيفاتها.
لا يعكس التصنيف الدولي لحرية الإعلام في تونس وجود حرية إعلامية حقيقية ترتبط بالانحياز للحقيقة أو لبناء المشترك المواطني أو " في استقلال عن التدخل السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي" بقدر ما يعكس وجود نوع من التعامد الوظيفي بين الإعلام ومنظومة الاستعمار الداخلي خلال "مرحلة الانتقال الديمقراطي".
أما من الناحية الكمية، فإن الخيار
الاستراتيجي لحركة النهضة في التطبيع مع المنظومة القديمة وتجاوز منطق البديل إلى
منطق الشريك، كل ذلك قد جعلها تمتنع عن التضييق على الصحفيين أو تتبعهم قضائيا،
مما قلّل من "الانتهاكات" في حق الصحفيين والمؤسسات الإعلامية. ومن جهة
"الهايكا" (الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري) فقد حرصت ـ بتركيبتها
المطبّعة مع ورثة المنظومة القديمة وحلفائها ـ بالتوازي مع معاملتها التفضيلية
للصحفيين والمؤسسات الخادمة للدولة العميقة على انتهاج منطق التضييق الممنهج على
المنابر الإعلامية المغرّدة خارج سرب "النمط المجتمعي التونسي" وأساطيره
التأسيسية. وبحكم قلة هذه المنابر وعدم حيازتها لحزام من الخبراء والحقوقيين
والأكاديميين، فإن التضييقات التي تعرّضت لها لم تكن لتؤثر في مؤشرات التصنيف
الدولي لحرية الإعلام في تونس.
إن قلة التضييقات على العمل الإعلامي خلال
مرحلة "التوافق" ـ بل منذ هروب المخلوع ـ لم تكن مرتبطة بوجود حرية
إعلامية حقيقية تعكس الانحياز للحقيقة ولمن هم أسفل، أو تعكس اندراجا مبدئيا في
بناء المشترك المواطني، بقدر ما تعكس انتفاء الحاجة السلطوية إلى اعتماد منطق
"العصا" بحكم نجاح منطق "الجزرة" إلا في حالات نادرة ومعزولة.
فالدولة العميقة ـ أي منظومة الاستعمار الداخلي ـ كانت تسيطر على أغلب الخطوط
التحريرية للإعلام العمومي والخاص، وكانت تحتاج لشرعنة أذرعها السياسية والمدنية
والنقابية وغيرها إلى مناخ "صوري" ومراقب جيدا من الحريات التي لا تهدد
نواتها الصلبة. فلو أردنا استقراء مضامين الحرية قبل "تصحيح المسار"
فإننا سنجدها تكاد تنحصر في حرية انتقاد المقدس الديني وانتقاد حركة النهضة ومن
طبّع معها من الفاعلين الاجتماعيين. وذلك لا ينفي وجود أصوات هامشية حاولت الدفع
بالحرية إلى مدارات تقلق الدولة العميقة من مثل الاقتصاد الريعي والخيارات الجهوية
للسلطة وعلاقاتها اللامتكافئة مع الخارج في مستوى التبادل المادي والرمزي. ولكنها
أصوات مهمشة وغير قادرة على تشكيل
رأي عام ولذلك لم يكن التعامل معها محوجا إلى
تضييقات أمنية أو تدخلات "تعديلية" من لدن الهايكا.
لو أردنا اختصار ما تقدم في جملة واحدة
فإننا سنقول: لا يعكس التصنيف الدولي لحرية الإعلام في تونس وجود حرية إعلامية
حقيقية ترتبط بالانحياز للحقيقة أو لبناء المشترك المواطني أو " في استقلال
عن التدخل السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي" بقدر ما يعكس وجود نوع
من التعامد الوظيفي بين الإعلام ومنظومة الاستعمار الداخلي خلال "مرحلة
الانتقال الديمقراطي". وهو تعامد مازال مستمرا إلى حدود هذه اللحظة لكن من
منظور جديد. فإذا كانت مرحلة "التوافق" مثلا تقتضي توظيف الرأسمال
اليساري الوظيفي في خدمة استراتيجيات إعادة التموضع والانتشار مع ترك
"هامش" من الاستقلالية التي توفر للعديد من الإعلاميين "امتيازات
السلطة وشرف المعارضة"، فإن سردية "تصحيح المسار" تقتضي الدفع
بهؤلاء إلى الهامش وإعادة هندسة المشهد الإعلامي تشريعيا وبشريا. فـ "تصحيح
المسار" يقوم "نظريا" على "التأسيس الثوري الجديد" وعلى
القطع مع الماضي ورموزه، ولكنه "واقعيا" يقوم على الاستعانة بوجوه جديدة
من المنظومة القديمة وأذرعها الوظيفية، وهو ما يعني انتفاء الحاجة إلى أغلب
الوظيفيين ـ في مختلف القطاعات بما فيها الإعلام ـ، أي انتفاء الحاجة لأولئك الذين
سيطروا على عشرية الانتقال الديمقراطي. وهو خيار سلطوي ضروري لتصعيد "نخب
بديلة" هي بدورها نخب غلبت عليها "السياحة الحزبية" زمن الانتقال
الديمقراطي ومطبّعة مع الدولة العميقة مما يجعلها قابلة للتوظيف والتدجين.
إن ما يُسمّى تراجعا في حرية الإعلام ليس في الحقيقة إلا تغيرا في استراتيجيات النواة الصلبة للحكم في التعامل مع الإعلام تبعا لاحتياجاتها ومصالحها "الوجودية".
إذا كنا من الناحية "الصورية" أو
الجزئية لا نستطيع التشكيك في تصنيفات "مراسلون بلا حدود"، فإن اعتماد
الجانب "المضموني" واستحضار علاقة الإعلام باستراتيجيات الدولة العميقة
خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي وما بعدها سيجعل تلك التصنيفات محل مساءلة نقدية
وذات قيمة تحليلية محدودة. ومن هذا المنظور فإن "الحريات الصحافية" لم
تكن حريات حقيقية تتحرك ضد المنظومة السلطوية ونواتها الصلبة أو تساهم في ترسيخ
الانتقال الديمقراطي سياسيا واقتصاديا، بقدر ما كانت تعبيرا عن الاحتياجات المؤقتة/السياقية
للنواة الصلبة لتلك المنظومة في صراعها ضد حركة النهضة وضد تغيير المعادلات
المتحكمة في إنتاج السلطة وتوزيع الثروة.
ختاما، فإن ما يُسمّى تراجعا في حرية
الإعلام ليس في الحقيقة إلا تغيرا في استراتيجيات النواة الصلبة للحكم في التعامل
مع الإعلام تبعا لاحتياجاتها ومصالحها "الوجودية". فلا النهضة كانت تحمي
الحريات الإعلامية "زمن حكم الخوانجية"، ولا الصحفيين كانوا هم من يحمي
حريتهم زمن "التوافق"، ولا هم قادرون الآن على حمايتها زمن "تصحيح
المسار. فتلك "الحرية" كانت ومازالت هامشا موكولا لتقديرات الدولة
العميقة واحتياجات النواة الصلبة للحكم، ولم تكن يوما مكسبا راسخا وغير قابل للسحب
من لدن السلطة. وهو أمر ليس من مصلحة أغلب
المتدخلين في الشأن الإعلامي أن يواجهوه دون مجاز. فمواجهته تعني تجاوز الاصطفافات
الهوياتية والقيام بنقد ذاتي جذري يتجاوز منطق التبرير والادعاءات الذاتية. ولكنّ
ذلك كله أمر مستبعد في المدى المنظور سواء من جهة اليسار أومن جهة اليمين.